آتيناه [ رحمة من عندنا أي : أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله { وَعَلَّمْنَاهُ ْ } ]{[494]} { مِنْ لَدُنَّا ْ } [ أي : من عندنا ] عِلْمًا ، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى ، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء ، وخصوصا في العلوم الإيمانية ، والأصولية ، لأنه من أولي العزم من المرسلين ، الذين فضلهم الله على سائر الخلق ، بالعلم ، والعمل ، وغير ذلك ، فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة ، والإخبار عن مطلبه .
ثم حكى القرآن ما تم لهما بعد أن عادا إلى مكانهما الأول فقال : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } .
أى : وبعد أن عادا إلى مكان الصخرة عند مجمع البحرين مرة أخرى وجدا { عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } الصالحين . والتنكير فى { عبدا } للتفخيم ، والإِضافة فى { عبادنا } للتشريف والتكريم .
{ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } أى : هذا العبد الصالح منحناه وأعطيناه رحمة عظيمة من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا : واختصصناه بها دون غيره .
و «العبد » هو الخضر في قول الجمهور بمقتضى الأحاديث ، وخالف من لا يعتد بقوله فقال ليس ، صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر ، والخضر نبي عند الجمهور ، وقيل هو عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي الله ، وروي في الحديث أن موسى عليه السلام وجد الخضر مسجى في ثوبه مستلقياً على الأرض فقال له السلام عليك ، فرفع الخضر رأسه وقال وأنى بأرضك السلام ؟ ثم قال له من أنت ؟ قال أنا موسى ، قال موسى بني إسرائيل ؟ قال نعم ، قال له ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا ؟ قال بلى ، ولكني أحببت لقاءك ، وأن أتعلم منك ، قال له إني على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا .
قال القاضي أبو محمد : كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها . وكان علم موسى عليه السلام علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم . وروي أن موسى وجد الخضر قاعداً على تيح البحر ، وسمي الخضر خضراً لأنه جلس على فروة يابسة فاهتزت تحته خضراء ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم{[1]} ، و «الرحمة » في هذه الآية النبوءة ، وقد ذكرنا الحديث المضمن أن سبب هذه القصة أن موسى عليه السلام ، قيل له تعلم أحداً أعلم منك ، قال : لا ، وحكى الطبري حديثاً آخر ، مضمنه : أن موسى عليه السلام قال : من قبل نفسه : أي رب ، أي عبادك أعلم ؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة خير تهديه ، قال رب فهل في الأرض أحد ؟ قال نعم فسأل السبيل إلى لقيه{[2]} ، والحديث الأول في صحيح البخاري ، وقرأ الجمهور «من لدنّا » بتشديد النون وقرأ أبو عمرو من «لدُنا » بضم الدال وتخفيف النون ، قال أبو حاتم هما لغتان .
المراد بالعبد : الخضر ، ووصف بأنه من عباد الله تشريفاً له ، كما تقدم عند قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده } [ الإسراء : 1 ] .
وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه ، وللإشارة إلى أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى . وما منهم إلا له مقام معلوم .
وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه : أنه جُعل مرحوماً ، وذلك بأن رفق الله به في أحواله . ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفاً يجلب الرحمة العامة . والعلم من لدن الله : هو الإعلام بطريق الوحي .
و ( عند ) و ( لدن ) كلاهما حقيقته اسمُ مكان قريب . ويستعملان مجازاً في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما .
و ( من ) ابتدائية ، أي آتيناه رحمةً صدرت من مكان القُرب ، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله ، وعلماً صدر منه أيضاً . وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة ، أو ما أوتيه من العلم عزيز ، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يُعطى إلا للمصطفيَن .
والمخالفة بين { من عندنا } وبين { من لدنا } للتفنن تفادياً من إعادة الكلمة .