الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (164)

ويكون المعنى في قوله تعالى : " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا " أي قال الفاعلون للواعظين حين وعظوهم : إذا علمتم أن الله مهلكنا فلم تعظوننا ؟ فمسخهم الله قردة .

قوله تعالى : " قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون " أي قال الواعظون : موعظتنا إياكم معذرة إلى ربكم{[7436]} ؛ أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون . أسند هذا القول الطبري عن ابن الكلبي . وقال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق ، وهو الظاهر من الضمائر في الآية . فرقة عصمت وصادت ، وكانوا نحوا من سبعين ألفا . وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وإن هذه الطائفة قالت للناهية : لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن ، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية . فقالت الناهية : موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون . ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية : ولعلكم تتقون ، بالكاف . ثم اختلف بعد هذا . فقالت فرقة : إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي . قاله ابن عباس . وقال أيضا : ما أدري ما فعل بهم ؛ وهو الظاهر من الآية . وقال عكرمة : قلت لابن عباس لما قال ما أدري ما فعل بهم : ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا : لم تعظون قوما الله مهلكهم ؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نحوا ، فكساني حلة . وهذا مذهب الحسن . ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غير قوله : " وأخذنا الذين ظلموا " [ الأعراف : 165 ] . وقوله : " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت{[7437]} " [ البقرة : 65 ] الآية . وقرأ عيسى وطلحة " معذرة " بالنصب . ونصبه عند الكسائي من وجهين : أحدهما على المصدر . والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة . وهي قراءة حفص عن عاصم . والباقون بالرفع : وهو الاختيار ؛ لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه ، ولكنهم قيل لهم : لم تعظون ؟ فقالوا : موعظتنا معذرة . ولو قال رجل لرجل : معذرة إلى الله وإليك من كذا ، يريد اعتذارا لنصب . هذا قول سيبويه . ودلت الآية على القول بسد الذرائع . وقد مضى في ( البقرة ) . ومضى فيها الكلام في الممسوخ هل ينسل أم لا ، مبينا{[7438]} . والحمد لله . ومضى في آل عمران والمائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر{[7439]} . ومضى في ( النساء{[7440]} ) اعتزال أهل الفساد ومجانبتهم ، وأن من جالسهم كان مثلهم ، فلا معنى للإعادة .


[7436]:من ب و ج و ك و ى.
[7437]:راجع ج 1 ص 439 فما بعد.
[7438]:راجع ج 1 ص 439 فما بعد.
[7439]:راجع ج 4 ص 46 و ج 6 ص 253.
[7440]:راجع ج 5 ص 417 فما بعد.