معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

قوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى } . وهو وحي إلهام لا وحي نبوة ، قال قتادة : قذفنا في قلبها ، وأم موسى يوحابذ ينت لاوى بن يعقوب ، { أن أرضعيه } واختلفوا في مدة الرضاع ، قيل ثمانية أشهر ، وقيل : أربعة أشهر . وقيل : ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها ، وهو يبكي ولا يتحرك ، { فإذا خفت عليه } يعني : من الذبح ، { فألقيه في اليم } واليم : البحر ، وأراد هاهنا النيل ، { ولا تخافي } قيل : لا تخافي عليه من الغرق ، وقيل : من الضيعة ، { ولا تحزني } على فراقه ، { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } روى عطاء عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر ، استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها ، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى ، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها فقالت : قد نزل بي ما نزل ، فلينفعني حبك إياي اليوم ، قالت : فعالجت قبالتها ، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عيني موسى ، فارتعش كل مفصل منها ، ودخل حب موسى قلبها . ثم قالت لها : يا هذا ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومرادي قتل مولودك ، ولكن وجدت لابنك هذا حباً ما وجدت حب شيء مثل حبه ، فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدونا ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون ، فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب ، فلفت موسى في خرقة ، فوضعته في التنور وهو مسجور ، وطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع . قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ، ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن ، فقالوا لها : ما أدخل عليك القابلة ؟ قالت : هي مصافية لي فدخلت علي زائرة ، فخرجوا من عندها ، فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى : فأين الصبي ؟ قالت لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله سبحانه وتعالى النار عليه برداً وسلاماً فاحتملته . قال : ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتاً فتجعله فيه ثم تقذف التابوت في اليم وهو النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتاً صغيراً ، فقال لها النجار : ما تصنعين بهذا التابوت ، قالت : ابن لي أخبئه في التابوت ، وكرهت الكذب ، قال ولم تقل : أخشى عليه كيد فرعون ، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى ، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام ، وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول ، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه فضربوه وأخرجوه ، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم ، فانطلق أيضاً يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئاً ، فضربوه وأخرجوه ، فوقع في واد يهوي فيه حيران ، فجعل لله عليه إن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيثما كان ، فعرف الله منه الصدق فرد عليه لسانه وبصره فخر لله ساجداً ، فقال : يا رب دلني على هذا العبد الصالح ، فدله الله عليه ، فخرج من الوادي فآمن به وصدقه ، وعلم أن ذلك من الله عز وجل . وقال وهب بن منبه : لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس ، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله ، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن يفتشن النساء تفتيشاً لم يفتشن قبل ذلك مثله ، وحملت أم موسى ، فلم ينتأ بطنها ، ولم يتغير لونها ، ولم يظهر لبنها ، وكانت القوابل لا تتعرض لها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم ، فأوحى الله إليها أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه الآية ، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها ، لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه عملت تابوتاً له مطبقاً ثم ألقته في البحر ليلاً . قال ابن عباس وغيره : وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون ، وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها ، فقالوا أيها الملك : لا تبرأ إلا من قبل البحر ، يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطيء النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج ، فقال فرعون : إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فدنت منه آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بن عينيه ، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمصه لبناً ، فألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية ، وأحبه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون ، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ، فقبلته وضمته إلى صدرها ، فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر فرقاً منك فاقتله ، فهم فرعون بقتله ، قالت آسية :قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ، وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها " فقيل لآسية سميه فقالت : سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فموهو : الماء وسى : هو الشجر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

فأول ذلك ، لما أوجد اللّه رسوله موسى ، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه وبسببه ، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة ، التي يذبحون بها الأبناء ، أوحى إلى أمه أن ترضعه ، ويمكث عندها .

{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم ، { فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } أي نيل مصر ، في وسط تابوت مغلق ، { وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } فبشرها بأنه سيرده عليها ، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم ، ويجعله اللّه رسولا .

وهذا من أعظم البشائر الجليلة ، وتقديم هذه البشارة لأم موسى ، ليطمئن قلبها ، ويسكن روعها ، فإنها خافت عليه ، وفعلت ما أمرت به ، ألقته في اليم ، فساقه اللّه تعالى .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

ثم فصل - سبحانه - الحديث عن موسى - عليه السلام - فذكر ما ألهمه لأمه عند ولادته . وما قالته امرأة فرعون له عند التقاط آل فرعون لموسى ، وما كانت عليه أم موسى من حيرة وقلق ، وما قالته لأخته ، وكيف رد الله - تعالى - بفضله وكرمه موسى إلى أمه . .

لنستمع إلى السورة الكريمة ، وهى تفصل هذه الأحداث ، بأسلوبها البديع المؤثر فتقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . . } .

قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما قال : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا } ابتدأ بذكر أوائل نعمه فى هذا الباب فقال : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } .

والوحى إلى أم موسى ، يجوز أن يكون عن طريق الإلهام ، كما فى قوله - تعالى - : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل . . } أو عن طريق المنام ، أو عن طريق إرسال ملك أخبرها بذلك .

قال الآلوسى : والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك ، ولا ينافى ذلك الإجماع على عدم نبوتها ، لما أن الملائكة - عليهم السلام - قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم .

والظاهر - أيضا - أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة . . وقيل : كان قبلها . . .

و { أَنْ } فى قوله { أَنْ أَرْضِعِيهِ } مفسرة ، لأن الوحى فيه معنى القول دون حروفه .

والخوف : حالة نفسية تعترى الإنسان ، فتجعله مضطرب المشاعر ، لتوقعه حصول أمر يكرهه .

والحزن : اكتئاب نفسى يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه ، كموت عزيز لديه . أو فقده لشىء يحبه .

وفى الكلام حذف يعرف من السياق ، والتقدير : وحملت أم موسى به فى الوقت الذى كان فرعون يذبح الأبناء ، ويستحيى النساء ، وأخفت حملها عن غيرها ، فلما وضعته اصابها ما أصابها من خوف وفزع على مصير ابنها ، وهنا ألهمناها بقدرتنا وإرادتنا . وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه فى خفاء وكتمان { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من فرعون وحاشيته أن يقتلوه كما قتلوا غيره من أبناء بنى إسرائيل .

{ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } أى : فى البحر والمراد به نهر النيل ، وسمى بحرا لاتساعه ، وإن كان الغالب إطلاق البحر على المياه غير العذبة .

{ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } أى : ولا تخافى عليه من حصول مكروه له ، ولا تحزنى لمفارقته لك ، فهو فى رعايتنا وحمايتنا ، ومن رعاه الله - تعالى - وحماه ، فلا خوف عليه ولا حزن .

وجملة { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } تعليل لنهى عن الخوف والحزن ، وتبشير لها بأن ابنها سيعود إليها ، وسيكون من رسل الله - عز وجل - .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما المراد بالخوفين - فى الآية - حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر ؟

قلت : أما الأول ، فالخوف عليه من القتل ، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته ، فينموا عليه . وأما الثانى : فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ، ومن الوقوع فى يد بعض العيون المبثوتة من قبل فرعون لى تطلب الولدان .

فإن قلت : ما الفرق بين الخوف والحزن ؟ قلت : الخوف ، غم يلحق الإنسان لشىء متوقع .

والحزن : غم يلحقه لشىء وقع ، فنهيت عنهما جميعا وأومنت بالوحى إليها ، ووعدت بما يلسيها ، ويمطئن قلبها ، ويملؤها غبطة وسرورا ، وهو رده إليها . وجعله من المرسلين .

وهكذا نجد الآية الكريمة قد اشتملت على أبلغ الأساليب وأبدعها ، فى بيان قدرة الله - تعالى - ورعايته لمن يريد رعايته .

قالوا : مدح الأصمعى امرأة لإنشادها شعرا حسنا ، فقرأت هذه الآية الكريمة قم قالت له : أبعد هذه الآية فصاحة ، لقد اشتملت على أمرين وهما { أَرْضِعِيهِ } { فَأَلْقِيهِ } ونهيين وهما { لاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } وخبرين { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } وبشارتين فى ضمن الخبرين وهما : الرد والجعل المذكوران .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

ثم تبدأ القصة . ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار :

لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة ؛ ولد والخطر محدق به ، والموت يتلفت عليه ، والشفرة مشرعة على عنقه ، تهم أن تحتز رأسه . .

وها هي ذي أمه حائرة به ، خائفة عليه ، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين ، وترجف أن تتناول عنقه السكين ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة ، عاجزة عن حمايته ، عاجزة عن إخفائه ، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه ؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة . . ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة .

هنا تتدخل يد القدرة ، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة ، وتلقي في روعها كيف تعمل ، وتوحي إليها بالتصرف :

( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني ) . .

يا لله ! يا للقدرة ! يا أم موسى أرضعيه . فإذا خفت عليه وهو في حضنك . وهو في رعايتك . إذا خفت عليه وفي فمه ثديك ، وهو تحت عينيك . إذا خفت عليه ( فألقيه في اليم ) ! !

( ولا تخافي ولا تحزني )إنه هنا . . في اليم . . في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها ، اليد التي لا خوف معها . اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها . اليد التي تجعل النار بردا وسلاما ، وتجعل البحر ملجأ ومناما . اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب .

( إنا رادوه إليك ) . . فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده . . ( وجاعلوه من المرسلين ) . . وتلك بشارة الغد ، ووعد الله أصدق القائلين .

هذا هو المشهد الأول في القصة . مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح . وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردا وسلاما . ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى ، ولا كيف نفذته . إنما يسدل الستار عليها ، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل ، خافت القبط أن يُفْني بني إسرائيل{[22219]} فَيَلُون{[22220]} هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة . فقالوا لفرعون : إنه يوشك - إن استمر هذا الحال - أن يموت شيوخهم ، وغلمانهم لا يعيشون ، ونساؤهم لا يمكن أن يَقُمْن بما يقوم به رجالهم من الأعمال ، فيخلص إلينا ذلك . فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا ، فولد هارون ، عليه السلام ، في السنة التي يتركون فيها الولدان ، وولد موسى ، عليه السلام ، في السنة التي يقتلون فيها الولدان ، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك ، وقوابل يَدُرْنَ على النساء ، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها ، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط ، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن ، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون ، بأيديهم الشفار المرهفة ، فقتلوه ومضوا قَبَّحَهُم الله . فلما حملت أم موسى به ، عليه السلام ، لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها ، ولم تفطن لها الدايات ، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا ، وخافت عليه خوفًا شديدًا وأحبته حبًّا زائدًا ، وكان موسى ، عليه السلام ، لا يراه أحد إلا أحبه ، فالسعيد من أحبه طبعا وشرعًا قال الله تعالى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } [ طه : 39 ] . فلما ضاقت ذرعًا به ألهمت في سرها ، وألقي في خلدها ، ونفث في روعها ، كما قال الله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } . وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل ، فاتخذت تابوتًا ، ومهدَت فيه مهدًا ، وجعلت ترضع ولدها ، فإذا دخل عليها أحد مِمَّنْ تخاف جعلته في ذلك التابوت ، وسيرته{[22221]} في البحر ، وربطته{[22222]} بحبل عندها . فلما كان ذات يوم دخل عليها مَنْ تخافه ، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت ، وأرسلته في البحر وذهلت عن أن تربطه ، فذهب مع الماء واحتمله ، حتى مر به{[22223]} على دار فرعون ، فالتقطه الجواري فاحتملنه ، فذهبن به إلى امرأة فرعون ، ولا يدرين ما فيه ، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها . فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه ، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه ، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها ؛ ولهذا قال { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [ وَحَزَنًا ] } {[22224]} .


[22219]:- في ف : "أن تفنى بنو إسرائيل" وفي أ : "أن يفنى ينو إسرائيل".
[22220]:- في أ : "فيكون".
[22221]:- في ت : "وأرسلته".
[22222]:- في أ : "وأوثقته".
[22223]:- في أ : "حتى قربه".
[22224]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّ مُوسَىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيَ إِنّا رَآدّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } .

يقول تعالى ذكره : وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى حين ولدت موسى أنْ أرْضِعِيهِ .

وكان قَتادة يقول ، في معنى ذلك وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى : قذفنا في قلبها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى وحيا جاءها من الله ، فقذف في قلبها ، وليس بوحي نبوّة ، أن أرضعي موسى فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي . . . الاَية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى قال : قذف في نفسها .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر فرعون أن يذبح من ولد من بني إسرائيل سنة ، ويتركوا سنة فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى فلما أرادت وضعه ، حزنت من شأنه ، فأوحى الله إليها أنْ أرْضِعِيهِ فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَألْقِيهِ فِي اليَمّ .

واختلف أهل التأويل في الحال التي أمرت أمّ موسى أن تلقي موسى في اليم ، فقال بعضهم : أُمرت أن تلقيه في اليمّ بعد ميلاده بأربعة أشهر ، وذلك حال طلبه من الرضاع أكثر مما يطلب الصبيّ بعد حال سقوطه من بطن أمه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : أنْ أرْضِعِيهِ فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ قال : إذا بلغ أربعة أشهر وصاح وابتغى من الرضاع أكثر من ذلك فأَلْقِيهِ حينئذٍ في اليَمّ فذلك قوله : فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : لم يقل لها : إذا ولدتيه فألقيه في اليمّ ، إنما قال لها أنْ أرْضِعيهِ ، فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقيهِ فِي الْيَمّ بذلك أُمرت ، قال : جعلته في بستان ، فكانت تأتيه كلّ يوم فترضعه ، وتأتيه كلّ ليلة فترضعه ، فيكفيه ذلك .

وقال آخرون : بل أُمِرت أن تلقيه فِي اليم بعد ولادها إياه ، وبعد رضاعها . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما وضعته أرضعته ثم دعت له نجارا ، فجعل له تابوتا ، وجعل مفتاح التابوت من داخل ، وجعلته فيه ، فألقته في اليّم .

وأولى قول قيل في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر أمّ موسى أن ترضعه ، فإذا خافت عليه من عدوّ الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليمّ . وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادها إياه وأيّ ذلك كان ، فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه ، ولا خبر قامت به حجة ، ولا فطرة في العقل لبيان أيّ ذلك كان من أيٍّ ، فأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يُقال كما قال جلّ ثناؤه . واليمّ الذي أُمِرَت أن تلقيه فيه هو النيل . كما :

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَألْقِيهِ فِي الْيَمِ قال : هو البحر ، وهو النيل . وقد بيّنا ذلك بشواهده ، وذكر الرواية فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته .

وقوله : وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي يقول : لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه ، ولا تحزني لفراقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي قال : لا تخافي عليه البحر ، ولا تحزني لفراقه إنّا رَادّوه إلَيْكِ .

وقوله : إنّا رَادّوهُ إلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ يقول : إنا رادّو ولدك إليك للرضاع لتكوني أنت ترضعيه ، وباعثوه رسولاً إلى من تخافينه عليه أن يقتله ، وفعل الله ذلك بها وبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق إنّا رَادّوهُ إلَيْكِ وباعثوه رسولاً إلى هذه الطاغية ، وجاعلو هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

{ وأوحينا إلى أم موسى } بإلهام أو رؤيا . { أن أرضعيه } ما أمكنك إخفاؤه . { فإذا خفت عليه } بأن يحس به . { فألقيه في اليم } في البحر يريد النيل . { ولا تخافي } عليه ضيعة ولا شدة . { ولا تحزني } لفراقه . { إنا رادوه إليك } عن قريب بحيث تأمنين عليه . { وجاعلون من المرسلين } روي أنها لما ضر بها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها ، فلما وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعشت مفاصلها ودخل حبه في قلبها بحيث منعها من السعاية ، فأرضعته ثلاثة أشهر ثم ألح فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحصها فأخذت له تابوتا فقذفته في النيل .