قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا } . حيثما وجدوا .
قوله تعالى : { إلا بحبل من الله } . يعني : أينما وجدوا استضعفوا وقتلوا وسبوا فلا يؤمنون إلا بحبل عهد من الله تعالى بان يسلموا .
قوله تعالى : { وحبل من الناس } . من المؤمنين ببذل جزية أو أمان ، يعني إلا أن يعتصموا بحبل فيأمنوا .
قوله تعالى : { وباؤوا بغضب من الله } . رجعوا به .
قوله تعالى : { وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } .
ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم ، فلا يستقرون ولا يطمئنون { إلا بحبل } أي : عهد { من الله وحبل من الناس } فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم ، تؤخذ منهم الجزية ويستذلون ، أو تحت أحكام النصارى وقد { باءوا } مع ذلك { بغضب من الله } وهذا أعظم العقوبات ، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال ذكره الله بقوله : { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الموجبة لليقين والإيمان ، فكفروا بها بغيا وعنادا { ويقتلون الأنبياء بغير حق } أي : يقابلون أنبياء الله الذين يحسنون إليهم أعظم إحسان بأشر مقابلة ، وهو القتل ، فهل بعد هذه الجراءة والجناية شيء أعظم منها ، وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم ، فهو الذي جرأهم على الكفر بالله وقتل أنبياء الله .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض العقوبات التى عاقب بها اليهود بسبب كفرهم وظلمهم فقال : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } .
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة يقال ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا المعنى معان مجازية أخرى ترجع إلى شدة اللصوق .
والذلة على وزن فعلة من قول القائل : ذل فلان يذل ذلة وذلا . والمراج بها الصغار والهوان والحقارة .
فضرب الذلة عليهم كناية عن لزومها لهؤلاء اليهود ، وإحاطتها بهم ، كما يحيط السرادق بمن يكون فى داخله .
قال صاحب الكشاف : جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم ، فهم كمن يكون فى القبة من ضربت عليهم ، أو الصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه . فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة " .
و { ثقفوا } أى وجدوا ، أو ظفر بهم . يقال : ثقفه أى صادفه أو ظفر به أو أدركه . وهذه المادة تدل على التمكن من أخذ الشىء ومن التصرف فيه بشدة ومنها سمى الأسير ثقافا . والثقاف آلة تكسر بها أغماد الرماح .
والحبل : هو ما يربط بين شيئين ويطلق على العهد لأن الناس يرتبطون بالعهود : كما يقع الارتباط الحسى بالحبال ، وهذا الإطلاق هو المراد هنا .
ولذا قال ابن جرير : وأما الحبل الذى ذكره الله - تعالى - فى هذا الموضوع ، فإنه السبب الذى يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا فى بلاد الإسلام .
والمعنى : أن هؤلاء اليهود أحاطت بهم الذلة فى جميع أحوالهم أينما وجدوا وحيثما حلوا إلا فى حال اعتصامهم بعهد من الله أو بعهد من الناس .
وقد فسر العلماء عهد الله بعقد الجزية الذى يربط بينهم وبين المسلمين .
وإنما كان عقد الجزية عهدا من الله لهم ، لأنه - سبحانه - هو الذى شرعه ، وما شرعه الله فالوفاء به واجب .
وكان عهدا من المسلمين لهم ، لأنهم أحد طرفيه ، فهم الذين باشروه مع اليهود وبمقتضاه يحفظون حقوقهم ودماءهم وأموالهم ؛ ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، ولعى المسلمين حمايتهم ، وصون أموالهم لقاء مقدار من المال يدفع لهم كل عام وهو المسمى بالجزية .
وأما عهد الناس ، فهو العهود التى يعيشون بمقتضاها فى أى أمة من أمم الأرض مسلمة كانت هذه الأمة أو كافرة .
فإن كانت العهود صادرة من المسلمين ، جاز أن يطلق عليها عهد الله - أيضاً - باعتبار أن الله هو الذى شرعها .
وإن كانت من غير المسلمين فهى عهود من الناس سواء أوافقت شريعة الله تعالى - أم لا .
والمعنى الإجمالي للآية : أن اليهود قد ضرب الله - تعالى - عليهم الذلة والمسكنة فى كل زمان ومكان بسبب كفرهم وطغيانهم ، وسلب عنهم السلطان والملك ، فهم يعيشون فى بقاع الأرض فى حماية غيرهم من الأمم الأخرى ، بمقتضى عهود يعقدونها معهم وقد تكون هذه العهود موافقة لشرع الله - تعالى - وقد لا تكون موافقة .
فإن قال قائل : إنهم الآن أصحاب جاه وسلطان ، بعد أن أنشأوا دولتهم بفلسطين ! !
والجواب : أنهم مع قيام هذه الدولة يعيشون تحت حماية غيرهم من دول الكفر الكبرى . فهى التى تحميهم وتمدهم بأسباب الحياة والقوة ، فينطبق على هذه الحالة - أيضاً - أنها بحبل من الناس . فاليهود لا سلطان لهم ، ولا عزة تكمن فى نفوسهم ، ولكنهم مأمورون مسخرون أن يعيشوا فى تلك البقعة من الأرض لتكون مركزا لتلك الأمم الت تعهدت بحمايتهم ما استطاعوا من قوة لقتال أعداء الله وأعدائهم .
لو أنهم فعلوا ذلك لما كان حالهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير فى أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم .
لو أنهم فعلوا ذلك لما كان حالهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير فى أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم .
هذا ، وقوله : { أَيْنَ مَا } اسم شرط ، وهو ظرف مكان و " ما " مزيدة فيها للتأكيد .
وقوله { ثقفوا } فى محل جزم بها .
وجواب الشرك محذوف يدل عليه ما قبله أى : أينما ثقفوا غلبوا أو ذلوا .
ويجوز أن يكون جواب الشرط قوله { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } عند من يجوز تقديم جواب الشرط على الشرط .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } مفرغ من عموم الأحوال أى ضربت عليهم الذلة فى عامة الأحوال إلا فى حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس .
ثم ذكر - سبحانه - عقوبتين أخريين أنزلهما بهم جزاء كفرهم وتعديهم لحدوده فقال تعالى : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } .
قال ابن جرير : قوله - تعالى - { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } أى انصرفوا ورجعوا .
ولا يقال باؤوا ، إلا موصولا إما بخير وإما بشر . يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بوأ وبواء . ومنه قوله - تعالى - { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعنى تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دونى . فمعنى الكلام إذا : ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط " .
والمسكنة : مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين . لأن الهم قد أثقله فجعله قليل الحركة والنهوض لما به من الفاقة والفقر .
والمراد بها فى الآية الكريمة الضعف النفسي ، والفقر القلبي الذى يستولى على الشخص فيجعله يحس بالهوان مهما تكن لديه من أسباب القوة .
والفرق بينها وبين الذلة : أن الذلة تجىء أسبابها من الخارج . كأن يغلب المرء على أمره نتيجةانتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو .
أما المسكنة فهى تنشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق ، واستيلاء المطامع والشهوات وحب الدنيا عليها .
والمعنى : أن هؤلاء اليهود يجانب ضرب الذلة عليهم حينما حلوا ، قد صاروا فى غضب من الله ، وأصبحوا أحقاء به ، وضربت عليهم كذلك المسكنة التى تجعلهم يحسون بالصغار مهما ملكوا من قوة ومال .
ثم ذكر - سبحانه - الأسباب التى جعلتهم أحقاء بهذه العقوبات فقال - تعالى - : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
فاسم الإشارة ذلك يعود إلى تلك العقوبات العادلة التى عاقبهم الله بها بسبب كفرهم وفسقهم .
والآيات : تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله - تعالى - وربوبيته وتطلق ويراد بها النصوص التى تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - ، وهى التي يسميها علماء التوحيد بالمعجزات .
وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } .
أى : ذلك الذى أصابهم من عقوبات رادعة ، سببه أنهم كانوا يكفرون بآيات الله وأدلته الدالة على وحدانيته وعلى صدق رسله - عليهم الصلاة والسلام - وتلك هى جريمة بنى إسرائيل الأولى .
أما جريمتهم الثانية فقد عبر عنها - سبحانه - بقوله { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } أى أنهم لم يكتفوا بالكفر ، بل امتدت أيديهم الأثيمة إلى دعاة الحق وهم أنبياء الله - تعالى - الذين أرسلهم لهدايتهم فقتلوهم بدون أدنى شبهة تحمل على الإساءة إليهم فضلا عن قتلهم .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا . لإفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر فى شريعتهم لأنها تحرمه .
قال - تعالى - { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً }
فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم ، وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ فى الفهم ، أو تأول فى الحكم أو شبهة فى الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، ومخالفون لشرع الله عن تعمد وإصرار .
ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق ، فما فائدة ذكره ؟ قلت : معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا فى الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم .
فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم .
وقال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن : قيل : قال هنا : { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } وقال فى سورة البقرة { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } فما الفرق ؟ قلت : إن الحق المعلوم بين المسلمين الذى يوجب القتل يتجلى فى حديث : " لا تحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور فى سورة البقرة إشارة إلى هذا . وأما الحق المنكر هنا فالمراد به تأكيد العموم أى لم يكن هناك أى حق يستندون إليه ، لا هذا الذى يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .
ونسب - سبحانه - القتل إلى أولئك اليهود المعاصرين للعهد النبوى مع أن القتل قد صدر عن أسلافهم ، لأن أولئك المعاصرين كانوا راضين بفعل آبائهم وأجدادهم ، فصحت نسبة القتل إليهم ، ولأن بعض أولئك المعاصرين قد هَمَّ بقتل النبى صلى الله عليه وسلم فكف الله - تعالى - أيديهم الأثيمة عنه .
ثم سجل الله - تعالى - جريمتهم الثالثة بقوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
العصيان : الخروج عن طاعة الله ، والاعتداء : تجاوز الحد الذى حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شىء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه .
وللمفسرين فى مرجع اسم الإشارة { ذلك } فى قوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } رأيان :
أولهما : أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم لأنبيائه ، وعليه يكون المعنى :
إن هؤلاء اليهود قد ألفوا العصيان لخالقهم والتعدى لحدوده بجرأة وعدم مبالاة ، فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه ، وباشروا تلك الكبائر بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة .
والجملة الكريمة على هذا الرأى تفيد أن التردى فى المعاصى ، وارتكاب ما نهى الله عنه ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدى إلى الانتقال من صغير الذنوب إلى كبيرها ومن حقيرها إلى عظيمها لأن هؤلاء اليهود حين استمرأوا المعاصى ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا فكذبوا بآيات الله تكذيبا ، وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق .
وثانيهما : أن اسم الإشارة { ذلك } فى قوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإشارة الأول وهو قوله { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
وتكون الحكمة فى تكرار الإشارة هو تمييز المشار إليه ، حرصاً على معرفته ، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم واستحقاقهم لغضب الله كما أشرنا من قبل .
والإشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما فى قوله - تعالى - { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } والمعنى : أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا وقتلهم أنبياءنا وخروجهم عن طاعتنا ، وتعديهم حدودنا .
وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التى حلت بهم فى الدرجة العيا من حسن الترتيب فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه فى حقه وهو كفرهم بآياته . ثم ثنى بما يتلوه فى العظم وهو قتلهم لأنبيائه ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ، ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود .
وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم فى سوق الأحكام مشفوعة بعللها وأسبابها .
وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد بدأت حديثها بمدح الأمة الإسلامية بأنها خير أمة أخرجت للناس ، ثم ثنت بدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام وبإخبار المؤمنين بأن أعداءهم لن يضروهم ضررا يؤثر فى كيانهم ما داموا معتصمين بتعاليم دينهم ، ثم ختمت حديثها ببيان العقوبات التى حلت باليهود بسبب كفرهم وبغيهم .
وبعد هذا الحديث المحكم عن أهل الكتاب ، وعن العقوبات التى أنزلها - سبحانه - باليهود بسبب فسقهم وظلمهم ، بعد كل ذلك ساق - سبحانه - آيات كريمة تمدح من يستحق المدح من أهل الكتاب إنصافا لهم وتكريما لذواتهم فقال - تعالى - : { لَيْسُواْ سَوَآءً . . . } .
ذلك أنه قد ( ضربت عليهم الذلة ) وكتبت لهم مصيرا . فهم في كل أرض يذلون ، لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين - حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وتنيلهم الأمن والطمأنينة - ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين . ولكن يهود لم تعاد أحدا في الأرض عداءها للمسلمين ! . . ( وباءوا بغضب من الله ) كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب . ( وضربت عليهم المسكنة ) تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم . .
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية . فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر - ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم ، وأقاموا منهج الله في حياتهم - وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم .
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود . فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم ، مهما تكن دعواهم في الدين : إنه المعصية والاعتداء :
( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
فالكفر بآيات الله - سواء بإنكارها أصلا ، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة - وقتل الأنبياء بغير حق . وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة - والعصيان والاعتداء . . هذه هي المؤهلات لغضب الله ، وللهزيمة والذلة والمسكنة . . وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين . الذين يسمون أنفسهم - بغير حق - مسلمين ! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم ، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة . فإذا قال أحد منهم : لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون ؟ فلينظر قبل أن يقولها : ما هو الإسلام ، ومن هم المسلمون ؟ !
ثم قال تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي : ألزمهم الله الذلة{[5569]} والصَّغَار أينما كانوا فلا يأمنون { إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } أي : بذمة من الله ، وهو عَقْد الذمة لهم وضَرْب الجزية عليهم ، وإلزامهم أحكام الملة { وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي : أمان منهم ولهم ، كما في المُهَادَن والمعاهَد والأسير إذا أمَّنَه واحد{[5570]} من المسلمين ولو امرأة ، وكذَا عَبْد ، على أحد قولي العلماء .
قال ابن عباس : { إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي : بعهد من الله وعهد من الناس ، [ و ]{[5571]} هكذا قال مُجاهد ، وعِكْرِمة ، وعَطَاء ، والضَّحَّاك ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والرَّبِيع بن أنس .
وقوله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي : أُلزموا فالتزَمُوا بغضب من الله ، وهم يستحقونه { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } أي : أُلزِموها{[5572]} قَدرًا وشَرْعًا . ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ{[5573]} حَقٍّ } أي : وإنما حملهم على ذلك الكبْر والبَغْي وَالْحسَد ، فأعْقَبَهم ذلك الذِّلة والصَّغَار والمسكنة أبدا ، متصلا بذلة الآخرة ، ثم قال تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } أي : إنما حَمَلهم على الكفر بآيات الله وقَتْل رُسُل الله وقُيِّضوا لذلك أنّهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله ، عز وجل ، والغشيان لمعاصي الله ، والاعتداء في شرع الله ، فَعِياذًا بالله من ذلك ، والله المستعان .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حَبِيب حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي مَعْمَر الأزدي ، عن عبد الل وهكذا قال هاهنا : { إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } ه بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيّ ، ثم يقوم سُوق بَقْلهم في آخر النهار .
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوَاْ إِلاّ بِحَبْلٍ مّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
يعني بقول جلّ ثناؤه { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذّلّةُ } ألزموا الذلة ، والذلة : الفعلة من الذلّ ، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع . { أيْنَما ثُقِفُوا } يعني : حيثما لقوا . يقول جلّ ثناؤه : ألزم اليهود المكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض ، وبأيّ مكان كانوا من بقاعها من بلاد المسلمين والمشركين ، إلا بحبل من الله ، وحبل من الناس كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَما ثُقفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَاللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ } قال : أدركتهم هذه الأمة ، وإن المجوس لتجبيهم الجزية .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قل : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين .
وأما الحبل الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين ، وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ بْحَبْلٍ مِنَ اللّهِ } قال : بعهد ، { وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : بعهدهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } يقول : إلا بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد ، عن عثمان بن غياث ، قال عكرمة : يقول : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } يقول : إلا بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } يقول : إلا بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } فهو عهد من الله ، وعهد من الناس ، كما يقول الرجل : ذمة الله ، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو الميثاق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : { أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بْحَبلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : بعهد من الله ، وعهد من الناس لهم . قال ابن جريج وقال عطاء : العهد : حبل الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : إلا بعهد وهم يهود ، قال : والحبل : العهد . قال : وذلك قول أبي الهيثم بن التيهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار في العقبة : أيها الرجل إنا قاطعون فيك حبالاً بيننا وبين الناس ، يقول : عهودا . قال : واليهود لا يأمنون في أرض من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي الله قال عزّ وجلّ ، وقرأ : { وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيامَةِ } قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب هم في البلدان كلها مستذلون ، قال الله : { وَقَطّعناهُمْ فِي الأرْض أمما } يهود .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } بقول : بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب الباء في قوله : { إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } فقال بعض نحويي الكوفة : الذي جلب الباء في قوله : { بِحَبْلٍ } فعل مضمر قد ترك ذكره . قال : ومعنى الكلام : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ، إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فأضمر ذلك . واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر :
رأتْنِي بِحَبْلَيْها فَصَدّتْ مَخافَةً *** وفي الحَبْل رَوْعاءُ الفُؤاد فَرُوقُ
وقال : أراد : أقْبَلْتُ بحبليها . وبقول الاَخر :
حَنَتْنِي حانِياتُ الدّهْر حتى *** كأني خاتِلٌ أحْنُو لِصَيْد
فأوجب إعمال فعل محذوف وإظهار صلته وهو متروك ، وذلك في مذاهب العربية ضعيف ، ومن كلام العرب بعيد . وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات ، فغير دالّ على صحة دعواه ، لأن في قول الشاعر : «رأتني بحبليها » ، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكا ، ففي إخباره عنها أنها رأته بحبليها إخبار منه أنها رأته ممسكا بالحبلين ، فكان فيما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر الإمساك ، وكانت الباء صلة لقوله : «رأتني » ، كما في قول القائل : أنا بالله مكتف بنفسه ، ومعرفة السامع معناه أن تكون الباء محتاجة إلى كلام يكون لها جالبا غير الذي ظهر ، وأن المعنى أنا بالله مستعين .
وقال بعض نحويي البصرة : قوله : { إلاّ بَحَبْلٍ مِنَ اللّهِ } استثناء خارج من أوّل الكلام ، قال : وليس ذلك بأشدّ من قوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوا إلاّ سَلاما } .
وقال آخرون من نحويي الكوف : هو استثناء متصل . والمعنى : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا : أي بكلّ مكان ، إلا بموضع حبل من الله ، كما تقول : ضربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان ، وهذا أيضا طلب الحقّ ، فأخطأ المفصل ، وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل ، ولو كان متصلاً كما زعم لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة ، وليس ذلك صفة اليهود لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس ، أو بغير حبل من الله عزّ وجلّ ، وغير حبل من الناس ، فالذلة مضروبة عليهم على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل . فلو كان قوله : { إلاّ بحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النّاس } استثناء متصلاً لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بعهد وذمة ، أن لا تكون الذلة مضروبة عليهم . وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم ، وخلاف ما هم به من الصفة ، فقد تبين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا . ولكن القول عندنا أن الباء في قوله : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ } أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض في المعنى الباء ، وذلك أن معنى قولهم : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةَ أيْنَما ثُقِفُوا } : ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا ، ثم قال : { إلاّ بَحْبلٍ مِنَ اللّهِ وَحبْلٍ مِنَ النّاسِ } على غير وجه الاتصال بالأول ، ولكنه على الانقطاع عنه ، ومعناه : ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس ، كما قيل : { وَما كانَ لمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً } فالخطأ وإن كان منصوبا بما عمل فيما قبل الاستنثاء ، فليس قوله باستثناء متصل بالأوّل بمعنى إلا خطأ ، فإن له قتله كذلك ، ولكن معناه : ولكن قد يقتله خطأ ، فكذلك قوله : { أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ } وإن كان الذي جلب الباء التي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا ، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله بمعنى أن القوم إذا لقوا ، فالذلة زائلة عنهم ، بل الذلة ثابتة بكلّ حال ، ولكن معناه ما بينا آنفا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ } .
يعني تعالى ذكره : { وَباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ } : وتحملوا غضب الله ، فانصرفوا به مستحقيه . وقد بينا أصل ذلك بشواهده ، ومعنى المسكنة ، وأنها ذلّ الفاقة والفقر وخشوعهما ، ومعنى الغضب من الله فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : { ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ } يعني جلّ ثناؤه بقوله ذلك : أي بَؤؤُهم الذي باءوا به من غضب الله ، وضرب الذلة عليهم ، بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله ، يقول : مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه ، وما فرض عليهم من فرائضه . { وَيَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ } يقول : وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم ، اعتداء على الله ، وجراءة عليه بالباطل ، وبغير حقّ استحقوا منهم القتل .
فتأويل الكلام : ألزموا الذلة بأيّ مكان لقوا ، إلا بذمة من الله وذمة من الناس ، وانصرفوا بغضب من الله متحمليه ، وألزموا ذلّ الفاقة ، وخشوع الفقر ، بدلاً مما كانوا يجحدون بآيات الله ، وأدلته وحججه ، ويقتلون أنبياءه بغير حقّ ظلما واعتداء .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فعلنا بهم ذلك بكفرهم ، وقتلهم الأنبياء ، ومعصيتهم ربهم ، واعتدائهم أمر ربهم . وقد بينا معنى الاعتداء في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته . فأعلم ربنا جلّ ثناؤه عباده ، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب ، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا ، مع ما ادّخر لهم في الاَجل من العقوبة والنكال ، وأليم العذاب ، إذ تعدّوا حدود الله ، واستحلوا محارمه ، تذكيرا منه تعالى ذكره لهم ، وتنبيها على موضع البلاء الذي من قبله أتوا لينيبوا ويذّكروا ، وعظة منه لأمتنا ، أن لا يستنوا بسنتهم ، ويركبوا منهاجهم ، فيسلك بهم مسالكهم ، ويحلّ بهم من نقم الله ومثلاته ما أحلّ بهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ } اجتنبوا المعصية والعدوان ، فإن بهما أهلك من أهلك قبلكم من الناس .