اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا} (65)

قوله : { { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } الآية .

قيل : كان ملكاً من الملائكة ، والصحيح ما ثبت في التَّواريخ ، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه الخضر ، واسمه بليا بن ملكان .

وقيل : كان من نسل بني إسرائيل .

وقيل : كان من أبناء الملوك الذين زهدُوا في الدنيا ، والخضر لقبٌ له ، سمِّي بذلك ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّما سمِّي خضراً ؛ لأنَّه جلس على فَرْوةٍ بيْضاءَ ، فإذا هِيَ تهتزُّ تَحْتَهُ خَضِراً " {[21209]} .

وقال مجاهد : إنما سمِّي خضراً ؛ لأنَّه كان إذا صلَّى ، اخضرَّ ما حوله{[21210]} .

روي في الحديث أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا رأى الخضر - عليه السلام - سلَّم عليه ، فقال الخضر : وأنَّى بأرضك السلام ؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، أتيتك ؛ لتعلِّمنِي ممَّا علِّمت رشداً{[21211]} .

فصل في بيان أن الخضر كان نبياً

قال أكثر المفسرين{[21212]} : إنَّه كان نبيًّا ، واحتجوا بوجوهٍ :

الأول : قوله : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } والرحمة : هي النبوة ؛ لقوله تعال { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] .

وقوله : { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] .

والمراد من هذه الرحمة النبوة ، ولقائلٍ أن يقول : سلَّمنا أن النبوَّة رحمة ، ولكن لا يلزمُ بكلِّ رحمةٍ نبوةٌ .

الثاني : قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } وهذا يدل على أنه علمه لا بواسطة ، ومن علَّمه الله شيئاً ، لا بواسطة البشر ، يجب أن يكون نبيًّا ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله ، وذلك لا يدلُّ على النبوَّة .

الثالث : قول موسى - عليه السلام - : " هل أتَّبِعُك على أن تعلِّمنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً " والنبي لا يتَّبع غير النبي في التعلُّم .

وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنَّ النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيًّا ، [ أما في غير تلك العلوم فلا ]{[21213]} . الرابع : أنَّ ذلك العبد أظهر الترفُّع على موسى ، فقال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فأما موسى ، فإنه أظهر التواضع له ؛ حيث قال : { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } وذلك يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان فوق موسى ، ومن لا يكون نبيًّا ، لا يكون فوق النبيِّ ، وذلك أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنه يجوز أن يكون غير النبيِّ فوق النبي في علومٍ لا تتوقَّف نبوته عليها .

فإن قيل : إنه يوجبُ تنفيراً .

فالجواب : وتكليمه بغير واسطة يوجب التَّنفير .

فإن قالوا : هذا لا يوجبُ التنفير ، فكذلك فيما ذكروه .

الخامس : احتجَّ الأصم بقوله : " وما فعلتهُ عن أمْرِي " أي : فعلته بوحي الله تعالى ، وذلك يدلُّ على النبوة ، وهذا ضعيف أيضاً .

روي أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا وصل إليه ، فقال : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام ، يا نبيَّ بني إسرائيل ، فقال موسى : من عرَّفك هذا ؟ قال : الذي بعثك إليَّ{[21214]} ؛ وهذا يدلُّ على أنَّه إنما عرف ذلك بالوحي ، والوحي لا يكون إلا إلى النبيِّ .

ولقائلٍ أن يقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات ؟ .

قال البغوي{[21215]} : ولم يكن الخضرُ نبيًّا عند أكثر أهل العلم .

قوله : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } أي : علم الباطن إلهاماً .

و " عِلْماً " : مفعول ثان ل " عَلَّمْناهُ " قال أبو البقاء{[21216]} : " ولو كان مصدراً ، لكان تعليماً " يعني : لأنَّ فعله على " فعَّل " بالتشديد ، وقياس مصدره " التَّفعيلُ " .

و " مِنْ لدُنَّا " يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حالٌ من " عِلْماً " .


[21209]:ذكره السيوطي في الدر المنثور" (4/424) وعزاه إلى ابن عساكر عن ابن عباس.
[21210]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/424) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر.
[21211]:فقدم تخريجه وهو في الصحيحين.
[21212]:ينظر: الفخر الرازي 21/126.
[21213]:سقط من أ.
[21214]:تقدم.
[21215]:ينظر: معالم التنزيل 3/173.
[21216]:ينظر: الإملاء 2/106.