{ وَقَالَ مُوسَى } حين زعموا أن الذي جاءهم به سحر وضلال ، وأن ما هم عليه هو الهدى : { رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } أي : إذا لم تفد المقابلة معكم ، وتبيين الآيات البينات ، وأبيتم إلا التمادي في غيكم واللجاج على كفركم ، فاللّه تعالى العالم بالمهتدي وغيره ، ومن تكون له عاقبة الدار ، نحن أم أنتم { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } فصار عاقبة الدار لموسى وأتباعه ، والفلاح والفوز ، وصار لأولئك ، الخسار وسوء العاقبة والهلاك .
وقد رد عليهم موسى ردا منطقيا حكيما ، حكاه القرآن فى قوله : { وَقَالَ موسى ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ . . } .
أى : وقال موسى فى رده على فرعون وملئه : ربى الذى خلقنى وخلقكم ، أعلم منى ومنكم بمن جاء بالهدى والحق من عنده ، وسيحكم بينى وبينكم بحكمه العادل .
ولم يصرح موسى - عليه السلام - بأنه يريد نفسه ، بالإتيان بالهداية لهم من عند الله - تعالى - ليكفكف من عنادهم وغرورهم ، وليرخى لهم حبل المناقشة ، حتى يخرس ألسنتهم عن طريق المعجزات التى أيده الله - تعالى - بها .
وقوله : { وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار } معطوف على ما قبله .
أى : وربى - أيضا - أعلم منى ومنكم بمن تكون له النهاية الحسنة ، والعاقبة الحميدة .
قال الآلوسى : وقوله : { وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار } وهى الدنيا ، وعاقبتها أن يختم للإنسان بها ، بما يفضى به إلى الجنة بفضل الله - تعالى - وكرمه .
وقوله - سبحانه - { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } تذييل قصديه ببان سنة من سننه - تعالى - التى لا تتخلف أى أنه - سبحانه - قد اقتضت سنته أن لا يفوز الظالمون بمطلوب بل الذين يفوزون بالعاقبة الحميدة هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا .
( وقال موسى : ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون ) .
وهو رد مؤدب مهذب ، يلمح فيه ولا يصرح . وفي الوقت ذاته ناصع واضح ، مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل . فربه أعلم بصدقه وهداه ، وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى ، والظالمون في النهاية لا يفلحون . سنة الله التي لا تتبدل . وإن بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الإتجاه . سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَىَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَىَ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَقالَ مُوسَى مجيبا لفرعون : رَبّي أعْلَمُ بالمحق منا يا فرعون من المبطل ، ومن الذي جاء بالرشاد إلى سبيل الصواب والبيان عن واضح الحجة من عنده ، ومن الذي له العقبى المحمودة في الدار الآخرة منا . وهذه معارضة من نبيّ الله موسى عليه السلام لفرعون ، وجميل مخاطبة ، إذ ترك أن يقول له : بل الذي غرّ قومه وأهلك جنوده ، وأضلّ أتباعه أنت لا أنا ، ولكنه قال : رَبّي أعْلَم بِمَنْ جاءَ بالهُدَى مِنْ عِنْدِهِ ، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ ثم بالغ في ذمّ عدوّ الله بأجمل من الخطاب فقال : إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ يقول : إنه لا ينجح ولا يدرك طلبتهم الكافرون بالله تعالى ، يعني بذلك فرعون إنه لا يفلح ولا ينجح لكفره به .
ولما كذبوه ورموه بالسحر قارب موسى عليه السلام في احتجاجه وراعه تكذيبهم فرد الأمر إلى الله عز وجل وعول على ما سيظهره في شأنهم وتوعدهم بنقمة الله تعالى منهم ، وقرأ ابن كثير «قال موسى » بغير واو ، وقرأ غيره وجميع السبعة «وقال » بواو ، وقرأ الجمهور «تكون » بالتاء ، وقرأ حمزة والكسائي «يكون » بالياء على التذكير إذ هي بمنزلة العاقب فهي كالصوت والصيحة والوعظ والموعظة .
لما قالوا قولاً صريحاً في تكذيبه واستظهروا على قولهم بأن ما جاء به موسى شيء من علمه آباؤهم أجاب موسى كلامهم بمثله في تأييد صدقه فإنه يعلمه الله ، فما عِلْمُ آبائهم في جانب عِلْم الله بشيء ، فلما تمسكوا بعلم آبائهم تمسك موسى بعلم الله تعالى ، فقد احتج موسى بنفسه ولم يكل ذلك إلى هارون .
وكان مقتضى الاستعمال أن يُحكى كلام موسى بفعل القول غير معطوف بالواو شأن حكاية المحاورات كما قدمناه غير مرة ، فخولف ذلك هنا بمجيء حرف العطف في قراءة الجمهور غير ابن كثير لأنه قصد هنا التوازن بين حجة ملأ فرعون وحجة موسى ، ليظهر للسامع التفاوت بينهما في مصادفة الحق ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلهذا عطفت الجملة جرياً على الأصل غير الغالب للتنبيه على أن فيه خصوصية غير المعهودة في مثله فتكون معرفة التفاوت بين المحتجين مُحالة على النظر في معناهما . وقرأ ابن كثير { قال موسى } بدون واو وهي مرسومة في مصحف أهل مكة بدون واو على أصل حكاية المحاورات وقد حصل من مجموع القراءتين الوفاء بحق الخصوصيتين من مقتضى حالي الحكاية . وعبر عن الله بوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره للتنصيص على أن الذي يعلم الحق هو الإله الحق لا آلهتهم المزعومة .
ويظهر أن القبط لم يكن في لغتهم اسم على الرب واجب الوجود الحق ولكن أسماء آلهة مزعومة .
وعبر في جانب { من جاء بالهدى } بفعل المضي وفي جانب { من تكون له عاقبة الدار } بالمضارع لأن المجيء بالهُدى المحقق والمزعوم أمر قد تحقق ومضى سواء كان الجائي به موسى أم آباؤهم الأولون وعلماؤهم . وأما كيان عاقبة الدار لمن فمرجو لما يظهر بعد . ففي قوله { ربي أعلم بمن جاء بالهدى } إشهادٌ لله تعالى وكلام منصف ، أي ربي أعلم بتعيين الجائي بالهدى أنحن أم أنتم على نحو قوله تعالى { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] .
وفي قوله : { ومن تكون له عاقبة الدار } تفويض إلى ما سيظهر من نصر أحد الفريقين على الآخر وهو تعريض بالوعيد بسوء عاقبتهم .
و { عاقبة الدار } كلمة جرت مجرى المثل في خاتمة الخير بعد المشقة تشبيهاً لعامل العمل بالسائر المنتجع إذا صادف دار خصب واستقرّ بها وقال الحمد لله الذي أحلّنا دار المُقامة من فضله . فأصل عاقبة الدار : الدار العاقبة . فأضيفت الصفة إلى موصوفها .
والعاقبة : هي الحالة العاقبة ، أي التي تعقب ، أي تجيء عقب غيرها ، فيؤذن هذا اللفظ بتبدل حال إلى ما هو خير ، فلذلك لا تطلق إلا على العاقبة المحمودة . وقد تقدم في سورة [ الأنعام : 135 ] قوله { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } وفي سورة [ الرعد : 22 ] قوله { أولئك لهم عقبى الدار } وقوله { وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار } [ الرعد : 42 ] .
وقرأ الجمهور { تكون } بالمثناة الفوقية على أصل تأنيث لفظ { عاقبة الدار } وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية على الخيار في فعل الفاعل المجازيّ التأنيث .
وأيد ذلك كله بجملة { إنه لا يفلح الظالمون } ، دلالة على ثقته بأنه على الحق وذلك يفُتّ من أعضادهم ، ويلقي رعب الشك في النجاة في قلوبهم . وضمير { إنه } ضمير الشأن لأن الجملة بعده ذات معنى له شأن وخطر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{و} لما كذبوه بما جاء به {قال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده} فإني جئت بالهدى من عند الله عز وجل، {و} هو أعلم ب {من تكون له عاقبة الدار} يعني دار الجنة ألنا أو لكم؟ ثم قال: {إنه لا يفلح الظالمون} في الآخرة لا يفوز المشركون، يعني لا يسعدون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقالَ مُوسَى" مجيبا لفرعون: "رَبّي أعْلَمُ "بالمحق منا يا فرعون من المبطل، ومن الذي جاء بالرشاد إلى سبيل الصواب والبيان عن واضح الحجة من عنده، ومن الذي له العقبى المحمودة في الدار الآخرة منا. وهذه معارضة من نبيّ الله موسى عليه السلام لفرعون، وجميل مخاطبة، إذ ترك أن يقول له: بل الذي غرّ قومه وأهلك جنوده، وأضلّ أتباعه أنت لا أنا، ولكنه قال: "رَبّي أعْلَم بِمَنْ جاءَ بالهُدَى مِنْ عِنْدِهِ، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ" ثم بالغ في ذمّ عدوّ الله بأجمل من الخطاب فقال: "إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ" يقول: إنه لا ينجح ولا يدرك طلبتهم الكافرون بالله تعالى، يعني بذلك فرعون إنه لا يفلح ولا ينجح لكفره به.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم حكى ما قال موسى بأنه قال "ربي أعلم بمن جاء بالهدى "أي بالدين الواضح والحق المبين من عنده، ووجه الاحتجاج بقوله "ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده" أنه عالم بما يدعو إلى الهدى مما يدعو إلى الضلال، فلا يمكن من مثل ما أتيت به من يدعو إلى الضلال، لأنه عالم بما في ذلك من فساد العباد ثم بين هذا بقوله "إنه لا يفلح الظالمون" وان عاقبة الصلاح لأهل الحق والإنصاف، وهو كما تقول على طريق المظاهرة بحمل الخطاب: الله أعلم بالمحق منا من المبطل وحجتي ظاهرة، فاكسرها إن قدرت على ذلك "ومن تكون له عاقبة الدار" يعني الجنة والثواب في الآخرة "إنه لا يفلح" أي لا يفوز بالخير من ظلم نفسه وعصى ربه وكفر نعمه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {عاقبة الدار} هي العاقبة المحمودة. والدليل عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار جنات عَدْنٍ} [الرعد: 22-23] وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار} [الرعد: 42] والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. فإن قلت: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار؛ لأنّ الدنيا إمّا أن تكون خاتمتها بخير أو بشر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها الله فقد حرف؛ فإذاً عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير. وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها؛ لأنها من نتائج تحريف الفجار. وقرأ ابن كثير: «قال موسى» بغير واو، على ما في مصاحف أهل مكة، وهي قراءة حسنة؛ لأنّ الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة: سحراً مفترى. ووجه الأخرى: أنهم قالوا ذلك. وقال موسى عليه السلام هذا، ليوازن الناظر بين القول والمقول، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشْيَاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر تعالى بقولهم عطف عليه الإخبار بقول موسى عليه الصلاة والسلام ليوازن السامع بين الكلامين، ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما "فبضدها تتبين الأشياء "هذا على قراءة الجماعة بالواو، واستأنف جواباً لمن كأنه سأل عن جوابه على قراءة ابن كثير بحذفها، فإن الموضع موضع بحث عما أجابهم به عند تسميتهم الآيات الباهرات سحراً، استعظاماً لذلك فقال: {وقال موسى} أي لما كذبوه وهم الكاذبون، مشيراً لذي البصر إلى طريق يميزون به الأمرين في سياق مهدد لهم: {ربي} أي المحسن إليّ بما ترون من تصديقي في كل ما ادعيته بإظهار ما لا تقدرون عليه على قوتكم من الخوارق، ومنع هذا الظالم العاتي المستكبر من الوصول إليّ بسوء {أعلم بمن جاء} بالضلال ظلماً وعدواناً، فيكون مخذولاً لكونه ساحراً فمحرقاً مفترياً على الله، ويكون له سوء الدار، وأعلم بحاله، ولكنه قال "بمن جاء" {بالهدى} أي الذي أذن الله فيه، وهو حق في نفسه {من عنده}، تصويراً لحاله، وتشويقاً إلى أتباعه {ومن تكون له} لكونه منصوراً مؤيداً {عاقبة الدار} أي الراحة والسكن والاستقرار مع الأمن والطمأنينة والسرور والظفر بجميع المطالب في الحالة التي تكون آخر الحالات مني ومنكم، فيعلم أنه أتى بما يرضي الله وهي وإن كانت حقيقتها ما يتعقب الشيء من خير أو شر، لكنها لا يراد بها إلا ما يقصد للعاقل حتى تكون له، وأما عاقبة السوء فهي عليه لا له؛ ثم علل ذلك بما أجرى الله به عادته؛ فقال معلماً بأن المخذول هو الكاذب، إشارة إلى أنه الغالب لكون الله معه، مؤكداً لما استقر في الأنفس من أن التقوي لا يغلبه الضعيف {إنه لا يفلح} أي يظفر ويفوز {الظالمون} أي الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل، فهم لا يضعون قدماً في موضع يثقون بأنه صالح للمشي فيه، لا تبعة فيه فستنظرون {ولتعلمن نبأه بعد حين}.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
... {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون عن محذور، وحاصل كلام موسى عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهَّله سبحانه للفلاح الأعظم حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى، ولو كان كما تزعمون كاذباً ساحراً مفترياً لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبئ الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي هذا الأسلوب من أدب الخطاب في الحجاج والمناظرة ما لا يخفى، فهو لم يؤكد أن خصمه في ضلال كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما وهو يعلم أنه لأيهما، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بقوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (سبأ: 24).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وقال موسى: ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار، إنه لا يفلح الظالمون).
وهو رد مؤدب مهذب، يلمح فيه ولا يصرح. وفي الوقت ذاته ناصع واضح، مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل. فربه أعلم بصدقه وهداه، وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى، والظالمون في النهاية لا يفلحون. سنة الله التي لا تتبدل. وإن بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الاتجاه. سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعبر في جانب {من جاء بالهدى} بفعل المضي وفي جانب {من تكون له عاقبة الدار} بالمضارع لأن المجيء بالهُدى المحقق والمزعوم أمر قد تحقق ومضى سواء كان الجائي به موسى أم آباؤهم الأولون وعلماؤهم. وأما كيان عاقبة الدار لمن فمرجو لما يظهر بعد. ففي قوله {ربي أعلم بمن جاء بالهدى} إشهادٌ لله تعالى وكلام منصف، أي ربي أعلم بتعيين الجائي بالهدى أنحن أم أنتم على نحو قوله تعالى {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24]. وفي قوله: {ومن تكون له عاقبة الدار} تفويض إلى ما سيظهر من نصر أحد الفريقين على الآخر وهو تعريض بالوعيد بسوء عاقبتهم.
وتأمل هنا اللين وأدب الجدل عند موسى – عليه السلام – فلم يرد عليهم بالقسوة التي سمعها منهم ولم يتهمهم كما اتهموه، إنما رد بهذا الأسلوب اللبق، وبهذا الإيحاء: {ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار} ولم يقل: إني جئت بالهدى. ثم قال: {إنه لا يفلح الظالمون} سواء كنا نحن أم أنتم، ولم يقل أنتم الظالمون. لقد أطلق القضية، وترك للعقول أن تميز.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الذين عاشوا الظلم في كل موارده ومصادره، على مستوى العقيدة، في ما ظلموا به أنفسهم، وظلموا به الحقيقة من الكفر بالله، أو من الإشراك به، وفي ما ظلموا به الناس من الطغيان والتجبر والتعسف، والقتل والأسر والاضطهاد.