التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (25)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ( 23 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( 24 ) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( 25 ) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 26 ) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 27 ) } [ 23 27 ] .

عبارة الآيات واضحة . وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه ، وإنذارا لهم وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب .

تعليق على الآية

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ . . . } إلخ

والآيات التالية لها إلى الآية [ 27 ]

روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات . فرووا في سبب نزول الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا . كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا . ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به ؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا . وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون : هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للرد عليهم . ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة . فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر ، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها ، وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سليمان الفارسي عن ذلك فقال له : أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده ، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم . ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به " لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوة من بني إسرائيل " .

وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح . ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [ 93 ] من هذه السورة{[410]} . ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة ؛ لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة . والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة ما . وحجاج اليهود في ملة إبراهيم ويهوديته قد حكته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل . مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات .

وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة ، فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف . وجملة { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [ 80 ] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود . والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به . فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم . وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [ 89 90 ] فذكرتهم الآيتان [ 21 22 ] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه ، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم ، وهو ما ذكرته عنهم الآيات [ 85 88 ] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم لما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [ 157 ] وهي : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . . . } [ 157 ] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله ، ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب .

وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [ 26 27 ] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول : إن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه .

على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران ، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا . والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم . وفي آية الأعراف [ 157 ] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا .

ولقد ذكرنا أن قول اليهود { لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } قد حكي عنهم في الآية [ 80 ] من سورة البقرة ، فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد . ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه .

ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران . فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه . والله تعالى أعلم .

والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها . وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيه متمسكا بهواه . أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة ، ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزه وآتاه الملك ووسع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه ، وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس .


[410]:أنظر التاج، ج 4 ص 72.