مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (25)

أما قوله تعالى : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل ، ويكشف فيه ذلك الغرور فقال { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } وفي الكلام حذف ، والتقدير : فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيرا مع كيف لدلالته عليها تقول : كنت أكرمه وهو لم يزرني ، فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني ، واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل : لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية .

أما قوله تعالى : { إذا جمعناهم ليوم } ولم يقل في يوم ، لأن المراد : لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلت اللام عليه ، قال الفراء : اللام لفعل مضمر إذا قلت : جمعوا ليوم الخميس ، كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت : جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلا وأيضا فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب ، وقوله { لا ريب فيه } أي لا شك فيه .

ثم قال : { ووفيت كل نفس ما كسبت } فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف ، والتقدير : ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب ، وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار .

ثم قال : { وهم لا يظلمون } فلا ينقص من ثواب الطاعات ، ولا يزاد على عقاب السيئات .

واعلم أن قوله { ووفيت كل نفس ما كسبت } يستدل به القائلون بالوعيد ، ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار ، أما الأولون قالوا : لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة ، والآية دلت على أن كل نفس توفي عملها وما كسبت ، وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة .

وجوابنا : أن هذا من العمومات ، وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات .

وأما أصحابنا فإنهم يقولون : إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله { ووفيت كل نفس ما كسبت } فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع ، وإما أن يقال : يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبدا مخلدا وهو المطلوب .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم ؟ .

قلنا : هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة ، وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر ، والمنازع فيه مكابر ، فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر ، وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول : ثواب إيمان لحظة ، يسقط كفر سبعين سنة ، فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة ، ولا شك أنه كلام ظاهر .