اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (112)

قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } يعني : أن الذلة جُعِلَتْ ملصَقَة بهم ، كالشيء الذي يُضرب على الشيء فيلصق به ، ومنه قولهم : ما هذا عليَّ بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة . والذلة : هي الذل ، وفي المراد بها أقوال .

فقيل : إنها الجزية{[2]} ؛ وذلك ؛ لأن ضَرْب الجزية عليهم يوجب الذلة والصَّغَار .

وقيل : أن يُحارَبُوا ، ويقْتَلوا ، وتقسَّم أموالُهم ، وتُسْبَى ذَراريهم ، وتُملك أراضيهم - كقوله : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] ، ثم قال تعالى : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ } والمراد : إلاَّ بعهد من الله ، وعِصْمة ، وذمام من الله ومن المؤمنين ؛ لأن عند ذلك تزول هذه الأحكام .

وقيل : إن المراد بها أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً ، بل هم مُسْتَخْفُون في جميع البلاد ، ذليلون ، مهينون .

قوله : { أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } ، " أيْنَمَا " اسم شرط ، وهي ظرف مكان ، و " ما " مزيدة فيها ، ف " ثُقِفُوا " في محل جزم بها ، وجواب الشرط إما محذوف - أي : أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا ، دلَّ عليه قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } ، وإما نفس " ضُرِبَتْ " ، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ف { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } لا محل له - على الأول ، ومحله جزم على الثاني .

قوله : { إلاَّ بِحَبْلٍ } هذا الجار في محل نَصْب على الحال ، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة .

قال الزمخشري : " وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال ، والمعنى : ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله ، وحبل الناس ، فهو استثناء متصل " .

قال الزجّاج والفرَّاء : هو استثناء منقطع ، فقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار .

كقول حميد بن ثور الهلالي : [ الطويل ]

رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا ، فَصَدَّتْ مَخَافَةً *** وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ ، فَرُوقُ{[3]}

أراد : أقبلت بحبليها ، فحذف الفعل ؛ للدلالة عليه .

ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] قال : " لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنَّما في الكلام محذوف ، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر ، وتقديره : - في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل "

قال أبو حيان{[4]} : " وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً ؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة ، وهي : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير ، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين : منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل ، والأسر ، وسَبي الذراري ، واستئصال أموالهم ؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة - : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } [ البقرة : 61 ] ، فلم يستثنِ هناك " .

قال محمد بن جرير الطبري : " قد ضُرِبَت الذلة على اليهود ، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا ، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة ، فقوله : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ } تقديره : لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس " .

قال ابن الخطيب : " وهذا ضعيف ؛ لأن حَمْلَ لفظ " إلاَّ " على " لكن " خلاف الظاهر ، وأيضاً : إذا حملنا الكلام على أن المراد : لكن قد يعتصمون بحبل من الله ، وحبل من الناس ، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه ، والإضمار خلاف الأصل ، فلا يُصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة ، فإذا كان لا ضرورةَ - هاهنا - إلى ذلك ، كان المصير إليه غير جائز ، بل هاهنا وجه آخر ، وهو أن تُحْمَل الذِّلَّةُ على كل هذه الأشياء - أعني : القتل ، والأسْر ، وسَبْي الذراري ، وأخذ المال ، وإلحاق الصغار ، والمهانة ، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام ، وهو أخذ القليل من أموالهم - المُسَمَّى بالجزية - وبقاء المهانة والصغار فيهم " .

وقال بعضهم الباء - في قوله : " بحبل " - بمعنى : " مع " ، كقولك : اخرج بنا نفعل كذا - أي : معنا ، والتقدير : إلا مع حبل من الله .

فصل

تقدم الكلام في أن المراد بالحبل : العهد .

فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس ، وذلك يقتضي المغايرة .

فالجواب : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام ، وحبل الناس هو العهد والذمة ، وهذا بعيد ؛ لأنه لو كان المراد ذلك ، لكان ينبغي أن يقال : أو حبل من الناس .

وقال آخرون : المراد بكلا الحبلين : العهد والذمة والأمان ، وإنما ذكر - تعالى - الحَبْلَيْن ؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين ، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى .

قال ابن الخطيب : وهذا عندي - أيضاً - ضعيف ، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان :

أحدهما : الذي نصَّ الله عليه ، وهو أخْذ الجزية .

الثاني : الذي فُوض إلى رَأي الإمام ، فيزيد فيه تارة ، وينقص بحسب الاجتهاد ، فالأول : هو المُسَمَّى بحبل الله ، والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين .

قوله : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } تقدم أن معناه : مَكَثُوا ، ولبثوا ، وداموا في غضب الله ، مأخوذ من البوء - وهو المكان ومنه : تبوأ فلان منزل كذا - ومنه قوله تعالى : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ } [ الحشر : 9 ] .

قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } .

قال الحسن ، وأكثر المفسرين : المسكنة : الجزية ؛ لأنه لم يستثنها ، فدلَّ ذلك على بقائها عليهم ، والباقي عليهم ليس إلا الجزية .

وقال آخرون : المسكنة : هي أن اليهودي يُظهر من نفسه الفقر ، وإن كان موسراً {[5]} .

وقال آخرون : هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقاً للمسلمين ، فيصيروا مساكين {[6]} .

قوله : { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } بيَّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم ، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة .

فإن قيل : فما الحكمة في قوله : { ذلِكَ بِمَا عَصَوْاْ } ، ولا يجوز أنْ يكونَ هذا التكرير للتأكيد ؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقْوَى من المؤكد - والعصيان أقل حالاً من الكفر - فلا يُؤكَّد الكفر بالعصيان ؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن علة الذلة ، والغضب ، والمسكنة ، هي : الكُفر ، وقتل الأنبياء ، وعلة الكُفْر وقتل الأنبياء هي : المعصية ؛ لأنهم لما توغَّلوا في المعاصي والذنوب ، وتزايدت ظلمات المعاصي - حالاً فحالاً ، ضعف نور الإيمان حالاً فحالاً - إلى أن بطل نور الإيمان ، وحصلت ظلمة الكُفْر ، وإليه أشار بقوله : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] ، فقوله : { ذلِكَ بِمَا عَصَوْاْ } إشارة إلى العلة .

ولهذا المعنى قال الإمام أحمد - وقد سُئل عن تارك السنن ، هل تُقْبَل شهادته ؟ - قال : ذلك رجل سوء ؛ لأنه إذا وقع في ترك السنن أدَّى ذلك إلى تَرْك الفرائض ، وإذ وقع في تَرْك الفرائض ، وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكُفْر .

الثاني : أن يُحْمَل قوله : { كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } على أسلافهم ، وقوله : { ذلِكَ بِمَا عَصَوْاْ } في الحاضرين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يلزم التكرار ، فكأنه - تعالى - بيَّن عقوبة مَنْ تقدَّم ، ثم بيَّن أن المتأخر - لما تبع من تقدم - صار لأجل معصيته ، وعداوته متسوجِباً لمثل عقوبتهم ، حتى يظهر للخلق ما أنزل الله بالفريقين .


[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.