قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه ، فأنزل الله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } .
قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : { عقدتم } بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر ( عاقدتم ) بالألف ، وقرأ الآخرون ( عقدتم ) بالتشديد ، أي : وكدتم ، والمراد من الآية قصدتم وتعمدتم .
قوله تعالى : { فكفارته } ، أي : كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم .
قوله تعالى : { إطعام عشرة مساكين } ، واختلفوا في قدره ، فذهب قوم إلى أنه يطعم كل مسكين مداً من الطعام ، بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد ، وكذلك في جميع الكفارات ، وهو قول زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والقاسم ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، والحسن ، وقال أهل العراق : لكل مسكين مدان ، وهو نصف صاع ، يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع ، وإن أطعم من غيرها فصاع ، وهو قول الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحكم ، ولو غداهم وعشاهم لا يجوز . وجوزه أبو حنيفة رضي الله عنه ، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه . ولا تجوز الدراهم والدنانير ، ولا الخبز ولا الدقيق ، بل يجب إخراج الحب إليهم ، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه كل ذلك . ولو صرف الكل إلى مسكين واحد لا يجوز ، وجوز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام ، ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم ، حر ، محتاج ، فإن صرف إلى ذمي أو عبد ، أو غني ، لا يجوز . وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرفها إلى أهل الذمة . واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز .
قوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ، أي من خير قوت عيالكم ، وقال عبيدة السلماني : الأوسط الخبز والخل ، والأعلى الخبز واللحم ، والأدنى الخبز البحت ، والكل مجز .
قوله تعالى : { أو كسوتهم } ، كل من لزمته كفارة اليمين فهو فيها مخير إن شاء أطعم عشرة من المساكين ، وإن شاء كساهم ، وإن شاء أعتق رقبة ، فإن اختار الكسوة فاختلفوا في قدرها ، فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوباً واحداً مما يقع عليه اسم الكسوة ، إزار أو رداء ، أو قميص أو عمامة ، أو كساء أو نحوها ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاووس ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى . وقال مالك : يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته ، فيكسو الرجال ثوباً واحداً ، والنساء ثوبين : درعاً وخماراً . وقال سعيد بن المسيب : لكل مسكين ثوبان .
قوله تعالى : { أو تحرير رقبة } ، وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة ، وكذلك جميع الكفارات ، مثل كفارة القتل ، والظهار ، والجماع في نهار رمضان ، يجب فيها إعتاق رقبة مؤمنة ، وأجاز أبو حنيفة رضي الله عنه والثوري رضي الله عنه إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها ، إلا في كفارة القتل ، لأن الله تعالى قيد الرقبة فيها بالإيمان ، قلنا : المطلق يحمل على المقيد ، كما أن الله تعالى قيد الشهادة بالعدالة في موضع فقال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ، وأطلق في موضع ، فقال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة :282 ] ، ثم العدالة شرط في جميعها حملاً للمطلق على المقيد ، كذلك هذا ، ولا يجوز إعتاق المرتد بالإنفاق عن الكفارة ، ويشترط أن يكون سليم الرق ، حتى لو أعتق عن كفارته مكاتباً ، أو أم ولد ، أو عبد ، اشترى بشرط العتق ، أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة يعتق ، ولكن لا يجوز عن الكفارة ، وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئاً من النجوم ، وعتق القريب عن الكفارة ، ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً ، حتى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين ، أو إحدى الرجلين ، ولا الأعمى ، ولا الزمن ، ولا المجنون المطبق ، ويجوز الأعور ، والأصم ، ومقطوع الأذنين والأنف ، لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضرراً بيناً ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : كل عيب يفوت جنساً من المنفعة يمتنع الجواز ، حتى جوز مقطوع إحدى اليدين ، ولم يجوز مقطوع الأذنين .
قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ، إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الطعام والكسوة ، وتحرير الرقبة ، يجب عليه صوم ثلاثة أيام ، والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله ، وحاجته ، ما يطعم أو يكسو أو يعتق ، فإنه يصوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام ، هو قول الحسن وسعيد بن جبير . واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم ، فذهب جماعة إلى أنه لا يجب فيه التتابع ، بل إن شاء تابع وإن شاء فرق ، والتتابع أفضل ، وهو أحد قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى أنه يجب فيه التتابع قياساً على كفارة القتل والظهار ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه صيام ثلاثة أيام متتابعات .
قوله تعالى : { ذلك } ، أي : ذلك الذي ذكرت .
قوله تعالى : { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } ، وحنثتم ، فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث . واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث ، فذهب قوم إلى جوازه ، لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) . وهو قول عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن ، وابن سيرين ، وإليه ذهب مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، إلا أن الشافعي يقول : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز ، لأنه بدني ، وإنما يجوز بالإطعام ، أو الكسوة ، أو العتق ، كما يجوز تقديم الزكاة على الحول ، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته ، وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه .
قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } ، قيل : أراد به ترك الحلف ، أي : لا تحلفوا ، وقيل : هو الأصح ، أراد به : إذا حلفتم فلا تحنثوا ، فالمراد منه حفظ اليمين عن الحنث ، هذا إذا لم يكن يمينه على ترك مندوب ، أو فعل مكروه ، فإن حلف على فعل مكروه ، أو ترك مندوب ، فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا حجاج بن منهال ، أنا جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير ) .
{ 89 } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ }{[277]}
أي : في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو ، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد ، أو عقدها يظن صدق نفسه ، فبان بخلاف ذلك . { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } أي : بما عزمتم عليه ، وعقدت عليه قلوبكم . كما قال في الآية الأخرى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } { فَكَفَّارَتُهُ } أي : كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ }
وذلك الإطعام { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } أي : كسوة عشرة مساكين ، والكسوة هي التي تجزئ في الصلاة . { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع ، فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة فقد انحلت يمينه .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } واحدا من هذه الثلاثة { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ } المذكور { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } تكفرها وتمحوها وتمنع من الإثم .
{ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } عن الحلف بالله كاذبا ، وعن كثرة الأيمان ، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها ، إلا إذا كان الحنث خيرا ، فتمام الحفظ : أن يفعل الخير ، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير .
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } المبينة للحلال من الحرام ، الموضحة للأحكام . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } اللهَ حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون . فعلى العباد شكر الله تعالى على ما منَّ به عليهم ، من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها .
ثم بين - سبحانه - كفارة اليمين ، وأمر المؤمنين بحفظ إيمانهم فلا يكثروا منها ، فقال - تعالى - .
{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو . . . }
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم : قالوا يا رسول الله . كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله - تعالى - قوله : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } الآية واللغو من الكلام - كما يقول الراغب : ما لا يعتد به منه ، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور . وقد يسمي كل قبيح لغو . قال - تعالى - { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } ولغو اليمين . أن يحلف الحالف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك .
ويرى بعضهم أن لغو اليمين هو الذي يجري على اللسان بدون قصد ، كقولك لا والله ويلي والله .
وقد رجح هذا القول ابن كثير فقال ما ملخصه . واللغو في اليمين هو قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله وبلى والله وهو مذهب الشافعي . وقيل هو في الهزل . وقيل في المعصية : وقيل على غلبة الظن وهو قول أبي حنيفة وأحمد والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } .
وقولهك { عَقَّدتُّمُ } من العقد وهو الجميع بين أطراف الشيء لتوثيقه وهو نقيض الحل : وقرأ حمزة والكسائي { عَقَّدتُّمُ } بالتخفيف . وقرأ ابن عامر " عاقدتم " .
ولمراد بعقد الأيمان توكيدها وتوثيقها قصدا ونية .
والمعنى : لا يؤاخذكم الله - أيها المؤمنون - فضلا منه وكرما على اللغو في اليمين وهو ما يجري على ألسنتكم بدون قصد . ولكن يؤاخذكم بالعقوبة في الآخرة أو بوجوب الكفارة بتعيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية ، إذا حنثتم فيها ، بأن تعمدتم الكذب في إيمانكم .
فالمراد بعدم المؤاخذة في قوله { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } : عدم المعاقبة في الدنيا بالكفارة ولا في الآخرة بالعقوبة .
والمراد بالمؤاخذة في قوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } : العقوبة الأخروية عند جمهور الفقهاء ويرى الشافعي أن المراد بها الكفارة التي تجب على الحانث .
وقوله { في أَيْمَانِكُمْ } متعلق باللغو . وما في قوله { بِمَا عَقَّدتُّمُ } مصدرية أي : ولكن يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها . ويحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف . أي ولكن يؤاخذكم بالذي عقدتم الأيمان عليه .
وقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } بيان لكيفية الكفارة والضمير في قوله : فكفارته يعود على الحنث الدال عليه سياق الكلام وإن لم يرج له ذكر .
أي : فكفارة الحنث . ولا مانع من عودته إلى الحالف إذا حنث في يمينه فيكون المعنى : فكفارة الحالف إذا حنث في يمينه إطعام عشرة مساكين لأن الشخص الحانث في يمينه هو الذي يجب عليه التكفير عن حنثه .
والكفارة من الكفر بمعنى الستر ، وهي اسم للفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة ، أي تسترها وتمحوها ، لأن الشيء الممحي يكون كالشيء المستور الذي لا يرى ولا يشاهد .
وكلمة { أَوْسَطِ } يرى بعضهم أنها بمعنى الأمثل والأحسن . لأن لفظ الأوسط كثيراً ما يستعمل بهذا المعنى ومنه قوله - تعالى { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي : قال أحسنهم عقلا وأمثلهم فكرا ونظراً .
ويرى آخرون أن الأوسط هنا بمعنى المتوسط لأن هذا هو الغالب في استعمال هذه الكلمة ، أي يطعمهم لا من أفخر أنواع الطعام ولا من اردئه ولكن من الطعام الذي يطعم منه أهله في الغالب .
والمعنى : لقد تفضل الله عليكم - أيها المؤمنون - بأن رفع عنكم العقوبة والكفارة في الأيمان اللغو ، ولكنه - سبحانه - يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها إذا ما حنثتم فيها ومتى حنث أحدكم في يمينه ، فمن الواجب عليه لتكفير هذا اليمين ومحو إثمه أن يطعم عشرة مساكين طعاما يكون من متوسط ما يطعم منه أهله في الجودة والمقدار ، أو أن يكسو هؤلاء المساكين العشرة كساء مناسبا ساترا للبدن أو أن يحرر رقبة بأن يعتق عبدا من الرق فيجعله حراً .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ } مبتدأ وخبر .
وقوله : إطعام مصدر مضاف لمفعوله ، وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل أي فكفارته أن يطعم الحانث عشرة ، وفاعل المصدر يحذف كثيراً .
وقوله : { مِنْ أَوْسَطِ } في محل نصب مفعول ثان لإطعام ؛ ومفعوله الأول عشرة أي : فكفارته أن تطعموا عشرة مساكين إطعاما من أوسط ما تطعمون أهليكم . . وقوله : { مَا تُطْعِمُونَ } مفعوله الأول : أهليكم ، ومفعوله الثاني : محذوف أي : " تطعمونه إهليكم " .
فأنت ترى أن الله - قد خبر الحانث في يمينه بين أمور ثلاثة يختار إحداها ، فإذا لم يستطع إحداها ، فقد بين سبحانه له حكما آخر فقال : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } .
أي : فمن لم يجد ما يكفر حنثه في يمينه من إطعام أو كساء أو تحرير رقبة فعليه حينئذ أن يصوم ثلاثة أيام ، تطهيرا لنفسه ، وتكفيرا عن ذنبه ، وتقوية لإرادته وعزيمته .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } يعود إلى المذكور من الإِطعام والكساء وتحرير الرقبة والصوم .
أي : ذلك الذي شرعناه لكم كفارة لأيمانكم إذا حلفتم وحنثتم فيها ، وخالفتم طريق الحق الذي أمركم الله تعالى باتباعه .
وقوله : { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } أمر من الله تعالى لعباده بأن يصونوا أنفسهم عن الحنث في أيمانهم ، وعن الإِكثار منها لغير ضرورة ، فإن الإِكثار من الحلف بغير ضرورة يؤدي إلى قلة الحياء من الله تعالى . كما أن الحلف الكاذب يؤدي إلى سخطه سبحانه على الحالف وبغضه له .
وقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } تذييل قصد به التذكير بنعم الله حتى يداوم الناس على شكرها وطاعة واهبها عز وجل .
أي : مثل هذا البيان البديع الجامع لوجوه والفلاح ، يبين الله لكم آياته المشتملة على الأحكام الميسرة ، والتشريعات الحكيمة ، والهدايات الجليلة لعلكم بذلك تستمرون على شكر الله وطاعته ، وتواظبون على خشيته ومراقبته فتنالون ما وعدكم من فلاح وسعادة .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتي :
1 - أن اليمين اللغو لا مؤاخذة فيها . أي : لا عقوبة عليها في الآخرة ولا كفارة لها في الدنيا لقوله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } .
ونعني بها - كما سبق أن أشرنا - أن يقول الرجل من غير قصد الحلف لا والله وبلى والله .
ومع هذا فمن الأفضل للمؤمن ألا يلجأ إلى الحلف إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو لذلك ؛ لأن الإِكثار من الحلف يسقط مهابة الإِنسان ، وقد يفضي به إلى الاستهانة بالآداب الحميدة التي شرعها الله .
قال تعالى : { وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } 2 - أن اليمين التي يحلفها الحالف بالقصد والنية وهو كاذب فيها ، يستحق صاحبها العذاب الشديد من الله - تعالى - ، وهي التي يسميها الفقهاء باليمين الغموس ، أي التي تغمس صاحبها في النار - تعالى - { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } .
أيِ : بما صممتم عليه منها وقصدتموه وأنتم حانثون فيها .
قال القرطبي ما ملخصه : خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال : " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : " الإِشراك بالله . قال : ثم ماذا ؟ قال : عقوق الوالدين . قال : ثم ماذا ؟ قال : اليمين الغموس " قلت : وما اليمين الغموس ؟ قال : التي يقتطع بها مال أمرئ مسلم وهو كاذب فيها " .
وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اقطتع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة . فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : وإن كان قضيبا من أراك " .
وقد اختلف في اليمين الغموس فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها . لأن هذا الحالف قد جمع بين الكذب ، واستحلال مال الغير ، والاستخفاف باليمين بالله . فأهان ما عظمه الله ، وعظم ما حقره الله ، ولهذا قيل : إنما سميت اليمين الغموس غموسا ، لأنها تغمس صاحبها في النار .
وقال الشافعي : " هي يمين منعقدة ، لأنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله - تعالى - ، وفيها الكفارة .
والصحيح الأول : وهو قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وبه قال الأوزاعي والثوري وأهل العراق وأحمد وإسحاق وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة .
3 - أن { أو } في قوله - تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } للتخيير .
أي : أن الحالف إذا حنث في يمينه فهو مخير بين واحد من أمور ثلاثة ليكفر عن يمينه التي حنث فيها . وهذه الثلاثة هي الإِطعام أو الكسوة ، أو عتق الرقبة . فإّا لم يجد إحدى هذه الكفارات الثلاث انتقل إلى الصوم .
قال الفخر الرازي : وأعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير ، فإن عجز عنها جميعا فالوجب شيء آخر وهو الصوم .
ومعنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإِتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ولا يجوز له تركها جميعا . ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة . فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير .
وللعلماء أقوال متعددة في الإِطعام المطلوب لكفارة اليمين .
قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } لابد عندنا - أي المالكية - وعند الشافعي من تمليك ما يخرج لهم ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه .
وقال أبو حنيفة : لو غداهم وعشاهم جاز . والأوسط هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين - أي يطعمهم من غالب الطعام الذي يطعم منه أهله لا من أدناه حتى لا يبخس المساكين حقهم ولا من أعلاه حتى لا يتكلف ما يشق عليه - .
والإِطعام عند مالك : مد لكل واحد من المساكين العشرة . وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : يخرج من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير صاعا . أي يخرج ما يجب في صدقه الفطر .
ولا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد وبه قال الشافعي ، لأن الله - تعالى - نص على العشرة فلا يجوز العدول عنهم ، وأيضاً فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا ، فيتفرغون فيه لعبادة الله ولدعائه ، فغفر للمكفر بسبب ذلك .
وقال أبو حنيفة : يجزئه - أي : إذا أطعم واحد عشر مرات أغني عن إطعام العشرة - لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم ، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه ذلك .
قال الشافعي : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة - من قميص أو سراويل - أجزأه ذلك .
وقال مالك وأحمد : لابد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه ، إن كان رجلا أو امرأة كل بحسبه .
وقال أبو حنيفة : الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار .
ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة عند الشافعي .
وقال أبو حنيفة : تجزئ القيمة ، لأن الغرض سد حاجة المحتاج ، وقد تكون القيمة أنفع له .
والنوع الثالث الذي به تكون كافرة اليمين : تحرير رقبة أي : إعتاقها من الرق ، والمراد بالرقبة جملة الإِنسان .
قال الرازي : المراد بالرقبة : الجملة قيل : الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كانت تجمع يداه إلى رقبته بحبل . فإذا أطلق حل ذلك الحبل . فسمى الإِطلاق من الرقبة فك الرقبة . ثم جرى ذلك على العتق . وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة . وقال الشافعي وآخرون : لابد أن تكون مؤمنة .
فإن قيل : أي فائدة في تقديم الإِطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة ؟ قلنا له وجوه .
أحدها : أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب ، لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ .
وثانيها : قدم الإِطعام لأنه أسهل ، لكون الطعام أعم وجودا ، والمقصود منه التنبيه على أنه - تعالى - يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف .
وثالثها : أن الإِطعام أفضل ، لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام ، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر . أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته .
4 - يرى مالك والشافعي أن قوله : تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } يصدق على الصيام المتتابع والمتفرق ، فلو صام الحالف ثلاثة أيام متفرقة أجزأه ذلك ، لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما .
ويرى أبو حنيفة وأحمد صوم الثلاثة أيام متتابعة ، فقد قرأ أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما .
وقال ابن كثير : واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق ؟ قولان :
أحدهما : لا يجب وهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان . وهو قول مالك ، لإِطلاق قوله : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ونص الشافعي في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع كما هو مذهب الحنفية والحنابلة لأنه قد روى عن أبي بن كعب وغيره أنه كان يقرؤها " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود . وهذه ، أيام لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل من أن يكون خبر واحد أو تفسيرا من الصحابة وهو في حكم المرفوع .
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار ؟ قال : أنت بالخيار . إن شئت أعتقت . وإن شئت كسوت . وإن شئت أطعمت .
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات .
ويبدو لنا أن الصيام المتتابع أفضل ، لأن قراءة أبي وحديث حذيفة يزكيانه ، ولأنه رأى عدد كبير من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود .
5 - أخذ بعض العلماء من قوله - تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } . . . إلخ . أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث ؛ لأن السبب في الكفارة هو الحنث ، وم ادام لم يتحقق فإن لا كفارة .
وقال آخرون يجوز أن تتقدم الكفارة عند نية الحنث ، وتقوم النية مقام الحنث بالفعل .
وقد تكلم عن هذه المسألة الإِمام القرطبي فقال ما ملخصه : اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث أتجزئ أم لا على ثلاثة أقوال :
أحدها : يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة وعشرين من الصحابة ، وجمهور الفقهاء ، وهو مشهور مذهب مالك ، فقد قال أبو موسى الأشعري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يمين وأتيت الذي هو خير " رواه وأخرجه أبو داود .
ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة ، لقوله - تعالى { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها . وأيضاً بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث .
وثانيها : قال أبو حنيفة وأصحابه لا يجزئ بوجه لما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير - زاد النسائي - وليكفر عن يمينه "
ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هو لرفع الإِثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها . وأيضاً فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتباراً بالصلوات وسائر العبادات .
وثالثها : قال الشافعي : تجزئ بالإِطعام والعتق والكسوة ولا تجزئ بالصوم ؛ لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته . ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة .
6 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - { واحفظوا أَيْمَانَكُم } أن من الواجب على المؤمن أن يقلل من الأيمان فلا يلجأ إليها إلا عند الضرورة ، وأن يحرص على أن يكون صادقا فيها حتى لا يحتاج إلى التفكير عنها ؛ وأن يبادر إلى التفكير عنها إذا كانت المصلحة تستدعي الحنث فيها ، لما سبق أن ذكره القرطبي من حديث أبي موسى الأشعري وحديث عدي بن حاتم .
ولما رواه الشيخان عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإِمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وأن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها . وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير " .
هذا " وقد ساق صاحب المنار في نهاية تفسيره لهذه الآية بحوثا تتعلق بالأيمان فقال ما ملخصه :
( أ ) لا يجوز في الإِسلام الحلف بغير الله تعالى - وأسمائه وصفاته ، لما رواه الشيخان من حديث ابن عمر : " من كان حالفا لا يحلف إلا بالله " ورويا عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يحلف بأبيه فقال : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " .
روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عمر أيضا قال : كان أكثر ما يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم يحلف : " لا ومقلب القلوب " .
وهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في حظر الحلف بغير الله ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم غير الله وكذلك الكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به .
( ب ) ثم قال ويجوز الحنث للمصلحة الراجحة فقد روى الشيخان وأحمد عن عبد الرحمن بن سمرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي رواية فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير " .
وينقسم الحلف باعتبار المحلوف عليه إلى أقسام :
1 - أن يحلف على فعل واجب وترك حرام ، فهذا تأكيد لما كلفه الله إياه فيحرم الحنث ويكون إثمه مضاعفا .
2 - إن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم ، فهذا يجب عليه الحنث ، لأنه يمين معصية على ترك فريضة من الفرائض ، أو حق من الحقوق الواجبة عليه .
3 - أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه ، فهذا طاعة فيندب له الوفاء ويكره الحنث كذا قال بعضهم . والظاهر وجوب الوفاء كما قالوا في النذر .
4 - أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه ، فيستحب له الحنث ويكره التمادي كذا قالوا . وظاهر الحديث وجوب الكفارة والحنث مطلقا .
5 - أن يحلف على ترك مباح وقد اختلفوا فيه : فقال ابن الصباغ : إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال .
أي أن الحالف يوازن بين مقدار الضرر الذي سيترتب على الاستمرار في الترك ، والخير الذي يجلبه الحنث ، فإن رجح أحدهما مضى فيه .
( ج ) - ثم قال : وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية : الأيمان - بحسب صيغتها وأحكامها ثلاثة أقسام :
أحدها : ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء ونحو ذلك ، فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بلهي منهى عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح الأقوال . ففي الحديث : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "
الثاني : اليمين بالله كقول القائل : والله لأفعلن كذا . فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين .
الثالث : أيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله ، ومقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كالحلف بالنذر والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلى صيام شهر أو الحج إلى بيت الله .
فهذه الأيمان للعلماء فيها أقوال أظهرها أنه إذا حنث فيها لزمته كافارة يمين كما قال - تعالى - { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } وقال تعالى { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } ( د ) ثم ختم صاحب المنار مباحثه بقوله : واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الغش والخيانة ، لن يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام ، بل لابد من التوبة وأداء الحقوق والاستقامة . قال - تعالى - { وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم إذا ما حنثوا في إيمانهم ، وحضتهم على حفظ أيمانهم ، لكي ينالوا من الله - تعالى - الرضا والفلاح .
فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق :
( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم . واحفظوا أيمانكم . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .
فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة - وأمثالها - من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه ، فردهم رسول الله [ ص ] عن الامتناع عنه ، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم ، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به . كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر . فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبر ، فعليه أن يفعل ما هو أبر ، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية .
قال ابن عباس : سبب نزولها : القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم . حلفوا على ذلك . فلما نزلت ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قالوا : كيف نصنع بأيماننا ( فنزلت هذه الآية ) .
وقد تضمن الحكم أن الله - سبحانه - لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو ، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها ، فلا تنطق هكذا لغوا . .
فأما اليمين المعقودة ، التي وراءها قصد ونية ، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية :
( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) .
وطعام المساكين العشرة من( أوسط )الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله . . و( أوسط )تحتمل أن تكون من " أحسن " أو من " متوسط " فكلاهما من معاني اللفظ . وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن " المتوسط " هو " الأحسن " فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام . . أو( كسوتهم )الأقرب أن تكون كذلك من ( أوسط ) الكسوة . . أو ( تحرير رقبة ) لا ينص هنا على أنها مؤمنة . . ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه . . ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) . . وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى . . وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها . والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال . فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه . إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض ، وحفظ للإيمان من الإستهانة بها ؛ وهي " عقود " وقد أمر الله - سبحانه - بالوفاء بالعقود . فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبر فعل الأبر وكفر عن اليمين . وإذا عقدها على غير ما هومن حقه كالتحريم والتحليل ، نقضها وعليه التكفير .
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه . . فأما من ناحية " خصوص السبب " فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب ، وما حرمه فهو الخبيث . وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له . من وجهين : الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق ، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله ، ولايستقيم معه إيمان . . والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات ، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات ، التي بها صلاحه وصلاح الحياة ؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات . ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده . ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا . . ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح ، والتوازن المطلق ، والتناسق الكامل ، بين طاقات الحياة البشرية جميعا ، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية ؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان ، تعمل عملا سويا ، ولا تخرج عن الجادة . ومن ثم حارب الرهبانية ، لأنها كبت للفطرة ، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء ، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها . . لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد ، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله . والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة . لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع . والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة ، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله .
وخصوص السبب - بعد هذا - لا يقيد عموم النص . وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع - كما أسلفنا - وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح . إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة . .
ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده ؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة - كما هو شأنه وحقيقته - قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين . ولقد جعلت كلمة " الحلال " وكلمة " الحرام " يتقلص ظلهما في حس الناس ، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح ، أو طعاما يؤكل ، أو شرابا يشرب ، أو لباسا يلبس ، أو نكاحا يعقد . . فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا : حلال هي أم حرام ! فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات
والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله ! فالنظام الاجتماعي بجملته ، والنظام السياسي بجملته ، والنظام الدولي بجملته ؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس ، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام !
والإسلام منهج للحياة كلها . من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله . ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله ، وخرج من دين الله . مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم . فاتباعه شريعة غير شريعة الله ، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله .
وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية ، وتجعلها قضية الإيمان بالله ، أو الاعتداء على الله . . وهذا هو مدى النصوص القرآنية . وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن ، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان
قد تقدم في سورة البقرة الكلام على لغو اليمين ، وإنه قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله ، بلى والله ، وهذا مذهب الشافعي{[10255]} وقيل : هو في الهَزْل . وقيل : في المعصية . وقيل : على غلبة الظن وهو قول أبي حنيفة وأحمد . وقيل : اليمين في الغضب . وقيل : في النسيان . وقيل : هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك ، واستدلوا بقوله : { لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ }
والصحيح أنه اليمين من غير قصد ؛ بدليل قوله : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } أي : بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموها ، فكفارته إطعام عشرة مساكين يعني : محاويج من الفقراء ، ومن لا يجد ما يكفيه .
وقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : أي من أعدل ما تطعمون أهليكم .
وقال عطاء الخراساني : من أمثل ما تطعمون أهليكم . قال{[10256]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث ، عن علي قال : خبز ولبن ، خبز{[10257]} وسمن .
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، حدثنا سفيان بن عييْنَة ، عن سليمان - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون وبعضهم قوتًا فيه سعَة ، فقال الله تعالى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : من الخبز والزيت .
وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : من عسرهم ويسرهم .
وحدثنا عبد الرحمن بن خَلَف الحِمْصِي ، حدثنا محمد بن شُعَيب - يعني ابن شابور - حدثنا شَيْبان بن عبد الرحمن التميمي ، عن لَيْث بن أبي سليم ، عن عاصم الأحول ، عن رجل يقال له : عبد الرحمن ، عن ابن عمر أنه قال : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : الخبز واللحم ، والخبز والسمن ، والخبز واللبن ، والخبز والزيت ، والخبز والخل .
وحدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر في قوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : الخبز والسمن ، والخبز والزيت ، والخبز والتمر ، ومن أفضل ما تطعمون أهليكم : الخبز واللحم .
ورواه ابن جرير عن هَنَّاد وابن وَكِيع كلاهما عن أبي معاوية . ثم روى{[10258]} ابن جرير عن عُبَيدة والأسود ، وشُرَيح القاضي ، ومحمد بن سِيرِين ، والحسن ، والضحاك ، وأبي رَزِين : أنهم قالوا نحو ذلك ، وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول أيضًا .
واختار ابن جرير أن المراد بقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : في القلة والكثرة .
ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن حُصَيْن الحارثي ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي [ رضي الله عنه ]{[10259]} في قوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : يغذيهم ويعشيهم .
وقال الحسن ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزًا ولحمًا ، زاد الحسن : فإن لم يجد{[10260]} فخبزًا وسمنًا ولبنًا ، فإن لم يجد فخبزًا وزيتًا وخلا حتى يشبعوا .
وقال آخرون : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بُرّ أو تمر ، ونحوهما . هذا قول عمر ، وعلي ، وعائشة ، ومجاهد ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعي ، وميمون بن مِهْران ، وأبي مالك ، والضحاك ، والحاكم{[10261]} ومكحول ، وأبي قلابة ، ومُقَاتِل بن حَيَّان .
وقال أبو حنيفة : نصف صاع [ من ]{[10262]} بر ، وصاع مما عداه .
وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي ، حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا زياد بن عبد الله بن الطُّفَيل بن سَخْبَرَة بن أخي عائشة لأمه ، حدثنا عمر بن يعلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كفَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر ، وأمر الناس به ، ومن لم يجد فنصف صاع من بُرٍّ .
ورواه ابن ماجه ، عن العباس بن يزيد ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عُمر{[10263]} بن عبد الله بن يعلى الثقفي ، عن المنهال بن عمرو ، به . {[10264]}
لا يصح هذا الحديث لحال عُمر بن عبد الله هذا فإنه مجمع على ضعفه ، وذكروا أنه كان يشرب الخمر . وقال الدارقطني : متروك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس ، عن{[10265]} داود - يعني ابن أبي هند - عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : مُدٌّ{[10266]} من بر - يعني لكل مسكين - ومعه إدامه .
ثم قال : ورُوِي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وأبي الشعثاء ، والقاسم{[10267]} وسالم ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، ومحمد بن سيرين ، والزهري ، نحو ذلك .
وقال الشافعي : الواجب في كفارة اليمين مُدٌّ بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين . ولم يتعرض للأدم - واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكينًا من مكيل يسع خمسة عشر صاعًا لكل واحد منهم مُدٌّ .
وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك ، فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري ، حدثنا محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا النضْر بن زُرَارة الكوفي ، عن عبد الله بن عُمَر{[10268]} العُمَري ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدًا من حنطة بالمد الأول .
إسناده ضعيف ، لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بَلْخ ، قال فيه أبو حاتم الرازي : هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة ، فالله أعلم . ثم إن شيخه العُمَري ضعيف أيضًا .
وقال أحمد بن حنبل : الواجب مُدّ من بر ، أو مدان من غيره . والله أعلم .
وقوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال الشافعي ، رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقْنَعَة أجزأه ذلك . واختلف أصحابه في القلنسوة : هل تجزئ أم لا ؟ على وجهين ، فمنهم من ذهب إلى الجواز ، احتجاجًا بما رواه ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، وعمار بن خالد الواسطي قالا حدثنا القاسم بن مالك ، عن محمد بن الزبير ، عن أبيه قال : سألت عمران بن حصين عن قوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : لو أن وفدًا قدموا على أميركم وكساهم{[10269]} قلنسوة قلنسوة ، قلتم : قد كُسُوا .
ولكن هذا إسناد ضعيف ؛ لحال محمد بن الزبير هذا ، والله أعلم . وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الاسفرايني{[10270]} في الخف وجهين أيضًا ، والصحيح عدم الإجزاء .
وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه ، إن كان رجلا أو امرأة ، كلٌّ بحسبه . والله أعلم .
وقال العَوْفي عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين ، أو ثَمْلَة .
وقال مجاهد : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئت .
وقال لَيْث ، عن مجاهد : يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان .
وقال الحسن ، وأبو جعفر الباقر ، وعطاء ، وطاوس ، وإبراهيم النَّخَعي ، وحماد بن أبى سليمان ، وأبو مالك : ثوب ثوب .
وعن إبراهيم النخعي أيضًا : ثوب جامع كالملحفة والرداء ، ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعًا .
وقال الأنصاري ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، والحسن : ثوبان . {[10271]}
وقال الثوري ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها .
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أبي موسى ؛ أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من مُعقَّدة البحرين .
وقال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن المعلى ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن مقاتل بن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن أبي عياض ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : " عباءة لكل مسكين " . {[10272]} حديث غريب .
وقوله : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أخذ أبو حنيفة بإطلاقها ، فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة . وقال الشافعي وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة . وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل ؛ لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب ولحديث معاوية بن الحكم السلمي ، الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم : أنه ذكر أن عليه عتق رقبة ، وجاء معه بجارية سوداء ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله ؟ " قالت : في السماء . قال : " من أنا ؟ " قالت : رسول الله . قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " . الحديث بطوله . {[10273]}
فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين ، أيُّها فَعَلَ الحانثُ أجزأ عنه بالإجماع . وقد بدأ بالأسهل فالأسهل ، فالإطعام أيسر من الكسوة ، كما أن الكسوة أيسر من العتق ، فَرُقىَ فيها من الأدنى إلى الأعلى . فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام ، كما قال تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ }
وروى ابن جرير ، عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام .
وقال ابن جرير ، حاكيًا عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه قال : جائز لمن لم يكن له فضل عن رأس مال يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام ، أن يصوم إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه .
ثم اختار ابن جرير : أنه الذي لا يفضل عن قوته{[10274]} وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين . {[10275]}
واختلف العلماء : هل يجب فيها التتابع ، أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق ؟ على قولين : أحدهما أنه لا يجب التتابع ، هذا منصوص الشافعي في كتاب " الأيمان " ، وهو قول مالك ، لإطلاق قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } وهو صادق على المجموعة والمفرقة ، كما في قضاء رمضان ؛ لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] .
ونص الشافعي في موضع آخر في " الأم " على وجوب التتابع ، كما هو قول الحنفية والحنابلة ؛ لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيرهم أنهم كانوا يقرءونها : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .
وحكاها مجاهد ، والشعبي ، وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود .
وقال إبراهيم : في قراءة عبد الله بن مسعود : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .
وقال الأعمش : كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك .
وهذه{[10276]} إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترًا ، فلا أقل أن يكون خبرا واحدا ، أو تفسيرًا من الصحابي ، وهو في حكم المرفوع .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا محمد بن جعفر{[10277]} الأشعري ، حدثنا الهيثم بن خالد القرشي ، حدثنا يزيد بن قيس ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله ، نحن بالخيار ؟ قال : " أنت بالخيار ، إن شئت أعتقت ، وإن شئت كسوت ، وإن شئت أطعمت ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .
وهذا حديث غريب جدًا . {[10278]}
وقوله : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } قال ابن جرير : معناه لا تتركوها بغير تكفير . { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي : يوضحها وينشرها{[10279]} { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }