قوله تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون } قرأ أبو جعفر بالتاء ، لتأنيث النجوى ، وقرأ الآخرون بالياء لأجل الحائل ، { من نجوى ثلاثة } أي من سرار ثلاثة ، يعني من المسارة ، أي : ما من شيء يناجي به الرجل صاحبيه ، { إلا هو رابعهم } بالعلم وقيل : معناه ما يكون من متناجين ثلاثة يسار بعضهم بعضاً إلا هو رابعهم بالعلم ، يعلم نجواهم ، { ولا خمسة إلا هو سادسهم } { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } قرأ يعقوب : { أكثر } بالرفع على محل الكلام قبل دخول من . { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم . } .
ولهذا أخبر عن سعة علمه وإحاطته بما في السماوات والأرض من دقيق وجليل . وأنه { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا } ، والمراد بهذه المعية معية العلم والإحاطة بما تناجوا به وأسروه فيما بينهم ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
ثم أقام - سبحانه - الأدلة على شمول علمه فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } .
والاستفهام فى قوله : { أَلَمْ تَرَ . . . } للتقرير ، والرؤية بمعنى العلم والإدراك القلبى . . . والخطاب لكل من هو أهل له .
والنجوى : اسم مصدر بمعنى المسارة ، يقال : نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة ، أى : ساررته بكلام على انفراد ، وأصله : أن تخلو بمن تناجيه بسر معين فى نجوة من الأرض ، أي : فى مكان مرتفع منفصل عما حوله .
وقيل : أصله من النجاة ، لأن الإسرار بالشيء فيه معاونة على النجاة .
وتطلق النجوى على القوم المتناجين ، كما فى الآية التى معنا .
قال الآلوسى : وقوله - تعالى - : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه - تعالى - ، و { يكون } من كان التامة . و { من } مزيدة و { نجوى } فاعل ، وإضافتها إلى ثلاثة من إضافة المصدر إلى فاعله . . . والإستثناء فى قوله { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } مفرغ من أعم الأحوال . . .
والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - علما لا يخالطه شك أو تردد ، أن الله - تعالى - يعلم علما تاما ، ما فى السموات وما فى الأرض من كائنات مختلفة الأجناس والأنواع . . وأنه - سبحانه - ما يقع من تناجى ثلاثة فيما بينهم إلا وهو تعالى - يعلمه ، كأنه حاضر معهم ، ومشاهد لهم ، كما يعلمه الرابع حين يكون معهم فى التناجى .
{ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } أى : ولا يكون التناجى بين خمسة إلا وهو - سبحانه - معهم ، يعلم ما يتناجون به كما يعلم ذلك سادسهم فيما لو كان التناجي بين ستة .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } بيان لشمول علمه لجميع الأحداث .
أي : ولا يقع التناجي بين ما هو أقل من ذلك العدد أو أكثر - كالإثنين والستة - إلا وهو - سبحانه - يعلم علما تاما ما يجرى بينهم فى أي مكان كانوا ، وعلى أية حال وجدوا .
{ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة } أي : ثم يخبرهم - سبحانه - يوم القيامة بما عملوه فى الدنيا من أعمال كبيرة أو صغيرة ، ويجازيهم عليها بما يستحقونه من ثواب أو عقاب .
{ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فهو - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء .
والمقصود بهذه الآية الكريمة ، بيان شمول علم الله - تعالى - لكل شىء ، وأنه - سبحانه - يحصى على الناس أعمالهم إحصاء الحاضر معهم ، المشاهد لهم ، الذي لا يعزب عنه شىء من حركاتهم أو سكناتهم ، ولذا افتتح - سبحانه - الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم - أيضا - .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : ذكر - سبحانه - الثلاثة والخمسة لوجوه : أحدها : أن هذه إشارة إلى كمال رحمته ، وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا أخذ اثنان فى التناجي والمشاورة بقي الواحد ضائعا وحيداً ، فيضيق قلبه فيقول الله - تعالى - له : أنا جليسك وأنيسك .
وثانيها : أن الآية نزلت في قوم من المنافقين ، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين : أي كانوا في مرة ثلاثة وفي مرة أخرى خمسة - فنزلت الآية الكريمة بيانا للواقع . ويبدو لنا أن ذكر العدد إنما هو من باب التمثيل ، وأن المقصود الأصلي من الآية الكريمة ، بيان أن علم الله - تعالى - يشمل كل كبير وصغير ، وكثير وقليل ، ولذا قال - سبحانه - : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } .
قال القرطبى : قال الفراء : المعنى غير مقصود ، والعدد غير مقصودن لأنه - تعالى - إنما قصد - وهو أعلم - أنه مع كل عدد قل أو كثر ، يعلم ما يقولون سراً وجهراً ، ولا تخفى عليه خافية ، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد ، دون بعض . .
ويستطرد السياق من تقرير حقيقة : ( والله على كل شيء شهيد ) . . إلى رسم صورة حية من هذا الشهود ، تمس أوتار القلوب :
ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم . .
تبدأ الآية بتقرير علم الله الشامل لما في السماوات وما في الأرض على إطلاقه ، فتدع القلب يرود آفاق السماوات وأرجاء الأرض مع علم الله المحيط بكل شيء في هذا المدى الوسيع المتطاول . من صغير وكبير ، وخاف وظاهر ، ومعلوم ومجهول . .
ثم تتدرج من هذه الآفاق وتلك الأرجاء ، وتزحف وتقرب حتى تلمس ذوات المخاطبين وتمس قلوبهم بصورة من ذلك العلم الإلهي تهز القلوب :
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا . .
وهي حقيقة في ذاتها ، ولكنها تخرج في صورة لفظية عميقة التأثير . صورة تترك القلوب وجلة ترتعش مرة ، وتأنس مرة ، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل المأنوس . وحيثما اختلى ثلاثة تلفتوا ليشعروا بالله رابعهم . وحيثما اجتمع خمسة تلفتوا ليشعروا بالله سادسهم . وحيثما كان اثنان يتناجيان فالله هناك ! وحيثما كانوا أكثر فالله هناك !
إنها حالة لا يثبت لها قلب ؛ ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز . . . وهو محضر مأنوس نعم . . ولكنه كذلك جليل رهيب . محضر الله : هو معهم أينما كانوا . .
( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ) . .
وهذه لمسة أخرى ترجف وتزلزل . . إن مجرد حضور الله وسماعه أمر هائل . فكيف إذا كان لهذا الحضور والسماع ما بعده من حساب وعقاب ? وكيف إذا كان ما يسره المتناجون وينعزلون به ليخفوه ، سيعرض على الأشهاد يوم القيامة وينبئهم الله به في الملأ الأعلى في ذلك اليوم المشهود ? !
وتنتهي الآية بصورة عامة كما بدأت :
وهكذا تستقر حقيقة العلم الإلهي في القلوب ، بهذه الأساليب المنوعة في عرضها في الآية الواحدة . الأساليب التي تعمق هذه الحقيقة في القلب البشري ، وهي تدخل بها عليه من شتى المسالك والدروب !
ثم قال تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم ، وسماعه كلامهم ، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا ، فقال :{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ }أي : من سر ثلاثة{ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } أي : يطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به ، مع علم الله وسمعه لهم ، كما قال :{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ التوبة : 78 ] ، وقال{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ؛ ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى{[28392]} ، ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم ، وبصره نافذ فيهم ، فهو ، سبحانه ، مطلع على خلقه ، لا يغيب عنه من أمورهم شيء .
ثم قال :{ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم .
{ ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض }كليا وجزئيا ، ما يكون من نجوى ثلاثة أي ما يقع من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يقدر مضاف أو يؤول نجوى بمتناجين ويجعل ثلاثة صفة لها واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإن السر أمر مرفوع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه ، { إلا هو رابعهم } إلا الله يجعلهم أربعة من حيث أنه يشاركهم في الاطلاع عليها والاستثناء من أعم الأحوال ، { ولا خمسة } ولا نجوى خمسة { إلا هو سادسهم } وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة فإن الأية نزلت في تناجي المنافقين ، أو لأن الله تعالى وتر يحب الوتر والثلاثة أول الأوتار أو لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينهما ، وقرىء ثلاثة و خمسة بالنصب على الحال بإضمار يتناجون أو تأويل نجوى بمتناجين ولا أدنى من ذلك ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين ، ولا أكثر كالستة وما فوقها إلا هو معهم يعلم ما يجري بينهم ، وقرأ يعقوب ولا أكثر بالرفع عطفا على محل من نجوى أو محل لا أدنى بأن جعلت لا لنفي الجنس أينما كانوا فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة تفضيحا لهم وتقريرا لما يستحقونه من الجزاء إن الله بكل شيء عليم لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل على السواء .
وقوله تعالى : { من نجوى ثلاثة } ، يحتمل { من نجوى } أن يكون مصدراً مضافاً إلى { ثلاثة } ، كأنه قال : من سرار ثلاثة ، ويحتمل { نجوى } أن يكون المراد به جمعاً من الناس مسمى بالمصدر كما قال في آية أخرى : { وإذ هم نجوى }{[11004]} [ الإسراء : 47 ] أي أولو نجوى ، فيكون قوله تعالى : { ثلاثة } على هذا بدلاً { من نجوى } وفي هذا نظر .
وقوله تعالى : { إلا هو رابعهم } أي بعلمه وإحاطته ومقدرته .
وقرأ جمهور الناس : «ما يكون » وقرأ أبو جعفر القارئ وأبو حيوة : «ما تكون » بالتاء منقوطة من فوق ، وفي مصحف ابن مسعود : «ولا أربعة إلا الله خامسهم » ، وكذلك : «إلا الله رابعهم » ، و : «إلا الله سادسهم » .
وقرأ جمهور القراء : «ولا أكثر » عطفاً على اللفظ المخفوض ، وقرأ الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق : «ولا أكثرُ » بالرفع عطفاً على الموضع ، لأن التقدير ما يكون نجوى ، ومن جعل النجوى مصدراً محضاً قدر قبل { أدنى } فعلاً تقديره : ولا يكون أدنى ، وقرأ الخليل بن أحمد : «ولا أكبر » ، بالباء واحدة من تحت ، وباقي الآية بين .