قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } روى محمد بن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، عن عبد الله بن عباس ، عن علي بن أبي طالب . قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا علي إن الله يأمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت عليها حتى جاءني جبريل ، فقال لي : يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عساً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به . ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم ، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : خذوا باسم الله ، فأكل القوم حتى مالهم بشيء حاجة ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم : ثم قال : اسق القوم فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا جميعاً ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الغد : يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القوم فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فأعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم ، ففعلت ثم جمعت فدعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة . وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيتي وخليفتي فيكم ، فأحجم القوم عنها جميعاً ، فقلت وأنا أحدثهم سناً أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . قال : فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الأعمش ، حدثنا عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف يا صباحاه ، فقالوا : من هذا ؟ فاجتمعوا إليه فقال : أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذباً قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ، ثم قام : فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب } وقد تب هكذا قرأ الأعمش يومئذ .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثني عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر ، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، وقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : { تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } فقال : " يا معشر قريش ، أو كلمة نحوها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً " .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنبأنا جدي أبو سهل بن عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا أبو إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عياض بن جمان المجاشعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، وأنه قال : إن كل مال نحلته عبادي فهو لهم حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وإن الله تعالى أمرني أن أخوف قريشاً ، فقلت : يا رب إنهم إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزةً ، فقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وقد أنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء ، تقرؤه في المنام واليقظة ، فاغزهم نغزك ، وأنفق ننفق عليك ، وابعث جيشاً نمددك بخمسة أمثالهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، ثم قال : أهل الجنة ثلاثة : إمام مقسط ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل غني متعفف متصدق ، وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له ، الذين هم فيكم تبع لا يتبعون بذلك أهلاً ولا مالاً ، ورجل أصبح يخادعك عن أهلك ومالك ، ورجل لا يخفى له طمع وإن دق إلا ذهب به ، والشنظير الفاحش وذكر البخل والكذب .
ولما أمره بما فيه كمال نفسه ، أمره بتكميل غيره فقال : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } .
الذين هم أقرب الناس إليك ، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي ، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس ، كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان ، ثم قيل له " أحسن إلى قرابتك " فيكون هذا خصوصا{[584]} دالا على التأكيد ، وزيادة الحق ، فامتثل صلى الله عليه وسلم ، هذا الأمر الإلهي ، فدعا سائر بطون قريش ، فعمم وخصص ، وذكرهم ووعظهم ، ولم يُبْق صلى الله عليه وسلم من مقدوره شيئا ، من نصحهم ، وهدايتهم ، إلا فعله ، فاهتدى من اهتدى ، وأعرض من أعرض .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر أقرب الناس إليه ، ليكونوا قدوة لغيرهم . وليعلموا أن قرابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم لن تنجيهم من عذاب الله ، ما استمروا على شركهم ، فقال - تعالى - : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } .
والعشيرة : أهل الرجل الذين يتكثر بهم ، و { الأقربين } هم أصحاب القرابة القريبة كالآباء والأبناء والإخوة والأخوات ، والأعمام والعمات وما يشبه ذلك .
وقد ذكر المفسرون أحاديث متعددة ، فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية ، منها : ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس قال : لما أنزل الله - تعالى - هذه الآية : " أتى النبى صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ، وهى كلمة يقوله المستغيث أو المنذر لقومه - فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجئ إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، يا بنى لؤى ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقى ؟ قالوا : نعم . قال : " فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد " .
فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ، وأنزل الله : ( تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) " .
قال الآلوسى : ووجه تخصيص عشيرته الأقربين بالذكر مع عموم رسالته صلى الله عليه وسلم : دفع توهم المحاباة ، وأن الاهتمام بشأنهم أهم ، وأن البداءة تكون بمن يلى ثم من بعده . .
أى : أن هذه الآية الكريمة ، لا تتعارض مع عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا ، لأن المقصود بها : البدء بإنذار عشيرته الأقربين ، ليكونوا أسوة لغيرهم .
وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يحذره من الشرك - وهو أبعد من يكون عنه - ليكون غيره أولى بالحذر . ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين . ويأمره بالتوكل على الله ، الذي يلحظه دائما ويرعاه :
( فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين . وأنذر عشيرتك الأقربين . واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل : إني بريء مما تعملون . وتوكل على العزيز الرحيم . الذي يراك حين تقوم . وتقلبك في الساجدين . إنه هو السميع العليم ) . .
وحين يكون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] متوعدا بالعذاب مع المعذبين ، لو دعا مع الله إلها آخر . وهذا محال ولكنه فرض للتقريب . فكيف يكون غيره ? وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين ? ! وليس هنالك محاباة ، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول ، لو ارتكب هذا الإثم العظيم !
وبعد إنذار شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] يكلف إنذار أهله . لتكون لمن سواهم عبرة ، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . .
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية أتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ! فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا بني عبد المطلب . يا بني فهر . يا بني لؤي . أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ? " قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا ? وأنزل الله : ( تبت يدا أبي لهب وتب . . . ) .
وأخرج مسلم - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لما نزلت : ( وأنذر عشيرتك الأقربين )قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " يا فاطمة ابنة محمد . يا صفية ابنة عبد المطلب . يا بني عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ماشئتم " .
وأخرج مسلم والترمذي - بإسناده عن أبي هريرة - قال : لما نزلت هذه الآية . دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قريشا فعم وخص فقال : " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار . فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا . إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " . . .
فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الأمر ، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين ، ونفض يده من أمرهم ، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة ، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئا إذا لم ينفعهم عملهم ، وأنه لا يملك لهم من الله شيئا ، وهو رسول الله . . وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه ، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم .
ثم قال تعالى آمرًا لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه{[21876]} أن ينذر عشيرته الأقربين ، أي : الأدنين إليه ، وأنه لا يُخَلِّص أحدًا منهم إلا إيمانهُ بربه عز وجل ، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين . ومن عصاه من خلق الله كائنًا مَنْ كان فليتبرأ منه ؛ ولهذا قال : { . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وهذه النِّذارة الخاصة لا تنافي العامة ، بل هي فرد من أجزائها ، كما قال : { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [ يس : 6 ] ، وقال : { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الشورى : 7 ] ، وقال : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] ، وقال : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ] ، وقال : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، كما قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .
وفي صحيح مسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " .
وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة ، فلنذكرها :
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله ، عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ، ثم نادى : " يا صباحاه " . فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ " . قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبًّا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] .
ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي ، من طرق ، عن الأعمش ، به{[21877]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا فاطمة ابنة محمد ، يا صفية ابنة عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب ، لا أملك لكم من الله شيئا ، سلوني من مالي ما شئتم " . انفرد بإخراجه مسلم{[21878]} .
قال أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قريشا ]{[21879]} ، فعمَّ وخصَّ ، فقال : " يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار . [ يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار ]{[21880]} ، فإني - والله - ما أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رَحمًا سأبُلها بِبلالها " .
ورواه مسلم والترمذي ، من حديث عبد الملك بن عمير ، به{[21881]} . وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه . ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة{[21882]} . والموصول هو الصحيح . وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة{[21883]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد - يعني ابن إسحاق - عن أبي الزنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، اشتروا أنفسكم من الله . يا صفية عمة رسول الله ، ويا فاطمة بنت رسول الله ، اشتريا أنفسكما من الله ، لا أُغني عنكما من الله شيئًا ، سلاني من مالي ما شئتما " .
تفرد به من هذا الوجه{[21884]} . وتفرد به أيضا ، عن معاوية ، عن زائدة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه{[21885]} . ورواه أيضًا عن حسن ، ثنا ابن لَهِيعة ، عن{[21886]} الأعرج : سمعت أبا هريرة مرفوعا{[21887]} .
وقال أبو يعلى : حدثنا سُوَيد بن سَعيد ، حدثنا{[21888]} ضِمَام بن إسماعيل ، عن موسى بن وَرْدَان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يا بني قُصَي ، يا بني هَاشم ، يا بني عبد مناف . أنا النذير والموت المغير . والساعة الموعد " {[21889]} .
قال أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا التيمي ، عن أبي عثمان ، عن قَبِيصة بن مُخَارق وزُهَير بن عمرو قالا لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } صَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رَضْمَةً من جبل على أعلاها حجر ، فجعل ينادي : " يا بني عبد مناف ، إنما أنا نذير ، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو ، فذهب يربأ أهله ، يخشى أن يسبقوه ، فجعل ينادي ويهتف : يا صباحاه " .
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن طِرْخان التيمي ، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مُل النَّهْديّ ، عن قَبِيصة وزُهيَر بن عَمْرو الهلالي ، به{[21890]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك عن الأعمش ، عن المْنهَال ، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا قال : وقال لهم : " من يَضْمَنُ عَني ديني ومواعيدي ، ويكون معي في الجنة ، ويكون خليفتي في أهلي ؟ " . فقال رجل - لم يسمه شريك - يا رسول الله ، أنت كنت بحرًا{[21891]} من يقوم بهذا ؟ قال : ثم قال الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال عَليٌ : أنا{[21892]} .
طريق أخرى بأبسط من هذا السياق : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجذ ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب ، وهم رَهْطٌ ، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفّرَق - قال : وصنع{[21893]} لهم مدًا من طعام فأكلوا حتى شبعوا - قال : وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس . ثم دعا بغُمَرٍ{[21894]} فشربوا حتى رووا ، وبقي الشراب كأنه لم يمس - أولم يشرب - وقال : " يا بني عبد المطلب ، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟ " . قال : فلم يقم إليه أحد . قال : فقمتُ إليه - وكنت أصغر القوم - قال : فقال : " اجلس " . ثم قال ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : " اجلس " . حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي{[21895]} .
طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يُونُس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق قال : فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرفت أنّي إن بادأتُ بها قومِي ، رأيت منهم ما أكره ، فَصَمَتُّ . فجاءني جبريل ، عليه السلام ، فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك ربك " . قال علي ، رضي الله عنه : فدعاني فقال : " يا علي ، إن الله قد أمرني [ أن ]{[21896]} أنذر عشيرتي الأقربين ، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره ، فَصَمت عن ذلك ، ثم جاءني جبريل فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك . فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام ، وأعدّ لنا عُسَّ لبن ، ثم اجمع لي{[21897]} بني عبد المطلب " . ففعلتُ فاجتمعوا له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا . فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب الكافر الخبيث . فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَةَ ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حِذْيَة فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها ، وقال : " كلوا بسم الله " . فأكل القومُ حتى نَهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقهم يا علي " . فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نَهِلُوا جميعًا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم ، بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال : لَهَدّ ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجلّ قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم " . ففعلت ، ثم جمعتهم له ، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نَهِلُوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقهم يا علي " . فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعًا . وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بَدَره أبو لهب بالكلام فقال : لَهَدَّ ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعتَ لنا بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجل قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم " . ففعلت ، ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كما صنع ]{[21898]} بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه ، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، إني - والله - ما أعلم شابًا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة " .
قال أحمد بن عبد الجبار : بلغني أن ابن إسحاق إنما{[21899]} سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث{[21900]} .
وقد رواه أبو جعفر بن جرير ، عن ابن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب ، فذكر مثله ، وزاد بعد قوله : " إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة " . " وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني{[21901]} على هذا الأمر على أن يكون أخي ، وكذا وكذا " ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعًا ، وقلت - وإني لأحدثهم سنًا ، وأرمصُهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأحمشهم ساقا . أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ يَرْقُبُني ثم قال : " إن هذا أخي ، وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا " . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع{[21902]} .
تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، وهو متروك كذاب شيعي ، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث ، وضعّفه الأئمة رحمهم الله .
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرة الحارثي ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي رضي الله عنه : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا " . قال : ففعلت ، ثم قال : " ادع بني هاشم " . قال : فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل - أو : أربعون ورجل - قال : وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذَعَة بإدامها . قال : فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرْوَتها ثم قال : " كلوا " ، فأكلوا حتى شبعوا ، وهي على هيئتها{[21903]} لم يرزؤوا منها إلا يسيرًا ، قال : ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رَوُوا . قال : وفَضَل فَضْلٌ ، فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم ، فبدرُوه الكلام ، فقالوا : ما رأينا كاليوم في السحر . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " اصنع [ لي ]{[21904]} رجل شاة بصاع من طعام " . فصنعت ، قال : فدعاهم ، فلما أكلوا وشربوا ، قال : فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي : " اصنع [ لي ]{[21905]} رجل شاة بصاع من طعام . فصنعت ، قال : فجمعتهم ، فلما أكلوا وشربوا بَدَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : " أيكم يقضي عني دَيني{[21906]} ويكون خليفتي في أهلي ؟ " . قال : فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسِنّ العباس . ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك قلت : أنا يا رسول الله . [ فقال : " أنت " ] {[21907]} قال : وإني يومئذ لأسوأهم هيئة ، وإني لأعمش العينين ، ضخم البطن ، حَمْش الساقين .
فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي ، رضي الله عنه . ومعنى سؤاله ، عليه الصلاة والسلام{[21908]} لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ، ويخلفوه في أهله ، يعني إن قتل في سبيل الله ، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل ، ولما أنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] ، فعند ذلك أمِن .
وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . ولم يكن في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي ، رضي الله عنه ؛ ولهذا{[21909]} بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان بعد هذا - والله أعلم - دعاؤه الناس جَهرًة على الصفا ، وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا ، حتى سَمّى مَنْ سَمَّى من أعمامه وعماته وبناته ، لينبه بالأدنى على الأعلى ، أي : إنما أنا نذير ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي - غير منسوب - من طريق عمرو بن سَمُرَةَ ، عن محمد بن سُوقَةَ ، عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء ، رضي الله عنه ، يحدث الناس ويفتيهم ، وولده إلى جنبه ، وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون ، فقيل له : ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم ، وأهل بيتك جلوس لاهين ؟ فقال : لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أزهد الناس في الدنيا الأنبياء ، وأشدهم عليهم الأقربون " . وذلك فيما أنزل الله ، عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، ثم قال : " إن أزهد الناس في العالم أهله حتى يفارقهم " . ولهذا قال [ الله تعالى ] :{[21910]} { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } {[21911]} .
وأمره بنذارة عشيرته تخصيصاً لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية . وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيره فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته . وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم . وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد ، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر ، فمن ذلك أنه أمر علياً رضي الله عنه بأن يصنع طعاماً وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر منه عليه السلام بركة في الطعام ، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلاً ينقصون رجلاً أو يزيدونه ، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترق جمعهم من غير شيء ، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا{[1]} ، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم : «لا أغنى عنكم من الله شيئاً إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » في حديث مشهور{[2]} ، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف واصباحاه » فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى على بطون قريش جميعاً ، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن . قال لهم «رأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي » قالوا نعم ، فإنا لم نجرب عليك كذباً ، فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » ، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تباً لك سائر اليوم فنزلت { تبت يدا أبي لهب }{[3]} [ المسد : 1 ] السورة ، و «العشيرة » قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر .