فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مر أنزل الله سبحانه :

{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا ( 37 )

{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } هو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أعتقه من الرق ، وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه ، وسيأتي في سبب نزول الآية ما يوضح المراد منها . قال القرطبي وقد اختلف في تأويل هذه الآية فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير والطبري وغيره : إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش ، وهي في عصمة زيد وكان حريصا على أن يطلقها زيد . فيتزوجها هو .

ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها وشكا منها غلظة القول وعصيان الأمر والأذى باللسان والتعظم بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك زينب ، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها . وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه فعل ما يجب عليه من الأمر بالمعروف . قال علماؤنا رحمهم الله : وهذا القول أحسن ما قيل في هذه الآية وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كالزهري والقاضي أبي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم ، انتهى ما قاله القرطبي ملخصا .

{ واتَّقِ اللهَ } في أمرها ولا تعجل بطلاقها { وَتُخْفِي } الواو للحال أي والحال أنك تخفي { في نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ } هو نكاحها إن طلقها زيد ، وقيل : حبها .

{ وَتَخْشَى النَّاسَ } أي تستحييهم أو تخاف من تعييرهم أن يقولوا : أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها { وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } في كل حال وتخاف منه وتستحييه ولا تأمر زيدا بإمساكه زوجته بعد أن أعلمك الله أنها تكون زوجتك فعاتبه الله على هذا ، قال بعضهم : وما ذكروه في تفسير هذه الآية من وقوع محبتها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإرادته طلاق زيد لها فيه أعظم الحرج ، وما لا يليق بمنصبه صلى الله عليه وسلم وإقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي صلى الله عليه وسلم وبفضله ، وكيف يقال : رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كانت النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم وهو زوجها لزيد ، فلا يشك في تنزيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها قال : وأصح ما في هذا الباب ما قاله علي ابن الحسين : إن الله قد اعلمه أنها ستكون من أزواجه ، وإن زيدا سيطلقها ؛ فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها ، قال له : أمسك عليك زوجك ، فعاتبه الله تعالى ، وقال : لم قلت أمسك عليك زوجك ؟ وقد أعلمتك أنها ستكون زوجتك .

قال الخطيب : وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة ، لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ، ولم يظهر غير تزويجها منه ، فقال تعالى : زوجناكها . فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك ؛ لأنه لا يجوز أن يخبر الله أنه يظهره ، ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله من أنها ستكون زوجته ، وإنما ذلك استحياء أن يخبر زيدا أن التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي .

قال الكرخي : وهذا القول هو المنصور المعول عليه عند الجمهور .

وقال البغوي : وهذا هو الأولى ، وإن كان الآخر – وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها – لا يقدح في حال الأنبياء ، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ، ما لم يقصد فيه المأثم لأن الود وميل النفس من طبع البشر انتهى . ولهذا قال ابن عباس : كان في قلبه حبها . وقال قتادة : ود أنه لو طلقها زيد . قال الخازن : وهذا القول حسن مرضي ، وكم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس عليه وهو في نفسه مباح متسع ، وحلال مطلق ، لا مقال فيه ولا عيب عند الله ، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ، وهو إنما جعل طلاق زيد لها وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها ، لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال تعالى : { لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } .

{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا } قضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء يقال قضى وطرا منه إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه ، والمراد هنا أنه قضى وطره منها بنكاحها والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة ، وتقاصرت عنه همته وطابت عنها نفسه . وقيل المراد به الطلاق لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة . وقال المبرد : الوطر الشهوة والمحبة .

وقال أبو عبيدة الوطر الأرب والحاجة . قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي : كان يقال زيد بن محمد . حتى نزل ( أدعوهم لآبائهم ) فقال : أنا زيد بن حارثة وحرم عليه أنا زيد بن محمد . فلما نزع هذا الشرف وهذا الفخر منه ، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يختص بها أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه سماه في القرآن أي في هذه الآية ، فذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم ، حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب ، ونوه به غاية التنويه ، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ألا ترى إلى قول أبي بن كعب ؟ حين قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا فبكى ) وقال : أذكرت هنالك ، وكان بكاؤه من الفرح – حيث أن الله تعالى ذكره فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدا لا يبلى ؟ يتلوه أهل الدنيا إذا قرأوا القرآن ، وأهل الجنة كذلك أبدا لا يزال على ألسنة المؤمنين ، كما لم يزل مذكورا على الخصوص عند رب العالمين ، إذ القرآن كلام الله القديم ، وهو باق لا يبيد فاسم زيد في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة يذكره في تلاوتهم السفرة الكرام البررة ، وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء ولزيد بن حارثة تعويضا من الله له مما نزع منه ، وزاد في الآية أن قال : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } أي بالإيمان فدل على أنه من أهل الجنة علم ذلك قبل أن يموت وهذه فضيلة أخرى رضي الله تعالى عنه انتهى .

{ زَوَّجْنَاكَهَا } وقرئ زوجتكها ، يعني ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفا لك ولها ، فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقرير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته ، وهذا من خصوصياته ( صلى الله عليه وسلم ) التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع المسلمين ، وكان تزوجه بزينب سنة خمس من الهجرة .

وقيل سنة ثلاث وهي أول من مات بعده من زوجاته الشريفات المطهرات ماتت بعده بعشر سنين عن ثلاث وخمسين سنة ، وقيل المراد به الأمر له بأن يتزوجها والأول أولى وبه جاءت الأخبار الصحيحة .

وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال : ( جاء زيد ابن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اتق الله وامسك عليك زوجك ، فنزلت : وتخفي في نفسك ما الله مبديه فتزوجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛فما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ؛ ذبح شاة وأطعم الناس خبزا ولحما حتى تركوه ، فكانت تفتخر على أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات ، وكانت تقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جدي وجدك واحد ، وليس من نسائك من هي كذلك غيري ، وقد أنكحنيك الله والسفير في ذلك جبريل ) قاله الخازن .

وقال عمر وابن مسعود ما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية هي أشد عليه من هذه الآية . وقال أنس : فلو كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كاتما شيئا لكتم هذه الآية ، وكذا روي عن عائشة .

{ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ } أي ضيق ومشقة ، علة للتزويج ، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل { فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } أي في التزوج بأزواج من يجعلونه ابنا كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا يتبنون من يريدون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة وكان يقال زيد بن محمد حتى نزول قوله سبحانه { أدعوهم لآبائهم } وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليهم نساء من تبنوه كما يحرم عليهم نساء أبنائهم حقيقة ، والأدعياء جمع دعي ؛ وهو الذي يدعى ابنا من غير أن يكون ابنا على الحقيقة ، فأخبرهم الله أن نساء الأدعياء حلال لهم .

{ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم على أبيه بنفس العقد عليها .

{ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا } أي قضاؤه في أمر زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء ماضيا موجودا في الخارج لا محالة .

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب قالوا تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله وخاتم النبيين } . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير ، فلبث حتى صار رجلا يقال له : زيد بن محمد ؛ فأنزل الله { أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } يعني أعدل أخرجه الترمذي وصححه وابن جرير وابن منذر والطبراني وغيرهم .

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : اذهب فاذكرها علي فانطلق . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري ؛ فقلت : يا زينب أبشري . أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤآمر ربي . فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليها بغير إذن ، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أطعمنا الخبز واللحم ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ، ويلقن يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر ، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية ، ثم بين سبحانه أنه لم يكن على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرج في هذا النكاح فقال : { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ }