قوله تعالى : { قالوا أوذينا } ، قال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، فقالوا يعني قوم موسى : إنا أوذينا .
قوله تعالى : { من قبل أن تأتينا } ، بالرسالة بقتل الأبناء .
قوله تعالى : { ومن بعد ما جئتنا } ، بإعادة القتل علينا ، وقيل : المراد منه أن فرعون كان يستسخرهم قبل مجيء موسى إلى نصف النهار ، فلما جاء موسى استسخرهم جميع النهار بلا أجر ، وذكر الكلبي أنهم كانوا يضربون له اللبن بطين فرعون ، فلما جاء موسى أجبرهم أن يضربوه بطين من عندهم .
قوله تعالى : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } ، فرعون .
قوله تعالى : { ويستخلفكم في الأرض } ، أي يسكنكم أرض مصر من بعدهم .
قوله تعالى : { فينظر كيف تعملون } ، فحقق الله ذلك بإغراق فرعون واستخلافهم في ديارهم وأموالهم فعبدوا العجل .
{ قَالُوا } لموسى متضجرين من طول ما مكثوا في عذاب فرعون ، وأذيته : { أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا } فإنهم يسوموننا سوء العذاب ، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا { وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } كذلك ف { قَالَ } لهم موسى مرجيا [ لهم ]{[326]} الفرج والخلاص من شرهم : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ } أي : يمكنكم فيها ، ويجعل لكم التدبير فيها { فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } هل تشكرون أم تكفرون ؟ . وهذا وعد أنجزه اللّه لما جاء الوقت الذي أراده اللّه .
قال اللّه تعالى في بيان ما عامل به آل فرعون في هذه المدة الأخيرة ، أنها على عادته وسنته في الأمم ، أن يأخذهم بالبأساء والضراء ، لعلهم يضرعون .
لقد كان ردهم يدل على سفاهتهم ، فقد قالوا له : { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أى : قال بنو إسرائيل لموسى رداً على نصيحته لهم : لقد أصابنا الأذى من فرعون قبل أن تأتينا يا موسى بالرسالة ، فقد قتل منا ذلك الجبار الكثير من أبنائنا وأنزل بنا ألواناً من الظلم والاضطهاد وأصابنا الأذى بعد أن جئتنا بالرسالة كما ترى من سوء أحوالنا . واشتغالنا بالأشغال الحقيرة المهينة ، فنحن لم نستفد من رسالتك شيئاً ، فإلى متى نسمع منك تلك النصائح التي لا جدوى من ورائها ؟
ومع هذا الرد السفيه من قوم موسى عليه ، نراه يرد عليهم بما يليق به فيقول : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } فرعون الذي فعل بكم ما فعل من أنواع الظلم ، وتوعدكم بما توعد من صنوف الاضطهاد .
{ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض } أى يجعلكم خلفاء فيها من بعد هلاكه هو وشيعته . { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أى : فيرى - سبحانه - الكائن منكم من العمل ، حسنه وقبيحه ، ليجازيكم على حسب أعمالكم ، فإن استخلافكم في الأرض من بعد هلاك أعدائكم ليس محاباة لكم ، وإنما هو استخلاف للاختبار والامتحان ، فإن أحسنتم زادكم الله من فضله ، وإن أسأتم كان مصيركم كمصير أعدائكم .
وفى التعبير " بعسى " الذي يدل على الرجاء ، أدب عظيم من موسى مع ربه - عز وجل - : وتعليم للناس من بعده أن يلتزموا هذا الأدب السامى مع خالقهم ، وفيه كذلك منع لهم من الاتكال وترك العمل ، لأنه لو جزم لهم في الوعد فقد يتركون السعى والجهاد اعتماداً على ذلك .
وقيل : إن موسى ساق لهم ما وعدهم به في صيغة الرجاء لئلا يكذبوه ، لضعف نفوسهم بسبب ما طال عليهم من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه ، واستعظامهم لملكه وقوته ، فكأنهم يرون أن ما قاله موسى مستبعد الحصول ، لذا ساقه لهم في صورة الرجاء .
( قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ) :
إنها كلمات ذات ظل ! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم ! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك . وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية !
ويمضي النبي الكريم على نهجه . يذكرهم بالله ، ويعلق رجاءهم به ، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم . واستخلافهم في الأرض . مع التحذير من فتنة الاستخلاف .
( قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ، ويستخلفكم في الأرض ، فينظر كيف تعملون ) .
إنه ينظر بقلب النبي فيرى سنة الله ، تجري وفق وعده ، للصابرين ، وللجاحدين ! ويرى من خلال سنة الله هلاك الطاغوت وأهله ، واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده . فيدفع قومه دفعاُ إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد . . وهو يعلمهم - منذ البدء - أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم . ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه - كما زعموا - فلا يعذبهم بذنوبهم ! وليس جزافاً بلا غاية . وليس خلوداً بلا توقيت . إنه استخلاف للامتحان : ( فينظر كيف تعملون ) . . وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون . ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان ، ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم .
{ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي : قد جرى علينا مثل ما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى ، ومن بعد ذلك . فقال منبهًا لهم على حالهم الحاضرة{[12027]} وما يصيرون{[12028]} إليه في ثاني الحال : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ [ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ] }{[12029]} وهذا تحضيض لهم على العزم على الشكر ، عند حلول النعم وزوال النقم .
{ قالوا } أي بنوا إسرائيل . { أوذينا من قبل أن تأتينا } بالرسالة بقتل الأبناء { ومن بعد ما جئتنا } بإعادته . { قال عسى ربكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض } تصريحا لما كنى عنه أولا لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك ، ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم . وقد روي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام . { فينظر كيف تعملون } فيرى ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجاريكم على حسب ما يوجد منكم .
وقولهم : { من قبل أن تأتينا } يعنون به الذبح الذي كان فالمدة التي كان فرعون يتخوف فيها أن يولد المولود الذي يخرب ملكه ، والذي من بعد مجئيه يعنون به وعيد فرعون وسائر ما كان خلال تلك المدة من الإخافة لهم ، وقال السدي وابن عباس رضي الله عنه : إنما قالت بنو إسرائيل هذه المقالة حين اتبعهم فرعون واضطرهم إلى البحر فضاقت صدورهم ورأوا بحراً أمامهم وعدواً كثيفاً وراءهم فقالوا هذه المقالة .
قال القاضي أبو محمد : وبالجملة هو كلام يجري مع المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدين واستعطاف موسى لهم بقوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدل على أنه يستدعي نفوساً نافرة ، ويقوي هذا الظن في بني إسرائيل سلوكهم هذه السبيل في غير قصة ، وحكى النقاش أنهم قالوا ذلك بمصر حين كلفهم فرعون من العمل ما لا يطيقون ، وروي أنه كان يكلفهم عمل الطوب ويمنعهم التبن ليشق عليهم عمله ، وقوله تعالى : { فينظر كيف تعملون } تنبيه وحض على الاستقامة ، وإن قدر هذا الوعد أنه من عند الله فيتخرج عليه قول الحسن بن أبي الحسن : { عسى } من الله واجبة ، وقداستخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان ، وقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع .
{ قالوا } حكاية جواب قوم موسى إياه ، فلذلك فصلت جملة القول على طريقة المحاورة ، وهذا الخبر مستعمل في الشكاية واستئثارتهم موسى ليدعو ربه أن يفرج كربهم .
والإيذاء : الإصابة بالأذى ، والأذى ما يؤلم ويحزن من قول أو فعل ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { لن يضروكم إلاّ أذى } في سورة آل عمران ( 111 ) ، وقوله : { فصَبروا على ما كُذبوا وأوذوا } في سورة الأنعام ( 34 ) ، وهو يكون ضعيفاً وقوياً ، ومرادهم هنا القوي منه ، وهو ما لحقهم من الاستعباد وتكليفهم الأعمال الشاقة عليهم في خدمة فرعون وما توعدهم به فرعون بعد بعثة موسى من القطع والصلب وقتل الأبناء ، وكأنهم أرادوا التعريض بنفاد صبرهم وأن الأذى الذي مسهم بعد بعثة موسى لم يكن بداية الأذى ، بل جاء بعد طول مدة في الأذى ، فلذلك جمعوا في كلامهم ما لحقهم قبل بعثة موسى .
وقد توهم بعض المفسرين أن هذا امتعاض منهم مما لحقهم بسبب موسى وبواسطته مستنداً إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء موسى بسبب توقع ولادة موسى ، وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته ، وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله : { من قبل أن تأتينا } موقع ، والإتيان والمجيء مترادفان ، فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى ، ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ .
والإتيان والمجيء مدلولهما واحد ، وهو بعثة موسى بالرسالة ، فجعل الفعل المعبّر عنه حين عُلق به ( قبل ) بصيغة المضارع المقترن ب ( أن ) الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ ( قبل ) لأن ما يضاف إلى ( قبل ) مستقبل بالنسبة لمدلولها ، وجُعل حين علق به ( بعد ) بصيغة الماضي المقترن بحرف ( مّا ) المصدرية لأن ( ما ) المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ ( بعد ) لأن مضاف كلمة ( بعد ) ماض بالنسبة لمدلولها .
فأجابهم موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون مُلك الأرض والذين تكون لهم العاقبة .
وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدباً مع الله تعالى ، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله تعالى ونصره . فقوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } ناظر إلى قوله : { إن الأرض لله } [ الأعراف : 128 ] وقوله : { ويَسْتخلفَكم في الأرض } ناظر إلى قوله { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] .
والمراد بالعدو ، فرعون وحزبه ، فوصفُ عدو يوصف به الجمع قال تعالى : { هم العدو } [ المنافقون : 4 ] .
والمراد بالاستخلاف : الاستخلاف عن الله في مُلك الأرض . والاستخلاف إقامة الخليفة ، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له ، أي جعلهم أحراراً غالبين ومؤسسين ملكاً في الأرض المقدسة .
ومعنى { فينظر كيف تعملون } التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى ، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين ، تذكيراً لهم بأنه عليم بما يعملونه .
فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات ، والمقصود بما { تعملون } عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه ، وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك ، إلاّ بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة لها ، فإذا صدرت الأعمال صالحة كما يرضي الله ، وما أوصى به ، حصل المقصود ، ولا يضرها ما تكنه نفس العامل .
و ( كيف ) يجوز كونها استفهاماً فهي معلّقة لفعل ( ينظرُ ) عن المفعول ، فالتقدير فينظر جواب السؤال ب { كيف تعملون } ، ويجوز كونها مجردة عن معنى الاستفهام دالة على مجرد الكيفية ، فهي مفعول به ل { ينظرَ } كما تقدم في قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } في سورة آل عمران ( 6 ) ، وقوله تعالى : { انظْر كيف نبين لهم الآيات } في سورة المائدة ( 75 ) وقد تقدم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال قوم موسى لموسى حين قال لهم استعينوا بالله واصبروا:"أُوذِينا" بقتل أبنائنا "مِنْ قبلِ أنْ تأْتِيَنا "يقول: من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا لأن فرعون كان يقتل أولادهم الذكور حين أظله زمان موسى على ما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا.
وقوله: "وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا" يقول: ومن بعد ما جئتنا برسالة الله، لأن فرعون لما غُلبت سحرته وقال للملأ من قومه ما قال، أراد تجديد العذاب عليهم بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم. وقيل: إن قوم موسى قالوا لموسى ذلك حين خافوا أن يدركهم فرعون وهم منه هاربون، وقد تراءى الجمعان، ف قالوا له يا موسى "أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أنْ تَأْتيَنا" كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا، "وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا" اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا. وقوله: "قالَ عَسَى رَبّكُمْ أنْ يُهْلكَ عَدُوّكُمْ" يقول جلّ ثناؤه: قال موسى لقومه: "لعلّ ربكم أن يهلك عدوّكم": فرعون وقومه، "ويَسْتَخْلِفَكُمْ" يقول: يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم، لا تخافونهم ولا أحدا من الناس غيرهم. "فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" يقول: فيرى ربكم ما تعملون بعدهم من مسارعتكم في طاعته وتثاقلكم عنها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} يخرّج هذا على وجهين. أحدهما: أن يخرّج مخرج استبطاء النصر والظفر لهم؛ كأنهم استبطؤوا النصر وإهلاك العدوّ والظفر عليهم، فقال لهم موسى: {عسى ربكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض}. والثاني: أن يخرّج مخرج الاعتذار لموسى لما خطر ببال موسى أنهم يقولون: إن ما أصابهم من البلايا والشدائد إنما كان لسببه ولمكانه، فقالوا ذلك له اعتذارا منهم له: أن قد أصابنا ذلك نحن {من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} لئلا يوهم أنهم يقولون ذلك، أو يخطر ببالهم ذلك، والله أعلم. وجائز أن يكونوا قالوا ذلك على التعيير له والتوبيخ؛ يقولون: لم يزل 589 يصيبنا من الأذى لسببك ولأجلك {من قبل أن تأتينا} من الاستخدام {ومن بعد ما جئتنا} من أنواع الضرر...
وقوله تعالى: {فينظر كيف تعملون} يحتمل هذا أيضا وجهين: أحدهما: أن يجعل لكم الأرض، ويوسّع عليكم الرزق؛ يمتحنكم في ذلك، ويبتليكم، لا أنه يجعل لكم ذلك على غير امتحان؛ تعملون ما شئتم في ذلك.
والثاني: يمتحنكم بالشدائد والبلايا لينظر كيف تصبرون على ذلك. ويحتمل وجها آخر؛ وهو أن يقول لهم: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر} كيف تشكرون ربكم في ما أنعم عليكم؟ وقوله تعالى: {فينظر كيف} الواقع لكم من الجزاء والثواب. وقوله تعالى: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا} أمرهم، والله أعلم، بطلب المعونة من الله تعالى على قضاء جميع حوائجهم دينا ودنيا. ويحتمل أن يكون على طلب التوفيق لما أمر به والعصمة عمّا حذّرهم عنه. وكذلك الأمر البيّن في الخلق من طلب التوفيق والمعونة من الله والعصمة عن المنهيّ عنه جرت به سنة الأخيار.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
خفي عليهم شهودُ الحقيقة، وغُشِيَ على أبصارهم حتى قالوا توالت علينا البلايا؛ ففي حالك بلاء، وقَبْلكَ شقاء.. فما الفضل؟ فأجابهم موسى -عليه السلام- بما علق رجاءهم بكشف البلاء فقال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فوقفهم على الانتظار، ومن شهد ببصر الأسرار شهد تصاريف الأقدار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وبالجملة هو كلام يجري مع المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدين واستعطاف موسى لهم بقوله: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم} ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدل على أنه يستدعي نفوساً نافرة، ويقوي هذا الظن في بني إسرائيل سلوكهم هذه السبيل في غير قصة...
اعلم أن قوم موسى عليه السلام، لما سمعوا ما ذكره فرعون من التهديد والوعيد خافوا وفزعوا، وقالوا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا وذلك، لأن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام مستضعفين في يد فرعون اللعين، فكان يأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب، فلما سمعوا أن فرعون أعاد التهديد مرة ثانية عظم خوفهم وحزنهم، فقالوا هذا الكلام. {فينظر كيف تعملون} ما يجري مجرى الحث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} هذا رجاء من نبي الله موسى عليه السلام ومثله من الأنبياء يقوي قلوب أتباعهم فيصبرون إلى وقوع متعلق الرّجاء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... وقد عبر بعسى ولم يقطع بالوعد لئلا يتكلوا ويتركوا ما يجب من العمل أو لئلا يكذبوه لضعف أنفسهم بما طال عليهم من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه واستعظامهم لملكه وقوته وفي التوراة ما يؤيد هذا وما قبله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن إسرائيل هي إسرائيل! (قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا): إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك. وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية! ويمضي النبي الكريم على نهجه. يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم. واستخلافهم في الأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف. (قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون). إنه ينظر بقلب النبي فيرى سنة الله، تجري وفق وعده، للصابرين، وللجاحدين! ويرى من خلال سنة الله هلاك الطاغوت وأهله، واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده. فيدفع قومه دفعاُ إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد.. وهو يعلمهم -منذ البدء- أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم. ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه -كما زعموا- فلا يعذبهم بذنوبهم! وليس جزافاً بلا غاية. وليس خلوداً بلا توقيت. إنه استخلاف للامتحان: (فينظر كيف تعملون).. وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون. ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان، ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالاستخلاف: الاستخلاف عن الله في مُلك الأرض. والاستخلاف إقامة الخليفة، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له، أي جعلهم أحراراً غالبين ومؤسسين ملكاً في الأرض المقدسة. ومعنى {فينظر كيف تعملون} التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين، تذكيراً لهم بأنه عليم بما يعملونه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان بنو إسرائيل متململين من عذاب فرعون من قبل موسى – عليه السلام – ورجوا من مجيئه أن يرحمهم الله تعالى من عذابه على يد موسى – عليه السلام – وقد غلبه بالحجة الباهرة، وكان هو وقومه صاغرين أمام حجة الحق وقوته.
ومن يكون من عذاب يتلهف على الرحمة، ويطلبها سريعا، ولكن فرعون قرر استمرار عذابهم فقالوا متململين: قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض.
طمأنهم موسى بأن الله لا يخلف وعده، وأنه وعده بهلاك الطاغية العاتي؛ ولذا قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} يتضمن كلام موسى الكليم – عليه السلام – أمورا ثلاثة:
أولها – رجاء هلاك فرعون؛ لأن الله اعلمه بذلك، وأن لذلك وقتا معلوما، لم يحن حينه.
ثانيها – أنهم يرثون الأرض من بعده، وأنهم سيكونون مستقلين أحرارا ليس لأحد عليهم سلطان إلا الله.
ثالثها: أنه قد تكون مخالفات، ومناقضات، ولذا قال: {فينظر كيف تعملون}، أي فيرى منكم عملكم أو يقدر لكم من الجزاء بمقدار عملكم، والله بكل شيء عليم.
وإن سياق القصص القرآني قد يشير إلى أن فرعون عندما كان يقتل الأبناء، ويستحيي النساء – ما كان يستأصل، بل فرض عليهم هذه العقوبة يستعملها ما يشاء.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم يعرض علينا كتاب الله صورة من صور التذبذب والتململ والتردد والقلق، التي عرف بها بنو إسرائيل عبر القرون والأجيال، فرغما عن أن موسى عليه السلام نصره الله نصرا مؤزرا على فرعون وسحرته، ورغما عن أنه طالب فرعون بأن يرسل معه بني إسرائيل كما حكى الله عنه، إذ خاطب فرعون قائلا: {فأرسل معي بني إسرائيل} نجد بني إسرائيل يستثقلون ظل موسى ويتضايقون منه، ولا يخجلون أن يخاطبوه دون أدب ولا لياقة، كما حكى كتاب الله عنهم قائلين: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا}، لكن موسى يكظم غيظه ويرد عليهم ردا هادئا، منبها إلى أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يمتحنهم ويختبرهم، ويظهرهم للناس على حقيقتهم، وذلك بمقتضى سننه الثابتة في هذا الكون، فإن أصلحوا كانوا أهلا للاستخلاف بين الناس، وإن أفسدوا أصدر الحق سبحانه وتعالى في شأنهم حكمه العادل بالحجر والإفلاس {قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} إنه منطق الضعفاء الذين لا يعرفون معنى حركة القوة في الداخل من أجل تنمية روح التحدي في الواقع، فهم لا يتعاملون مع القضايا التي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف البعيدة للحياة، بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات في ما تختزنه من هموم وآلام. {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في ما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون الناس والحياة... وتلك هي قصة الحكم في المفهوم الديني للإنسان؛ إنها قصة التغيير، وتحويل المسيرة من خطّ الظلم إلى خطّ العدل، ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان، وليست عملية تبديل أسماءٍ وتغيير واجهاتٍ، لنبرّر الظلم باسم العدل، وننطلق مع الكفر باسم الإيمان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي آخر آية من الآيات الحاضرة يعكس القرآن الكريم شكايات بني إسرائيل وعتابهم من المشكلات التي ابتلوا بها بعد قيام موسى (عليه السلام) فيقول: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فإذا متى يحصل الفرج؟!
وكأنّ بني إسرائيل مثل كثير منّا كانوا يتوقعون أن تصلح جميع الأُمور بقيام موسى (عليه السلام) في ليلة واحدة...
أن يزول فرعون ويسقط، ويهلك الجهاز الفرعوني برمته، وتصبح مصر بجميع ثرواتها تحت تصرف بني إسرائيل، ويتحقق كل ذلك عن طريق الإِعجاز، من دون أن يتحمل بنو إسرائيل أيّ عناء.
ولكن موسى (عليه السلام) أفهمهم بأنّهم سينتصرون في المآل، ولكن أمامهم طريقاً طويلا، وإنّ هذا الانتصار طبقاً للسنة الإِلهية يتحقق في ظل الاستقامة والثبات والسعي والاجتهاد، كما جاء ذلك في الآية الحاضرة (قال عسى ربّكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض).
وذكر كلمة «عسى» مثل كلمة «لعلّ» التي وردت في كثير من الآيات القرآنية إشارة في الحقيقة إلى أنّ لهذا التوفيق والانتصار شرائط، من دونها لا يصلون إليه، (للوقوف على المزيد في هذا المجال راجع ما كتبناه في تفسير الآية 84 من سورة النساء).
ثمّ يقول في ختام الآية: إنّ الله أعطاكم هذه النعمة، وأعاد إليكم حريتكم المسلوبة كي ينظر كيف تتصرفون أنتم (فينظر كيف تعملون)؟
يعني ستبدأ بعد الانتصار مرحلة امتحانكم واختباركم، اختبار شعب كان فاقداً لكل شيء ثمّ حصل على كل شيء في ضوء الهداية الإِلهية.
إنّ هذا التعبير هو ضمناً إشعار بأنّكم سوف لا تخرجون من هذا الاختبار في المستقبل بنجاح، وستفسدون وتظلمون كما فعل من كان قبلكم.