فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

لما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مرّ في تفسير الآية التي قبل هذه أنزل الله سبحانه : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } أي واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه وهو زيد بن حارثة ، أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أعتقه من الرق ، وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه ، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية في آخر البحث ما يوضح المراد منها . قال القرطبي : وقد اختلف في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد ، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوّجها هو ، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له : «اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك » ، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها ، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف . انتهى . { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } يعني زينب { واتق الله } في أمرها ، ولا تعجل بطلاقها { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } وهو نكاحها إن طلقها زيد . وقيل : حبها { وَتَخْشَى الناس } أي تستحييهم ، أو تخاف من تعبيرهم بأن يقولوا أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوّجها { والله أَحَقُّ أَن تخشاه } في كل حال وتخاف منه وتستحييه والواو للحال ، أي تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس . { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً } قضاء الوطر في اللغة : بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء ، يقال : قضى وطرا منه : إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :

أيها الرائح المجدّ ابتكارا *** قد قضى من تهامة الأوطارا

أي فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه . والمراد هنا : أنه قضى وطره منها بنكاحها والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة . وقيل : المراد به : الطلاق ؛ لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة . وقال المبرد : الوطر : الشهوة والمحبة ، وأنشد :

وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما *** قضى وطراً منها جميل بن معمر

وقال أبو عبيدة : الوطر : الأرب والحاجة ، وأنشد قول الفزاري :

ودّعنا قبل أن نودّعه *** لما قضى من شبابنا وطرا

قرأ الجمهور { زوجناكها } وقرأ علي وابناه الحسن والحسين زوّجتكها فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته .

وقيل : المراد به . الأمر له بأن يتزوّجها . والأوّل أولى ، وبه جاءت الأخبار الصحيحة . ثم علل سبحانه ذلك بقوله : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } أي ضيق ومشقة { فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } أي في التزوّج بأزواج من يجعلونه ابناً كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا يتبنون من يريدون ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة ، فكان يقال : زيد بن محمد ، حتى نزل قوله سبحانه { ادعوهم لآبَائِهِمْ } وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليه نساء من تبنوه ، كما تحرم عليه نساء أبنائهم حقيقة . والأدعياء حلال لهم { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } بخلاف ابن الصلب ، فإن امرأته تحرّم على أبيه بنفس العقد عليها { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء ماضياً مفعولاً لا محالة .

/خ40