روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (112)

{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } أي ذلة هدر النفس والمال والأهل ، وقيل : ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية ، قال الحسن : أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم ، قيل : ففيه استعارة مكنية تخييلية ، وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية ، وقيل : هو من قولهم : ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه ، فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها { أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ } أي وجدوا ، وقيل : أخذوا وظفر بهم ، و { أَيْنَمَا } شرط ، وما زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس } استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال . وقيل : أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذٍ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله } أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقاً أن يقتل به ، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه ، والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى .

{ ذلك } أي المذكور من المذكورات { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله } الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ } أصلاً ، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار ، وقيل : معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم ، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر .

ثم إن جملة { مّنْهُمُ المؤمنون } [ آل عمران : 110 ] وكذا جملة { لَن يَضُرُّوكُمْ } [ آل عمران : 111 ] وما عطف عليهما واردتان على سبيل الاستطراد ولذا لم يعطفا على الجملة الشرطية قبلهما ، وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعدهما وكون كل منهما نوعاً من الكلام ، وقال بعض المحققين : إن هاتين الجملتين مع ما بعدهما مرتبط بقوله تعالى : { وَلَوْ ءامَنَ } [ آل عمران : 110 ] مبين له ، فقوله سبحانه : { مّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] مبين لذلك باعتبار ، أن المفروض إيمان الجميع ، وإلا فبعضهم مؤمنون رفعاً لسوء الظن بالبعض ، وقوله عز شأنه :

{ لَن يَضُرُّوكُمْ } [ آل عمران : 111 ] بيان لما هو خير لهم وهو أنهم لعدم إيمانهم مبتلون بمشقة التدبير لإضراركم وبالحزن على الخيبة وتدبير الغلبة عليكم بالمقابلة والغلبة لكم وفي طلب الرياسة بمخالفتكم وضرب الله تعالى عليهم الذلة لتلك المخالفة وفي طلب المال بأخذ الرشوة بتحريف كتابهم وضرب الله عليهم المسكنة ، ولو آمنوا لنجوا من جميع ذلك ، انتهى . ولا يخفى أن هذا على تقدير قبوله وتحمل بعده ، لا يأبى القول بالاستطراد لأنه أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له ، وإنما يأبى الاعتراض ولا نقول به فتأمل .