معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا : إن محمداً شاعر ، وما يقوله شعر ، فأنزل الله تكذيباً لهم : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } أي : ما يتسهل له ذلك ، وما كان يتزن له بيت من شعر ، حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد الثقفي ، أنبأنا أحمد بن جعفر بن همدان ، حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان ، أنبأنا موسى بن إسماعيل ، أنبأنا حماد بن سلمة ، عن علي بن همدان ، حدثنا يوسف بن أبي زيد ، عن الحسن أن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت* كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً* فقال أبو بكر يا رسول الله إنما قال الشاعر : *كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً* فقال أبو بكر ، وعمر أشهد أنك رسول الله ، يقول الله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أنبأنا شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال : قلت لعائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة . قالت : وربما قال : *ويأتيك بالأخبار من لم تزود*فأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم :*ويأتيك من لم تزود بالأخبار*وقالت : وربما قال : ويأتيك بالأخبار من لم تزود ، وقال معمر عن قتادة : بلغني أن عائشة سئلت : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس ، طرفة :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول : ( ( ويأتيك من لم تزود بالأخبار ) ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : ليس هكذا يا رسول الله ، فقال : إني لست بشاعر ولا ينبغي لي " { إن هو } يعني : القرآن ، { إلا ذكر } موعظة ، { وقرآن مبين } فيه الفرائض والحدود والأحكام .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

{ 69 - 70 } { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }

ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، عما رماه به المشركون ، من أنه شاعر ، وأن الذي جاء به شعر فقال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أن يكون شاعرا ، أي : هذا من جنس المحال أن يكون شاعرا ، لأنه رشيد مهتد ، والشعراء غاوون ، يتبعهم الغاوون ، ولأن اللّه تعالى حسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله ، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ ، وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي له ، { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب ، جميع المطالب الدينية ، فهو مشتمل عليها أتم اشتمال ، وهو يذكر العقول ، ما ركز اللّه في فطرها من الأمر بكل حسن ، والنهي عن كل قبيح .

{ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ } أي : مبين لما يطلب بيانه . ولهذا حذف المعمول ، ليدل على أنه مبين لجميع الحق ، بأدلته التفصيلية والإجمالية ، والباطل وأدلة بطلانه ، أنزله اللّه كذلك على رسوله .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

ثم رد - سبحانه - على الكافرين الذين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر ، كما قالوا عن القرآن أنه شعر ، فقال - تعالى - :

{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا . . . } .

أى : وما عَلَّمْنا الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما الذى علمناه إياه هو القرآن الكريم ، المشتملع لى ما يسعد الناس فى دنياهم وفى آخرتهم .

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، نفى أن يكون القرآن شعرا بأبلغ وجه لأن الذى علمه الله - تعالى - لنبيه هو القرآن وليس الشعر ، وما دام الأمر كذلك فالقرآن ليس شعراً .

وقوله - تعالى - : { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أى : ما علمناه الشعر ، وإنما علمناه القرآن ، فقد اقتضت حكمتنا أن لا نجعل الشعر فى طبعه صلى الله عليه وسلم ولا فى سليقته ، فحتى لو حاوله - على سبيل الفرض - فإنه لا يتأتى له ، ولا يسهل عليه ولا يستقيم مع فطرته صلى الله عليه وسلم .

والضمير فى قوله - تعالى - : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } يعود إلى القرآن الكريم :

أى : ما هذا القرآن الكريم إلا ذكر من الأذكار النافعة ، والمواعظ الناجحة ، والتوجيهات الحكيمة ، وهو فى الوقت نفسه { وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } أى : كتاب مقروء من الكتب السماوية الواضحة ، التى لا تختلط ولا تلتبس بكلام البشر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة . . قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية . وقضية البعث والنشور . . تستعرض في مقاطع مفصلة . مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة . كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها . ويتمثل هذا المعنى مركزاً في النهاية في الآية التي تختم السورة : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) . . فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم . وهي خلقت الإنسان من نطفة . وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة . وهي جعلت من الشجر الأخضر ناراً . وهي أبدعت السماوات والأرض . وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود . . وذلك قوام هذا المقطع الأخير . .

( وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين . لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) . .

وردت قضية الوحي في أول السورة : ( يس والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم . لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . . . ) . . والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه شاعر ؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر . وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك . وأن ما جاءهم به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قول غير معهود في لغتهم . وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر . إنما كان هذا طرفاً من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه [ صلى الله عليه وسلم ] في أوساط الجماهير . معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر ، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه .

وهنا ينفي الله - سبحانه - أنه علم الرسول الشعر . وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم . فما يعلم أحد شيئاً إلا ما يعلمه الله . .

ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : وما ينبغي له فللشعر منهج غير منهج النبوة . الشعر انفعال . وتعبير عن هذا الانفعال . والانفعال يتقلب من حال إلى حال . والنبوة وحي . على منهج ثابت . على صراط مستقيم . يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله . ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة ، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال .

والنبوة اتصال دائم بالله ، وتلق مباشر عن وحي الله ، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله . بينما الشعر - في أعلى صوره - أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته . فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد ، وفورة لحم ودم ! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس . هذه - في أعلى صورها - أشواق تصعد من الأرض . وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء . .

( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) . .

ذكر وقرآن . . وهما صفتان لشيء واحد . ذكر بحسب وظيفته . وقرآن بحسب تلاوته . فهو ذكر لله يشتغل به القلب ، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان . وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

وقوله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } : يقول تعالى مخبرًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم{[24822]} : أنه ما علمه الشعر ، { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي : وما هو في طبعه ، فلا يحسنه ولا يحبه ، ولا تقتضيه جِبِلَّته ؛ ولهذا وَرَدَ أنه ، عليه الصلاة والسلام ، كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ منتظم ، بل إن أنشده زَحَّفه أو لم يتمه .

وقال أبو زُرْعة الرازي : حُدِّثت عن إسماعيل بن مجالد ، عن أبيه ، عن الشعبي أنه قال : ما وَلَد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشِّعر ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكره ابن عساكر في ترجمة " عتبة بن أبي لهب " الذي أكله السَّبُع بالزرقاء . {[24823]}

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن الحسن{[24824]} - هو البصري - قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت :

كَفَى بالإسْلام والشيْب للمرْء نَاهيًا

فقال أبو بكر : يا رسول الله :

كَفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا . . .

قال أبو بكر ، أو عمر : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ }{[24825]} .

وهكذا روى البيهقي في الدلائل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : للعباس بن مرداس السلمي : " أنت القائل :

أتجعل نَهبي ونَهْب العُبَيد بين الأقرع وعيينة " .

فقال : إنما هو : " بين عيينة والأقرع " فقال : " الكل سواء " . {[24826]}

يعني : في المعنى ، صلوات الله وسلامه عليه .

وقد ذكر السهيلي في " الروض الأنف " لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه ، عليه السلام ، في هذا البيت مناسبة أغرب فيها ، حاصلها شَرَفُ الأقرع بن حابس على عُيَيْنَة بن بدر الفزاري ؛ لأنه ارتد أيام الصديق ، بخلاف ذاك ، والله أعلم .

وهكذا روى الأموي في مغازيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر ، وهو يقول : " نُفلق هَامًا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . " .

فيقول الصديق ، رضي الله عنه ، متمما للبيت :

. . . . . مِنْ رجَال أعزَّةٍ *** عَلَيْنَا وَهُم كَانُوا أعَقَّ وَأظلما

وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له ، وهي في الحماسة . {[24827]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا مغيرة ، عن{[24828]} الشعبي ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر ، تمثل فيه ببيت طَرَفَة :

ويَأْتِيكَ بالأخْبار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

وهكذا رواه النسائي في " اليوم والليلة " من طريق إبراهيم بن مهاجر ، عن الشعبي ، {[24829]} عنها . ورواه الترمذي والنسائي أيضًا من حديث المقدام بن شُرَيْح بن هانئ ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، كذلك . ثم قال{[24830]} الترمذي . هذا حديث حسن صحيح . {[24831]}

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أسامة ، عن زائدة ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار :

وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

ثم قال : رواه{[24832]} غير زائدة ، عن سِمَاك ، عن عِكرمة ، عن عائشة . {[24833]}

وهذا في شعر طرفة بن العبد ، في معلقته المشهورة ، وهذا المذكور [ هو عجز بيت ]{[24834]} منها ، أوله :

سَتُبْدي لكَ الأيامُ مَا كُنْتَ جَاهلا *** وَيَأتيك بالأخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تَبِع لهُ *** بَتَاتا ولم تَضرب له وَقْتَ مَوْعِدِ{[24835]}

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الحافظ ، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم - وكيل المتقي ببغداد - حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير ، حدثنا علي بن عمرو الأنصاري ، حدثنا سفيان بن عيينة{[24836]} ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط ، إلا بيتا واحدًا . {[24837]}

تَفَاءلْ بما تَهْوَى يَكُنْ فَلَقَلَّمَا *** يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إلا تَحَقَّقَا{[24838]}

سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزّي عن هذا الحديث ، فقال : هو منكر . ولم يعرف شيخ الحاكم ، ولا الضرير .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة : قيل لعائشة : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان أبغضَ الحديث إليه ، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس ، فيجعل أوله آخره ، وآخره أوله . فقال أبو بكر ليس هكذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي " . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وهذا لفظه . {[24839]}

وقال معمر عن قتادة : بلغنى أن عائشة سُئلت : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت : لا إلا بيت طَرَفَة :

سَتُبْدي لكَ الأيامُ مَا كُنْتَ جَاهلا *** وَيَأْتيك بالأخبارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

فجعل يقول : " مَن لم تُزَوّد بالأخبار " . فقال أبو بكر : ليس هذا هكذا . فقال : " إني لست بشاعر ، ولا ينبغي لي " {[24840]}

وثبت في الصحيحين أنه ، عليه الصلاة والسلام ، تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة ، ولكن تبعًا لقول أصحابه ، فإنهم يرتجزون وهم يحفرون ، فيقولون :

لاهُمَّ لوْلا أنت{[24841]} مَا اهْتَدَيْنَا مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا

فَأَنزلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا *** وَثَبِّت الأقْدَامَ إنْ لاقَيْنَا

إنّ الألى قَدْ بَغَوا عَليْنَا *** إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

ويرفع صوته بقوله : " أبينا " ويمدها{[24842]} . وقد روي هذا بزحاف في الصحيح أيضًا . وكذلك ثبت أنه قال يوم حنين وهو راكب البغلة ، يُقدم بها في نحور العدو :

أنا النَّبِيّ لا كَذِبْ *** أنَا ابْنُ عُبْد المُطَّلِبْ{[24843]}

لكن قالوا : هذا وقع اتفاقًا من غير قصد لوزن شعر ، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه .

وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جُنْدَب بن عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فَنَكِبت أصبعه ، فقال :

هَلْ أنْت إلا إصْبَعٌ دَمِيت *** وفي سَبيل الله مَا لَقِيت{[24844]}

وسيأتي عند قوله تعالى : { إِلا اللَّمَمَ } [ النجم : 32 ] إنشاد{[24845]}

إنْ تَغْفر اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأيُّ عَبْدٍ لكَ مَا ألَمَّا

وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما عُلِّم شعرًا ولا ينبغي له ؛ فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم ، الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] . وليس هو{[24846]} بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش ، ولا كهانة ، ولا مفتعل ، ولا سحر يُؤثر ، كما تنوعت فيه أقوال الضُّلال{[24847]} وآراء الجُهَّال . وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعًا وشرعًا ، كما رواه أبو داود قال :

حدثنا عبيد الله بن عُمَر ، حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا شرحبيل بن يزيد المَعَافري ، عن عبد الرحمن{[24848]} بن رافع التنوخي قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول{[24849]} : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ]{[24850]} : ما أبالي ما أوتيت إن أنا شَربت ترياقًا ، أو تعلقت تميمة ، أو قلت الشعر من قبل نفسي " . تفرد به أبو داود . {[24851]}

وقال{[24852]} الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن الأسود بن شيبان ، عن أبي نوفل قال : سألتُ عائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع عنده الشعر ؟ فقالت : كان أبغض الحديث إليه . وقال عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء ، ويدع ما بين ذلك . {[24853]}

وقال أبو داود : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ، خير له من أن يمتلئ شعرًا » . تفرد به من هذا الوجه ، وإسناده على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . {[24854]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا بريد ، حدثنا قَزَعةُ بن سُوَيْد الباهلي ، عن عاصم بن مَخْلَد ، عن أبي الأشعث ، الصنعاني( ح ) وحدثنا الأشيب فقال : عن ابن عاصم ، عن [ أبي ]{[24855]} الأشعث{[24856]} عن شَدَّاد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة ، لم تقبل له{[24857]} صلاة تلك الليلة " . {[24858]}

وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة . والمراد بذلك نظمه لا إنشاده ، والله أعلم . على أن الشعر فيه ما هو مشروع ، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رَوَاحة ، وأمثالهم وأضرابهم ، رضي الله عنهم أجمعين . ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب ، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية ، ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي الله صلى الله عليه وسلم : " آمن شعره وكفر قلبه " . {[24859]} وقد أنشد بعض الصحابة منه للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت ، يقول عقب كل بيت : " هيه " . يعني يستطعمه ، فيزيده من ذلك . {[24860]}

وقد روى أبو داود من حديث أُبي بن كعب ، وبُريدة بن الحُصَيْب{[24861]} ، وعبد الله بن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من البيان سحرًا ، وإن من الشعر حكما " {[24862]} .

ولهذا قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم ما علمه الله شعرًا ، { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي : وما يصلح له ، { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : ما هذا الذي علمناه ، { إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره . ولهذا قال : { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا }


[24822]:- في أ : "صلوات الله وسلامه عليه.
[24823]:- لم أجد ترجمته فيما بين يدي من تاريخ دمشق، ولا في المختصر لابن منظور.
[24824]:- في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن".
[24825]:- ورواه ابن سعد في الطبقات (1/382) من طريق عارم عن حماد بن زيد عن على بن زيد عن الحسن به مرسلاً.
[24826]:- دلائل النبوة للبيهقي (5/181).
[24827]:- الحماسة لأبي تمام (1/107).
[24828]:- في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده إلى".
[24829]:- المسند (6/31) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10834).
[24830]:- في ت : "وقال".
[24831]:- سنن الترمذي برقم (2848) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10835) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
[24832]:- في س : "ورواه".
[24833]:- رواه ابن سعد في الطبقات (1/383) من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عكرمة قال : سئلت عائشة فذكره نحوه.
[24834]:- زيادة من أ.
[24835]:- انظر ديوان طَرَفَةَ بن العبد ص (66).
[24836]:- في س : "حاشية بخط جمال الدين المزي هذا موضوع على ابن عيينة".
[24837]:- في أ : "واحدا فقال".
[24838]:- السنن الكبرى للبيهقي (7/43) وقال : "لم أكتبه إلا بهذا الإسناد، وفيهم مَنْ يجهل حاله".
[24839]:- تفسير الطبري (23/19).
[24840]:- رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/117) عن معمر عن قتادة، به.
[24841]:- في ت : "لولا الله".
[24842]:- صحيح البخاري برقم (7236) وصحيح مسلم برقم (1803) من حديث البراء بن عازب، رضي الله عنه.
[24843]:- صحيح البخاري برقم (2864) وصحيح مسلم برقم (1776).
[24844]:- صحيح البخاري برقم (2802) وصحيح مسلم برقم (1796).
[24845]:- في أ : "إنشاده".
[24846]:- في أ : "هذا".
[24847]:- في ت : "أقوال أهل الضلال".
[24848]:- في أ : "عبد الله".
[24849]:- في ت : "كما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال".
[24850]:- زيادة من ت، س، وأبي داود.
[24851]:- سنن أبي داود برقم (3869).
[24852]:- في ت : "وروى".
[24853]:- المسند (6/148).
[24854]:- سنن أبي داود برقم (5009).
[24855]:- زيادة من ت، س، والمسند.
[24856]:- في ت : " وروى الإمام أحمد بإسناده".
[24857]:- في ت : "لم يقبل الله له".
[24858]:- المسند (4/125).
[24859]:- رواه ابن عبد البر في التمهيد (4/7) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنه.
[24860]:- رواه مسلم في صحيحه برقم (2255) من حديث الشريد، رضي الله عنه.
[24861]:- في أ : "الخصيف".
[24862]:- سنن أبي داود برقم (5010 - 5012).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

{ وما علمناه الشعر } رد لقولهم أن محمدا شاعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن ، فإنه لا يماثله لفظا ولا معنى لأنه غير مقفى ولا موزون ، وليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغبة والمنفرة ونحوها . { وما ينبغي له } وما يصح له الشعر ولا يتأتى له أن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحوا من أربعين سنة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب "

وقوله :

هل أنت إلا اصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

اتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك ، وقد يقع مثله كثيرا في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعرا ، هذا وقد روي أنه حرك الباءين وكسر التاء الأولى بلا اشباع وسكن الثانية ، وقيل الضمير لل { قرآن } أي وما يصح للقرآن أن يكون شعرا . { إن هو إلا ذكر } عظة وإرشاد من الله تعالى { وقرآن مبين } وكتاب سماوي يتلى في المعابد ، ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز .