ثم حكى القرآن ما سيكون عليه حالهم من عذاب وحسرة بأسلوب مؤثر فقال : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
فالاستفهام هنا للاستعظام والتهويل والرد على مزاعمهم الباطلة .
وكيف في موضع نصب على الحال ، والعامل فيه محذوف أى فكيف تكون حالهم ، أو كيف يصنعون . ويجوز أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أى : فكيف حالهم .
قال الفخر الرازى : أما قوله { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } فالمعنى أنه لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل ، وينكشف فيه ذلك الغرور فقال : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } وفي الكلام حذف والتقدير : فكيف صورتهم وحالهم ، ويحذف الحال كثيراً مع كيف ، لدلالتها عليه تقول كنت أكرمه وهو لم يزرني ، فكيف لو زارني ، أى كيف حاله إذا زارني . وأعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل : " لو زارني ، وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية " .
والمعنى : فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب فى مجيئه وحصوله ، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي أدعوها في الدنيا { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من خير أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } شيئاً ، بل يجازى كل إنسان على حسب عمله ، لا شك أنهم فى هذا اليوم الهائل الشديد سيفاجأون بذهاب غرورهم ، وبفساد تصورهم ، وأنهم سيقعون في العذاب الأليم الذى لا حيلة لهم في دفعه ، ولا مخلص فهم من ذوقه
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال الزمخشري : " روى أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود ، فيفضحهم الله على رءوس الأشهاد ، ثم يأمر بهم إلى النار " . وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد وبخت أحبار اليهود الذين يعرضون عن الحق توبيخاً شديداً ، وأبطلت أكاذيبهم وغرورهم ، وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم ، وصورت حالهم يوم القيامة تصويراً مؤثراً هائلا تهتز له القلوب ، وترتجف منه الأفئدة ويحمل العقلاء على التزود من التقوى والعمل الصالح حتى يفوزوا برضا الله .
( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ، ووفيت كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) ؟
كيف ؟ إنه التهديد الرعيب الذي يشفق القلب المؤمن أن يتعرض له وهو يستشعر جدية هذا اليوم وجدية لقاء الله ، وجدية عدل الله ؛ ولا يتميع تصوره وشعوره مع الأماني الباطلة والمفتريات الخادعة . . وهو بعد تهديد قائم للجميع . . مشركين وملحدين ، وأهل كتاب ومدعي إسلام ، فهم سواء في أنهم لا يحققون في حياتهم الإسلام !
( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ) . . وجرى العدل الإلهي مجراه ؟ ( ووفيت كل نفس ما كسبت ) . . بلا ظلم ولا محاباة ؟ ( وهم لا يظلمون ) . . كما أنهم لا يحابون في حساب الله ؟
سؤال يلقى ويترك بلا جواب . . وقد اهتز القلب وارتجف وهو يستحضر الجواب !
قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } أي : كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله ، ومحاسبهم عليه ، ومجازيهم به ؛ ولهذا قال : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } لا شك في وقوعه وكونه { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } .
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَكَيْفَ إذَا جَمَعْناهُمْ } فأيّ حال يكون حال هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول ، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله واغترارهم بربهم ، وافترائهم الكذب . وذلك من الله عزّ وجلّ وعيد لهم شديد ، وتهديد غليظ . وإنما يعني بقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } . . . الاَية : فما أعظم ما يلقون من عقوبة الله وتنكيله بهم إذا جمعهم ليوم يوفى كل عامل جزاء عمله على قدر استحقاقه غير مظلوم فيه ، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم ، ولا يؤاخذ إلا بما عمل ، يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لا يخاف أحد من خلقه يومئذ ظلما ولا هضما .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { فَكَيْفَ إذَا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبٍ فِيهِ } ولم يقل : في يوم لا ريب فيه ؟ قيل : لمخالفة معنى اللام في هذا الموضع معنى في ، وذلك أنه لو كان مكان اللام «في » لكان معنى الكلام : فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب ، وليس ذلك المعنى في دخول اللام ، ولكن معناه مع اللام ، فكيف إذا جمعناهم لما يحدث في يوم لا ريب فيه ، ولما يكون في ذلك اليوم من فصل الله القضاء بين خلقه ، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب ؟ فمع اللام في : { لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } نية فعل وخبر مطلوب قد ترك ذكره ، أجزأت دلالة دخول اللام في اليوم عليه منه ، وليس ذلك مع «في » فلذلك اختيرت اللام فأدخلت في «ليوم » دون «في » .
وأما تأويل قوله : { لا رَيْبَ فِيهِ } فإنه لا شكّ في مجيئه ، وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية ، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وعنى بقوله : { وَوُفّيَتْ } ووفى الله { كلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ } يعني ما عملت من خير وشرّ ، { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } يعني أنه لا يبخس المحسن جزاء إحسانه ، ولا يعاقب مسيئا بغير جرمه .
قوله : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } تفريع عن قوله : { وغرهم في دينهم } أي إذا كان ذلك غروراً فكيف حالهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم ووفيناهم جزاءهم والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والتفظيع مجازاً .
« وكيف » هنا خبر لمحذوف دل على نوعه السياق ، و { إذا } ظرف منتصب بالذي عمِلَ في مظروفه : وهو ما في كيف من معنى الاستفهام التفظيعي كقولك : كيف أنت إذا لقيت العدوّ ، وسيجيء زيادة بيان لمثل هذا التركيب عند قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } في سورة [ النساء : 41 ] .