تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

مسألة : اختلف الناس في تأويل أحرف ذكرت في قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } إلى قوله تعالى { لعلكم تشكرون }

لما للناس حاجة إلى معرفة حقيقة ما في كل حرف منها . إنه لم يزل تنازع أهل الفقه في أحكامه مما يعلم أن حق البيان في الخطاب لا يبلغ ما يقطع موضع التنازع فيه ولا بحيث يبلغ حقيقة كل سامع . وإن في شرط المحن بالأسباب التي يمتحن بها لزوم الفكر فيها والبحث عنها [ والسؤال عنها الذين ] خصوا بفهمها بسؤالهم : من ولي الإبانة عنها ومقابلتهم بما سبق لهم العلم بها ، في معرفة ذلك بيان ما خفي من معنى الذي قرع سمعه ، أو بغير ذلك مما فيه دليل ذلك ؛ إذ لا يجوز المحنة بالذي لا يحتمل الوسع الوصول إليه ، ولا في جملة ما به امتحن إيضاح ذلك لما يوجب الأمر بفعل ما هو عنه ممنوع ، وذلك بعيد . بل يكون البيان السمعي على قدر البيان العقلي ؛ إن من المعارف ما يكون بالحواس ، ومنها ما بها يوصل إليها إما بالاستدلال ، فمثله حق السمعي ، والله أعلم .

من ذلك قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [ البقرة : 225 والمائدة : 89 ]

إنه عز وجل ذكر يمينا لا يؤاخذ فيها في موضعين من غير أن ذكر أنها : أي يمين هي ؟ ولا بأي شيء ، لا يؤاخذ فيها ؟ والحاجة لازمة . إن ذلك في موضع الامتنان منه ، جل وعلا ، في العفو عن أمر كان له المؤاخذة . وحق على السامع معرفة منة الله تعالى ليشكره عليها .

ثم معلوم أن اليمين لو كانت بالطلاق والعتاق كان صاحب ذلك يؤاخذ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أن ثلاثا جدهن جد ، وهزلهن جد : الطلاق والعتاق والنكاح » [ أبو داوود : 2194 ] . واللاغي لا يعدو أمرين مع ما كان يلزمان بلا شرط ، يصير به الموقع حالفا . وأعظم ما في دفع المؤاخذة في اليمين أن يدفع عنه اليمين ، وهما يجبان دونهما ، فيقعان من غير أن كان في الآية ذكر التفضيل . ولكن تجب معرفة حقيقة ذلك بالذي بينا من الخير والنظر مع ما يعرف في ذلك خلافا . وهذا يوضح أن العفو في ما كانت الأيمان بالله تعالى .

فعلى ذلك ما نسق على ما لا يؤاخذ من المؤاخذة ؛ وذلك يمنع من احتج بإيجاب الكفارة على الحالف بالقرب من حيث كان ذلك منه يمينا . والله أوجب باليمين كفارة . وإنما ذلك في اليمين لا في اليمين بالقرب .

ثم كانت اليمين بالقرب : لو كانت على مخرج اليمين بالله لم يجب فيها شيء نحو أن تقول بالعتق : لا أفعل كذا أو بالصلاة أو بالصيام ، ولو قال : بالله يجب . ثبت أن وجوب ذلك وصيرورته يمينا كان بحق النذور .

وقد أمر الله ورسوله في النذور بالوفاء . فكذلك اليمين بها . ومما يبين ذلك أنه لو قال : إن فعل كذا فعله قتل فلان أو إتلاف ماله إنه لا يلزمه شيء . ثبت أن ما لزم لزم بحق لزوم ذلك في النذور . وحق ذلك الوفاء لا غير مع ما جاء الخبر بالأمر بالحلف بالله والنهي عن الحلف بغيره . والنذور أبدا لا تكون بغيره . ثبت أن وجوب ذلك بحق النذر . فذلك يجب الوفاء به ، والله أعلم .

ثم الأصل في ذلك أن الحلف بغير الله يكون على قسمين : قسم ألا يجب فيه شيء وقسم أنه لو وجب لأوجب[ في الأصل وم : لجب ] المسمى نحو الطلاق والعتاق في ما يجب . فلما كان في الحلف بالقرب في الذمة ، وهو حلف بغير الله تعالى ، يجب أن يكون الواجب في ذلك ما أوجب ، والله أعلم .

ثم اختلف في معنى اللغو ، فقال القوم : هو الإثم كقوله تعالى : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما )[ الواقعة : 25 ] وقوله تعالى : ( لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما )[ مريم : 62 ] .

ثم اختلف [ في ][ ساقطة من الأصل وم ] من قال بهذا على قولين :

أحدهما : أنه لا يؤاخذ بالإثم في أيمانكم التي لم تعقدوها[ في الأصل وم : تعتدوها ] ، لكنها جرت على اللسان . وبمثل ذلك روي عن عائشة رضي الله عنه أنها قالت : هو قول الرجل : لا والله ما كان كذا . وبه قال أبو بكر الكيساني في تفسيره . وأيد ذلك قوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم )[ البقرة : 225 ] . دل أن الأول بما يجري على اللسان دون ما يقصده قلبه .

والثاني : ألا يؤاخذ بترك المحافظة في ما كان في المحافظة مأثم . دليله صلة ذلك قوله تعالى : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم )الآية[ البقرة : 224 ] فكأنهم يخرجون عن ترك المحافظة في ما سبقت منهم الإيمان قبل النهي بقوله تعالى : ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )[ النحل : 91 ] فنزل قوله تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في ) بعض أيمانكم إذا كان حفظها مأثما ؛ وذلك نحو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت بالذي هو خير وليكفر عن يمينه »[ مسلم : 1650 ] .

وعلى ذلك قوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) ولا يحتمل أن يؤاخذ بالعقد ، وهو به معظم ربه ، ولكن لمحافظة ما ( عقدتم الأيمان ) إذا كانت المحافظة إثما ، وفي ما لم يكن فهو في قوله تعالى : ( واحفظوا أيمانكم )[ الآية : 89 ] والله أعلم .

وإلى هذا يذهب سعيد بن جبير في تأويل الآية .

وقال قائلون[ هذا وجه ثان في معنى اللغو ] هو الشيء الذي لا حقيقة له نحو اللعب . وعلى ذلك [ قوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه )[ فصلت : 26 ] أنهم لم يقصدوا تحقيق أمر يظهرونه ، ولكن قصدوا التلبيس بما نطق به : ما كان كذا . قيل : لا يسمعون فيها لغوا باطلا بل كل ما يسمع فيها فهو حق وحكمة .

ثم رجع تأويله إلى وجهين :

أحدهما : يجري على اللسان من غير عقد انقلب على ما مر به تفسيره .

والثاني : أن يكون به الحلف بما لا حقيقة له على ظن أن حقيقة ما حلف عليه الحالف كما حلف .

وكذلك روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهما في تأويل الآية .

ثم لو كانت الآية على التأويل الأول لكانت في وقع المأثم خاصة ، وهو التأويل الذي ذكره سعيد بن جبير رضي الله عنه .

وأما الكفارة فهي لازمة على ما ذكر في الخبر المرفوع في ما ذلك ، وبما هي واجبة للحنث في اليمين وترك الوفاء من حيث لم يكن استثناء حالا منهما صاحبه . وذلك مبين أن ذلك للحلف في عقد اليمين أو لما يخرج الفعل مخرج الاستحقاق إذا قوبل فعله بعقد . وإن كان المسلم قد عصم عن ذلك الوجه ، فأمر بتكفير ذلك ، وذلك المعنى موجود في الوجهين . لذلك لزمت الكفارة في الأمرين ، والله أعلم .

لو كانت على التأويل الثاني أو على أحد وجهي تأويل لأمكن أن يؤاخذ بالمأثم ولا بالكفارة جميعا .

والذي يبين أن هذا التأويل أنه ذكر المؤاخذة في الآيتين :

أحدهما[ في الأصل وم : أحدهما ، والمقصود قوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم )[ البقرة : 225 ] ] : بكسب القلوب .

[ والثانية : بكسبها ][ في الأصل وم : وكسبها ، والمقصود قوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان )[ المائدة : 89 ] ] تعمدها . والمؤاخذة به تكون بالمأثم لا بالحقوق والكفارات ؛ إذ لا يؤاخذ بشيء يكسب القلب خاصة كفارة أو حقا يوجب . وإن كان قد يؤاخذ لذلك عند أفعال الجوارح . فأما [ ما ][ ساقطة من الأصل وم ] له خاصة فلا ، وقد يكون به الطاعة والمعصية .

وعلى ذلك قوله تعالى : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم )[ الأحزاب : 5 ] وإذا ثبت أن ذلك في المأثم فلا يؤاخذ . ثم لا مأثم في ما ذكر من عقد اليمين في العقد ؛ إذ هو يخرج مخرج التعظيم لله ، وقد رويت عقود الأيمان عن الرسل ، فثبت أن المؤاخذة بالكفارة . فلا يؤاخذ بها في اللغو أيضا .

وأيد ذلك أن الله تعالى ذكر ما لا يؤاخذ مرتين ، وذكر المؤاخذة كذلك . فلو كانت المؤاخذة بواحد لكان الذكر الواحد كافيا . فثبت /136-أ/ أنه بأمرين مختلفين .

فعلى ذلك أمر العفو ، والله أعلم ، مع ما أنه قد تبين في آية المعاقدة كيفية المؤاخذة ، ولم يبين في كسب القلب أن يكون العفو عما جرى به بيان المؤاخذة أحق منه مما لم يجيء به ، فثبت أنه في دفع المؤاخذة بالكفارة .

ولو كان على ما يقوله سعيد [ بن جبير ][ ساقطة من الأصل وم ] لكانت تجب الكفارة بما سلف بيانه . لذلك قلنا : إن هذا حق بالآية ، والله أعلم .

ثم إذا ثبت أن اللغو مما لا تجب فيه الكفارة يحتمل أن يكون لم تجب من حيث لم يعص الله به ، ويحتمل أن تكون لم تجب لأن يمينه كانت على ما كانت ، الحنث به معه أو قبله ، فيمنع صحة اليمين . وإن أطلق لها الاسم إن كانت الأسماء مطلقة لما فسد من العقود ، وصحت . وإنما تختلف لها الأحكام والمقاصد منها .

فإن كان لما لم يعص الله فيجب أن يكون في كل حنث يؤمر به ، لا تجب به الكفارة . فإذا جرت السنة بإيجابها على الأمر بالحنث قد يجب أيضا في ما كان فعل الحنث على حال خطإ أو لوم أو جنون أو فعل غير الحالف في ما الحنث به على تعمد أن يأثم بغيره ، إذا قال الله عز وجل : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى )[ الأنعام : 164و . . . ] ثبت أنها تجب لا لأنه لم يعص الله ، ولكن للوجه الذي ذكرت ، والله أعلم .

ثم كان ذلك المعنى قائما في اليمين الذي تعمد عليه الكذب ، وهو ما قيل : اليمين الغموس ، يجب ألا تلزمه كفارة اليمين إنما يلزمه كفارة الجرأة والمخالفة لله ، والله أعلم .

وأيد هذا الأصل وجهان :

أحدهما : استواء الأمرين في اليمين المعقودة على الحادث في ما عصى من الحنث فيها ، أو أطاع ، أن يستويا في اليمين على الماضي في الوجهين جميعا . فإذا لم تجب الكفارة في أحد الوجهين لم تجب في الآخر ، والله أعلم .

والثاني : ما روي عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في شأن اللعان بعد الفراغ منه : «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ »[ البخاري : 4747 ] ومعلوم أن صاحبتهما لو كانت تجب فيه الكفارة [ لاحتيج ][ ساقطة من الأصل وم ] إلى البيان عنها أكثر من صاحبتها إلى بيان كذب أحدهما .

ثم لزوم التوبة إذ ذلك يعرفه كل سفيه وحكيم لا سمع ، والكفارة لا تعرف إلى بالسمع ، ثبت أنها غير واجبة .

وكذا الأخبار التي رويت في الخصمين أنه قضي لأحدهما حتى ذكر فيه الوعيد الشديد حتى أمرهما بالتساهم بينهما وأن يحلل كل واحد منهما الآخر ، فلا يحتمل أن يكون فيه كفارة ، ولا تبين وكذلك علم في الموضع الذي أمر بالحنث ؛ إذ قد يشتبه على بعض من ليس له رؤية .

وقد قال أبو إسحاق : أجمع المسلمون على ألا تجب فيه الكفارة . ولا تبين وكذلك علم في الموضع الذي أمر بالحنث ؛ إذ قد يشبته على بعض من ليس له رؤية .

وقد قال إسحاق : أجمع المسلمون على ألا تجب فيه الكفارة . فقول من يوجبها ابتداء شرع ونصب وحكم الله تعالى على الخلق ، وهو لم يشرك في حكمه أحدا .

ثم الأصل في ذلك أن الأسباب التي ترفع العقود توجب الحرمات إذا تأخرت[ في الأصل وم : تأخر ] العقود وأسباب الحل ؛ فهي على اختلافها متفقة على منع ابتدائها إذا قارنتها . فعلى ذلك أمر سبب الحنث . فلذلك تطلب اليمين والكفارة ؛ وهي كفارة اليمين فلا تجب في ما لا يمين تجب فيها . وليس كذلك كالقول بمس السماء ونحو ذلك لأن اليمين في هذا على ما يكون . فسبب الحنث لم يقترن لها ، فصحت . لذلك اختلف الأمران .

وهذه المسألة توضح حال رجلين : [ حال ][ ساقطة من الأصل وم ] الشافعي في قوله : إن الكفارة تجب للحنث ، وههنا لا حنث لما لم يصح العقد ليحنث فيه . ويكون الحنث أيضا بعد العقد ، ولم يكن النص بالكفارة في اليمين المعقودة[ في الأصل وم : المعقود ] التي أمر فيها بالحفظ في هذه اليمين ، وإنما يجب الحفظ عنها أن يحلف به ، والله أعلم ، وحال أبي عبيد حيث يوجب الكفارة بعقد اليمين . وعنده : اليمين الغموس يمين لا تجب فيها الكفارة . فهذا يوضح أن الكفارة تجب للذي يرد في اليمين لا لنفسها ، والله أعلم .

ثم احتج قوم بوجوب الكفارة بعقد اليمين بقوله : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) ثم بقوله[ في الأصل وم : قال ] ( فكفارته ) أي عندهم كفارة ما عقد من الأيمان بما فيها الإضافة . ولم يسبق غير ذلك العقد يضاف إليه .

وكقوله ذلك تسمية [ عقد اليمين ][ في الأصل وم : المؤمنين ] مع ما فيه وجهان من المعتبر :

أحدهما : ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بحمزة الطعنة أقسم ليمثلن بكذا من قريش ، فنزل النهي عن الوفاء بذلك ، فكفر عن يمينه . ومعلوم أنه لا يحنث في يمينه إلا في الوقت الذي لا يحتمل بر مسألة في حياته . ثبت أنها كانت لليمين . وكذا ما جاء : «من حلف على يمين » إلى أن قال : «وليكفر عن يمينه »[ مسلم : 1650 ] إنما أمر بتكفير يمينه ، والله أعلم .

والثاني : ذكر أبو عبيد أن الله إن نهى عن الوعد [ فإن لا ينهي ][ من م ، في الأصل : تكفير ] إلا بالثنيا بقوله : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ) ( إلا أن يشاء الله )[ الكهف : 23و24 ] فذلك النهي في اليمين أوكد وأشد فمن حلف بلا ثنيا عصى الله ، فتلزمه الكفارة .

والأصل عندنا أن الكفارة تجب للحنث في اليمين ؛ إذ هي كفارة ، والكفارات إنما تكون للسيئات كقوله تعالى : ( نكفر عنكم سيئاتكم )[ النساء : 31 ] وغير ذلك من الآيات . ومن البعيد في العقل تكفير الحسنات ، بل الحسنات تكفر[ من م ، في الأصل : تكفير ] السيئات . والحنث في التحقيق اسم الإثم . ثم معنى الذنب فيه ، لأنه كان عاهد الله ألا يفعل كذا ، ففعله ، يخرج مخرج نقض العهد فيه ، فيأثم لا بالعهد . ولذلك قال الله تعالى : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )[ النحل : 91 ] .

وفي الجملة أمر الله أن يوفوا بعهده لا أن ينقضوا ، وقد جعلت اليمين عهده ، وأمرنا بوفائه ، فنقضه يوجب الخلف في وعده والنقض لعهده ، فيأثم الحالف لا بالحل . فلذا تجب الكفارة . ولو كانت لليمين كفارة لكان الحنث أحق أن يوجب الكفارة .

ثم لا يجوز أن يكون من حلف أن يطبع يكون به عاصيا . ثبت أن الكفارة لو كانت تجب لليمين على المعصية ، لوجب[ في الأصل وم : فيجب ] ثم حق كفارة ؛ مثلها الحنث فيها . وعلى ذلك روى أبو هريرة رضي الله عنه : «أن من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منها فإنما كفارته أن يأتي بالذي هو خير وليكفر من يمينه »[ مسلم1650 ] فكذلك تكون كفارة اليمين لو جعلت أن ترجع عن الوفاء بها .

وأما كفارة ما لا وجه لدفعه ؛ فتكون[ الفاء ساقطة من الأصل وم ] بالتوبة ، والحسنة تكفر لا بالرجوع . وعلى ذلك جميع أنواع الكفارات أن ما احتمل دفع المعصية[ في الأصل وم : الحقيقة ] والرجوع عنه ونقض ما قد فعل ، وما لا يحتمل ، فيعتبر ذلك . فلو كان لليمين كفارة ، فكانت توبة وفسخا لا غير ، فإذا أوجب الله غير الرجوع ، ثبت أن ذلك للحنث ، والله أعلم .

ثم الدليل على[ من م ، في الأصل : لا ] أنه لا يحتمل إيجاب الكفارة بعقد اليمين بأوجه[ في الأصل وم : أوجه ] :

أحدها : أن العقد يخرج مخرج التعظيم لله والتبجيل ، جعله مفرغا إليه ، ومأمنا للخلق عنده . ولذلك جعلت الأيمان لدفع التهم وتحقيق الأمر للخلق عند الحالفين .

وأيد ذلك أوجه :

أحدها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إذا حلفتم فاحلفوا بالله »[ بنحوه مسلم1646/3 ] وقال : «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيث »[ مسلم1648 ] فحذر الحلف بغيره بما فيه تعظيم ذلك ودفعه عن قدره ، وألزم ألا تجعلوا لأحد ذلك القدر إلا لله سبحانه وتعالى .

والثاني : قوله تعالى : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )[ النحل : 91 ] ولا يجوز أن ينهى عن الرجوع عن المعصية ، ويؤمر بالوفاء بها .

والثالث : الأمر الظاهر عن نبي الرحمة لحلفه وقسمه في غير موضع ، وما ذكر في قصة يعقوب وأولاده وأمر إبراهيم ، عليه /136-ب/ الصلاة والسلام ، في شأن الأصنام وأمر أيوب عليه السلام لم يجز أن يكون عصاه بفعلهم ؛ وذلك ينهى عن جرأة ممن زعم أن الحالف عاص بما ترك الثنيا . ومن ذكرنا من الأنبياء عليهم السلام قد تركوا الثنيا ، وليس ذلك كالوعد لأنه إلى نفسه يضيف الفعل ، وهو يفعله تحت مشيئة الله تعالى .

وفي اليمين بالله يستغيث ، وإليه يفرغ ، فلذلك اختلف الأمران ، والله أعلم .

والدليل على أنها لم تجب باليمين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت بالذي هو خير ، وليكفر عن يمينه »[ مسلم : 1650 ] وقوله[ في الأصل وم : قال ] : «من حلف على يمين فليكفر يمينه وليأت بالذي هو خير » .

ولو كانت الكفارة واجبة باليمين لكان لا[ من م ، في الأصل : إلا ] وجه للأمر بالذي يأتي ، وهي واجبة . ويقول : ! من حلف على يمين فليكفر عن يمينه » فإذا لم يقل ، ولكن قال في ما كان ، ثم حنث ، ثبت أنها له تجب ، والله أعلم .

ووجه آخر اتفاق القول : إنه إذا كان مع اليمين بر فلا كفارة عليه ، وإذا كان معها حنث تجب . فلو كانت تجب لليمين لكانت هي عند الوفاء أوجب . فالكفارة فيه تكون أوجب إذا بر ثبت أنها بالحنث وجبت ، والله أعلم .

وأيضا ما أجمع [ على ][ ساقطة من الأصل وم ] أن من حلف ألا يقرب امرأته بشيء لا يلزمه ، لو حنث به لم تلزم فيه حكم الإيلاء . فلو كانت الكفارة تجب باليمين لكان الحالف به عند الفراغ من يمينه صار بحيث لا يلزمه من بعد شيء فيجب أن يسقط حق الإيلاء . فإذا بقي عليه حكمه جاء بذلك كتاب ، وجرت به السنة . ثبت أن القول بوجوبها قول مهجور[ من م ، في الأصل : مجهور ] ، والله أعلم .

ثم إذا ثبت هذا رجع تأويل الآية إلى وجهين :

أحدهما : قوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم )بمحافظة ما عقدتم من الأيمان كقوله : ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )النحل : 91 فإن تركتم ذلك فكفارته كذا .

والثاني أن يكون على إضمار حين يؤاخذكم بحنثكم في ما عقدتم . وذلك غير مدفوع في حق الكفارات كقوله تعالى : ( فإن أحصرتم )الآية[ البقرة : 196 ] وقوله تعالى : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه )الآية[ البقرة : 196 ] لا على الوجوب للعدو ولكن باستعمال الرخصة فيه ، إذ لا يكون العدو سببا لإيجاب . فمثله في الأول لا يكون تعظيم الرب سبب إيجاب الكفارة ، فيصير الحنث فيه مضمرا ، والله أعلم .

والإضافة إلى الأيمان على إرادة الحنث فيها كإضافة كفارة الفطر إلى الصيام والدم إلى الحج والسجود إلى السهو[ من م ، في الأصل : السجود ] ، وإن كانت الكفارات ليست لما أضيفت إليه . أيد ذلك[ أدرج قبلها في الأصل : إلى ] ما ذكرت ، والله أعلم .

وتكفير رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لأنه قد عصم عن المعصية ، وفي الوفاء بذلك معصية ، إذ نهي عنه ، ويمينه كانت قبل النهي ، فصار آيسا عن البر بذلك ، وبذلك يكون الحنث لا بعدم إمكان الوفاء ، لكن بغيره[ في الأصل وم : غيره ] إذ لا يؤمن منه العصيان ؛ فذلك وقت إياسه عنه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قد عصم عن ذلك ، فوقت إياسه وقت النهي ، ولا قوة إلا بالله عز وجل .

[ وقوله تعالى[ ساقطة من الأصل وم ] : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين ) في متعارف اللغة على التقريب ليأكلوا لا على التمليك . وكذلك الأمر المتعارف بين الخلق يما ينسب بعضهم إلى بعض الإطعام .

وأيد ذلك قوله تعالى : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) ولا نعرف التمليك في إطعام الأهل ، ولا خطر ببال أحد ذلك . وقد عرفهم الله تعالى ما فرض عليهم بالذي كان علمه عند كل أحد معلوما ؛ إذ قل إنسان يخلو من أن يكون أهلا لأحد ، أو له أهل ، فلا يحتمل أن يظن بأحد الجهل به حتى يسأله ، فيكون ذلك إلزام الفرض مع رفع وهم الجهل به عن العقول ، ثم لا نعرف بها ، والله أعلم .

والذي يوضح[ من م ، في الأصل : يوضع ] هذا من طريق العبرة أنه ذكر في ذلك إطعام عشرة مساكين . والمسكنة هي الحاجة ، وحاجة المسكين إلى الطعام ، معلوم أنها تكون إلى أكله دون ملكه ، وجهات حاجات الأملاك مما يعم المساكين وغيرهم مع ما قد ذلك بالكفاية والشبع . وحق ذلك في التقريب لا في التمليك عليه ، ولكن يجوز التمليك بما به التمكين لذلك ، فيجب بذلك الجواز بكل ما فيه تمكين ذلك بهما ، أو ما كان ، أو جواز التمليك بحق التمكين لا بحق النصر مع ما كان في تمليك الثمن الوصول إلى ما يختار الاعتذار ، فإن ذلك أقرب إلى قضاء حاجته .

ولو كان الأمر على تمليك المأكول خاصة لكان الدعاء والتقريب إليهم للملك أحق أن يجوز لوجهين :

أحدهما : أنه أقرب إلى دفع الجوع وسد المسكنة من تمليك بر لا يصل إليه إلا بعد تحمل المؤنة وطول المدة .

والثاني : أن الكفارة جعلت بما ينفر عنه الطبع ليذيقه ألم الإخراج من الملك والبدل ، فيكفر ما أعطى نفسه من الشهوة التي لم يؤذن فيها . وكذلك معنى الحسنات المكفرة للسيئات .

ثم كان دعاء المساكين وجمعهم على الطعام وخدمتهم والقيام بما فيه الاختيار إليهم أشد على الطبع من التصدق[ من م ، في الأصل وم : التصديق ] عليهم ، فيجيء أن يكون أقرب للتكفير به .

وعلى ذلك يجوز بذل الثمن لما فيه تحمل المكروه على الطبع كهو في الطعام ، فيجوز مع ما إن جعل ذلك حقا للمساكين [ أن ][ ساقطة من الأصل وم ] يخرج من عليه التسليم إليهم من طوع منهم . ويجوز مثله من التبادل في جميع الحقوق ؛ فمثله عن الكفارات ، والله أعلم . على أن الله تعالى قال : ( فما استيسر من الهدي )[ البقرة : 196 ] ويجوز فيه غير ذلك النوع ، وكذلك في كل الصدقات ، والله أعلم .

ثم جعل ذلك أكلتين لوجهين :

أحدهما : القول بإطعام المساكين ، ثم أريد به دفع المسكنة . والمسكين هو الخاضع ، فأحق من يستحق اسم السائل يخضع للمسؤول بالسؤال .

وقد روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في يوم الفطر «أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم »[ الدارقطني2114 ] ثم كان أقل ما أخبر فيه نصف صاع من حنطة . فعلى ذلك صدقة المسكين في ما أريد [ الإطعام قدر ][ في الأصل وم : لإطعام القدر ] ذلك . فمثله ما نحن فيه ، وذلك يعدل أكلتين . وبه قال عمر وعلي رضي الله عنهما .

والثاني[ ساقطة من م ] : أنه عز وجل قال : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) . والأوسط في ماله حدود ثلاثة : [ يرجع ذلك إلى أوجه ثلاثة ][ من م ، ساقطة من الأصل ] :

أحدها : إلى الأوسط من مقدار الأكل .

والثالث : إلى الوسط من أحوال الأكل . فالأول نحو الأجود والأردإ وبين ذلك ، والثاني : نحو السرف والقتر وبين ذلك ، والثالث : نحو مرة وثلاث مرات في يوم واحد وبين ذلك .

فإذا لم يثبت في خبر ما إليه رجع المراد فحق الاحتياط أن يكون الوسط من الكل ليخرج بما فرض عليه . فلذلك[ في الأصل وم : وذلك ] وجبت أكلتان مع ما حقيقة الواسط من الأنواع والمقادير لما لا منتهى لطرفيه . وقد تعرف حقيقة الأكثر والأقل من الوقت ، فهو أن يعتبر ، والله أعلم .

ثم كان الأمر في الظاهر بالإطعام ، وأجمع على رجوع الأمر إلى الحد ، وإن لم يذكر ، يحتمل أن يكون انتزع حده من حكم الكتاب وجهين :

أحدهما : أن الآية إذا كانت على ما يؤكل ، ويطعم ، كان في ما عليه العرف ألا يقرب إلى آخر ما يطعمه ، فيقتصر على أقل ما يستحق /137-أ/ اسمه . وقد يتصدق بالقليل في العرف فلذلك في الأمر به تحديد ، إذا كان بما يعرف فيه التحديد ولذلك يذكر فيه التفسير مرفوعا .

وذكر في قصة المتأذي لما ليس في لفظها دلالة الحدود ، وفي لفظ الإطعام دلالته ؛ إذ فيه عرف ، وعلى هذا أمر ما جاء من البيان في الصدقات . ولم يذكر في الإطعام إلا لمكان النوازل . وعلى هذا يجب أن يجوز الإطعام أيضا ، وإن لم يكن تمليك ، والله أعلم .

والثاني : قوله تعالى : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) ومعلوم [ أن كل شيء له واسط ، فهو ذو حدود وأطراف ، على أنه رد إلى طعام الأهل ، وفيه الإشباع لا محالة ؛ لذلك وجب القول بالحد ، والله أعلم .

وإذا ثبت القدر فيه بحق الخطاب يجب ][ من م ، ساقطة من الأصل ] وصل ذلك به ليعرف به حقيقة[ من م ، في الأصل : حقية ] المقصود ، والله أعلم ، وكأنه قال : ( إطعام عشرة مساكين ) إذ إطعام عشرة في العرف عبارة عن قدر طعامهم ، وإطعام عشرة عبارة عن فعل الإطعام ، وقد ثبت أنهما ارتدا جميعا ، فكأنهما ذكرا موصولين ، ولو توهمنا ذلك لم يكن بحق حفظ العدد بل بحق حفظ مقدار ذلك العدد من الصيام كان مدفوعا إلى الواحد أو أكثر ، والله أعلم .

لذلك أجاز أصحابنا جمع الكل في مسكين واحد عشرة أيام ، ولم يجيزوا في يوم واحد في الأمر على أن يغذى ، ويعشى ، وإن كان يجوز الدفع لما فيه حق الطعام ، فيصير طعام كمال ذلك ، وهو قدر طعام مسكين ، فتزول عنه المسكنة ، لكن الإطعام فيه لا يجوز . وإذا كان حق ما ذكرت الجواز ففساده لمعنى اعترض ، فمنع ؛ لا لأنه خارج عن أن يراد له على ذلك ؛ وذلك كخروج بعض المساكين لعلل عن الدفع إليهم ؛ لا لأنه لو أجيز كالخلاف للذكر ، فمثله الأول ، والله أعلم .

ودليل آخر مما له جرى ذكر عشرة ؛ لا لأن يجعل العشرة شرطا له أنه معلوم بالمعنى الذي له جعل الدفع إليهم والإطعام لهم سببا للجواز أن ذلك بحيث تحمل المكروه على الطبع وطف الهوى عن مثلها وإذاقة النفس مرارة الدفع لله ، جل ثناؤه ، يكفر ما أتبعها هواها ، وأوصلها إلى مناها في ما خالف الله من فعله حين[ في الأصل وم : حيث ] لم يف بالعهد الذي عهد الله ، أو ألزم نفسه عهدا من منع عن الوفاء ، فيخرج فعله مخرج فعل ناقض العهد ومخلف الوعد بالله . وذلك المعنى في البذل لا في مراعاة[ من م ، في الأصل : المراعاة ] العدد ولا في أنه حقا لهم قبل الدفع بل باختيار الدفع إليهم يجعلهم محقين فيه بما له إيثار غيرهم والخروج عن ذلك بالعتق والصيام الذي لا يعود إليهم نفعه .

ولكن الكفارة إذا جعلت مما يغذى ، ويعشى ، ونحو ذلك إذا أريد الخروج به منه بمسكين واحد يحتاج إلى تحديد الأيام ومرور الأوقات . وفي ذلك خوف الذنوب عليه . ولعله يعجله الموت[ في الأصل وم : الميتة ] ، فيبقى ذنبه غير مكفر ، جعل الله له التكفير في المساكين تيسيرا وتمكينا من الخروج الذي ركنه لا لفوت معنى مما له التكفير . فلذلك يجوز على ما ذكرت وهذا الوجه يوجب منع الجواز في يوم واحد ، والله أعلم .

وبعد فإنه متى أطعم مسكينا بقي عليه خطاب إطعام تسعة ؛ وذلك لو ابتدأ الخطاب بتسعة مما يتضمنه الخطاب ، فكذلك إذا كان بعد إسقاط الواحد من الخطاب ، والله أعلم . ثم لو كان العدد شرطا لكان بوجود معنى العدد في الواحد إسقاطه أن ذلك في موضع التكفير والتطهير ، وكل ذلك يتعلق بالمعاني مما ذكر فيها من الأعداد نحو الغسل من الأحداث والجنابة والأنجاس ، فمثله الكفارة .

وبعد فإنه معلوم أن لكل مسكين قدرا من الطعام ، ثم كان القدر الواحد بتفرق الإملاك عليه يستوجب حق قد العشرة[ في الأصل وم : العشر ] فعلى ذلك المسكين الواحد بما تتفرق عليه المسكنة كل يوم ، وتتجدد الحاجة يصير عدد المساكين . وذلك أيضا شبيه بما روي من الاستنجاء بثلاثة أحجار على استحقاق كل حرف من ذلك حق حجر على حدة من حيث كان غير مستنجى به . فكذلك ما نحن فيه ؛ إذ له كل يوم حق مسكين آخر من حين[ في الأصل وم : حيث ] حدثت له حاجة لم تدفع بالإطعام الأول ، والله أعلم .

وليس كالأعداد في الشهادة لما جعل العدد فيها بما يلحق الواحد تهمة أوله به منفعة التصديق أو نوع عبادة في موضع الحكم والقضاء وتسليم الأمر لغيره من الحجج . وفي هذا معنى التكفير قد بينا . وذلك كمعنى التطهير في الذي وصفنا . على أن الشهادة في اليوم الثاني إعادة الأول ، والإطعام هو تحديد الدفع ، والواحد قد يقوم في الشهادة مقام مئة إذا كان لكل حق التحديد ، والله أعلم .

ثم قوله تعالى : ( عشرة مساكين ) من غير ذكر القريب والبعيد أو المؤمن والكافر أو الصغير والكبير أو قدر المسكنة أو العلم الذي به تعرف . ومعلوم أن لكل جهة مما بينا حدا بالناس إلى معرفته حاجة ، وللناس في كل جهة تنازعا[ في الأصل وم : تنازع ] ، والاجتهاد في الوقوف على الحقيقة . على أن الإنفاق ، وعلى أنه لم يجعل الأمر على الاسم خاصة ، وأن الذي هو في حد الفقر في ما ذكر فيه المسكين والفقير ، قائم مقام المسكين ههنا في الجوار ليعلم أن المعنى فيهم مقصود ، يجب طلبه والبحث عنه ، والله أعلم .

ثم أجمع أن الصغير الذي قدر لقمته لقمة الكبير لم يقم في حق الإطعام إلا من حيث التمليك ؛ إذ الجمع على أقل المقدار أنه مد ، والمد يكفي عشرة مثله ، ثبت أنه لا إلى مثله رجع الخطاب . وأيد ذلك قوله تعالى : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) أن مثله لا يبلغ أقل ما يطعم الأهل . على أنه لو أريد بالأهل الزوجة لكان مثلها لا يطعمها الزوج ، فثبت أن المراد راجع إلى الخصوص ، والله أعلم .

والأصل في ذلك ما بينا من تألم الطبع بدفع مثله ، وابن يوم يميل الطبع إلى إرضاع مثله ، بل لا يحتمل إهماله . وبعد فإن مثله لا يطعمن فثبت أن الأمر راجع إلى واحد ، والله أعلم . وعلى ما ذكرنا قالوا في الوالدين والولد أنه لا يجوز لأن الطبع يألم بمسكنة هؤلاء لا لما به دفع المسكنة عنهم ، بل جعل الله تعالى الطبائع بين هؤلاء بحيث لا يحتمل نزول البلاء والشدة بهم ، وبحيث يجتهد كل بدفع الضرر عنهم على مثل الدفع عن نفسه وبذل المال لصون عرضهم حتى لقد يشتم من لم يتعاهد منهم ذلك ، ويلام أعظم اللوم . وإذا كان كذلك لم يتضمنهم هذا الأمر ؛ إذ هم لا بهذا يقومون بذلك بحق الطبيعة لا بأمر . وقد بينا وجه الكفارة أنه في مخالفة الطبع ، والله أعلم .

وعلى ذلك ما روي عن الذي أمر بتفريق زكاته ، فأعطى ابنه ، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا فلان : «لك ما نويت » وقال للآخر : «لك ما أخذت »[ البخاري1422 ] ولو كان يجوز اختيار فعله لكان ذلك أحب ما صار إليه وآثر .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أنت ومالك لأبيك »[ ابن ماجة2292 ] فلا يحتمل مع هذا الجواز بالاختيار ، ويصير ما يدفع إلى ابنه كأنه لنفسه دفع . فلذلك لم يجز .

والأصل في هذا وفي الزكاة أنها حقوق ، جعلها الله تعالى في الأموال لوجهين :

أحدهما : بما ابتدأ الله عبيده بالنعم ، وخصهم بإعطاء ما اشتهت أنفسهم ، ومالت طباعهم ، فاستأداهم شكر ذلك بالذي جعل في طباعهم النفار عنه وفي أنفسهم الألم به من الإخراج عن الملك ومعونة من لم يكرمهم به ولا أنعم عليهم به .

والثاني : أن يكونوا فرقوا مأثما بما أعطوا أنفسهم ههنا ، وأوصلوا[ من م ، في الأصل : وأصلوا ] طباعهم إلى هواها بغير الوجه الذي أذن له في ذلك من هو له في الحقيقة ، وهو الذي اختصهم ، فعليهم الخروج بما فعلوا من الوجه الذي في الطبع النفار عنه ، وفي النفس /137-ب/ الألم ليذيقوا أنفسهم بدل[ في الأصل وم : بالدال المنقوطة : بذل ] ما أعطوها من اللذة المرارة . فمن هو من المتصدق بالمحل الذي يجد به هذا فهو مقابل ما له أكرم ، وبه أقرف . ومن لا يجد به هذا فليس بمقابل ذلك ، فلم يف بحق ، فلم يخرج مما عليه من القرض ، وإن كان الله بكرمه وجوده بحيث يرجى [ منه العفو ، ومنه القبول ][ في الأصل وم : من العفو ومنه القبول منه ] ، والله أعلم .

وعلى ذلك عندنا أمر الزوجين ، إذ يوجد بينهما في البدل شهوة وميل الطبيعة ؛ وتكون الطبيعة ، ويكون التناكح بمله على ما ذكر النكاح لأربعة أوجه أحدها : لمالها ، وما كذلك الموجود في الطباع ، والله أعلم .

وعلى هذا المعنى يخرج أمر الشهادة ، إذ هي مؤسسة على دفع السهم عن المدعين . فإذا رجعت منافعهم إلى حججهم تمكنت فيهم ذلك ، فلم تقبل .

وجملة ذلك أن الشهادة ودفع الزكوات والكفارات بحق الأمانات ، وهي بحيث للأمناء الانتفاع بها . فكل وجد فيه الانتفاع المؤتمن ، فإنها له الانتفاع لا تمانع في العرف أو بما في الطبع إيثار نفعه ، فكان له ما بزواله جعل أمينا ، فلا تثبت له الأمانة فيه ، والله أعلم .

وعلى هذا يخرج أمر الدفع إلى المكاتب والشهادة له ، والله أعلم . ثم الدفع إلى الكفارة : القياس أن يجوز جميع ذلك من حيث كان المعنى الذي يختار في الدفع إليهم ، أو يجد من ثقل الطبع وألم النفس .

وعلى ذلك أجبرت عندنا الكفارات . وأيد ذلك قوله تعالى : ( إن تبدوا الصدقات ) إلى قوله تعالى : [ ( ويكفر عنكم من سيئاتهم )[ البقرة : 271 ] صير ][ من م ، في الأصل( إن تبدوا ) ] الصدقات مكفرة لما ذكر . ثم يدل على ذلك في ما قال أهل التفسير في قوله تعالى : ( ليس عليك هداهم )الآية[ البقرة : 272 ] إن ذلك في التصدق على أهل الكفر ؛ أي لا يمنعك ذلك . وكان على إثر الوعد بالتكفير بالصدقة ، فأمكن أن يكونوا هم في ذلك مع ما كانت الكفارات جعلت بشرط المسكنة . وقبيح في المسلم دفع السؤال ، وإن كانوا كفرة ، فجائز الدفع إليهم .

وجملة ذلك أن ذلك بما اختار من إعطاء النفس شهواتها في ما لم يؤذن له . فتكون كفارتها بالكف عن شهواتها في ما كان يحل ، والبذل بالذي كان يسعه منع ذلك . وذلك المعنى موجود ، في ذلك علم أن [ ترك ][ ساقطة من الأصل وم ] التصدق عليهم نقض ما يرغبهم في الإسلام ، لم يجز المنع ، والله أعلم .

وأما الزكوات فيه[ من م ، في الأصل : فهو ] مخصوصة بما جاء من إضافة الدفع إلى ما[ في الأصل و م : من ] يؤخذ من غنيهم ، ولما بين أهلها ، وجعل أهلها سفارة ليتحروا المواضع .

وأما الكفارات [ فقد ][ ساقطة من الأصل وم ] جعل على أربابها إيجابها ، والخروج عنها في تخير أهلها مع ما كانت الزكوات أوجبت بلا كسب بحق الشكر ، وحق الشكر الإنفاق في الطاعة ثم كان الإنفاق على من يطيع الله به يخرج مخرج المعونة على الطاعة ، وعلى الكافر لا [ فلا يقتصر ][ من م ، في الأصل : فيقتصر ] على شرط التمام في معنى الشكر ، والكفارة[ من م ، في الأصل : الكفارة ] في حق إعطاء النفس الشهوة ، فيمنحها بإخراج ما ي شهوتها المنع ، وذلك المعنى موجود في الكافر على التمام ، لذلك اختلفا .

وبعد فإن الزكوات تجب بلا إيجاب ، وقد قطع الله الحق الذي ذلك سبيله ، ثم بين مختلفي الملك بحق المواريث . والكفارات تجب بما اكتسبوا . وبين الفريقين في الحقوق المكتسبة اشتراك ، ولا قوة إلا بالله .

والأصل في ذلك أن الزكوات أوجبت في الأموال حقا للفقراء ثم هي تخرج إلى من أوجب لهم ؛ فمن لم يعلم من أوجبت له لم يخرج على مثل حقوق المواريث للقرابة ، وغير ذلك .

والكفارات ليست بواجبة في الأموال تخرج ، بل ينظر إلى وقت الدفع والقيام بالتكفير . فإن كانت له أموال دفعها منها ، وإلا ليست عليه ، فصارت الحقوق كأنها بالدفع ؛ إذ لو توهم وقت الوجوب له الغنى والفقر لكان الأمر لا يختلف[ من م ، في الأصل : يخلف ] ، وإذا كان كذلك ، وله ابتداء التصدق عليهم بحق التطوع والنذور وغيرها ، فتجوز فيهم . والزكوات إذ الدفع منا تسليم إلى من كان له الحق احتيج في ذلك إلى مبين ذلك ، والله أعلم .

وصدقة الفطر بحق إظهار السرور ودفع السؤال كما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم »[ الدارقطني : 2114 ] لا بحق ما كان جعل في ماله يخرج منه ، بل بحق المعونة ؛ وذلك لازم في العقول لكل سائل ولخاصة الدفع[ في الأصل وم : في الدفع ] إليهم ليتمتعوا[ في الأصل وم : ليتمنعوا ] هم بما فيه سرور أهل الإسلام ، والله أعلم .

وأيضا إن الزكوات أوجبت في الابتداء حقا للفقراء إذ الله سبحانه وتعالى أخرج أرزاق الخلق أموالا[ في الأصل وم : أملاكا ] لبعضهم ، وألزمهم تحمل كفاية من لم يملكهم أعين تلك الأموال ، إذ لم يخلق ابتداء [ الرزق لهم جملة ][ في الأصل وم : الخلق لهم جملة ] وإذا كان محل الزكوات في الابتداء وجعل لأهلها بها الغنى ، وأهل الكفر أبوا قبول الدين الذي ذلك حق ، جعل للمحتاجين في أموال الأغنياء فلم يكن لهم في مذهبهم ذلك حق ، بل لو كان في أموال الأغنياء[ في الأصل وم : أغنياء ] مذهبهم ، ولأهل الإسلام ذلك الحق في أموال أغنيائهم ، وكذلك من عليهم الحق قبلوه بالدين لأهله لم يدخل في ذلك غيرهم .

ثم كانت الكفارات والنذور ونحوها ليست بمجعولة بالدين لحق الفقراء ، وإنما هي واجبة يتعاطى أرباب من لزمهم يتقربوا بها إلى ربهم ، ويخرج بها مما جنوا على أنفسهم[ في الأصل وم : مذهبهم ] وقد جعل ذلك في جملة الصدقات وأنواع العبادات التي لا عبرة فيها لمنافع الخلق ، فثبت أنها لم تجب لهم ، وإنما الشرط عليهم فيها ما يكون عبادة وقربة إلى الله تعالى .

وقد جعل الله تعالى في الدفع إلى مساكينهم قربة وعبادة فجازت . وعلى هذا يخرج قولنا في العتق . على أن قولنا لجميع المخالفين لنا في هذا أولى ؛ لأن مذهبهم اعتماد العموم إلا في قدر ما يمنعهم عن ذلك . والعموم لجميع الفرق كلهم باسم المساكين واسم تحرير الرقبة . ولا دليل لهم على الخصوص إلا ضرب من القياس . ومن مذهبه أن إخراج ما تضمنه الاسم لا يوجب خصوص ذلك ، فكذا يلزمهم ألا يخصوا الوجود بالتخصيص[ الباء ساقطة من الأصل وم ] في غيره . وأن[ في الأصل وم : إن ] ذلك أبعد . على أنهم أجمعوا أن يقاس ما ليس فيه ذكر التتابع على المذكور ، فمثله أمر الإيمان وجملة[ من م ، في الأصل : جعلته ] أنه قد يجوز في العتق مع قيام كثير من العيوب التي لا تحتمل القفير ، فعيب الدين الذي يمكنه أحق . وكذلك من قول الجميع أن العجز بالمرض عن المكاسب لا يمنع ؛ إذ هو قد يجوز . فالذي لا عجز فيه ، ويمكنه اختياره ، أحق أن يجوز ، والله أعلم .

ثم الأصل أن الله تعالى في الكفارة التي جعل الإيمان فيها شرطا ذكر العتق في ذلك في قتل ثلاث مرات[ في الأصل وم : فرق ، والآيات المقصودة في النساء : 92 والمائدة89 والمجادلة3 ] ذكر في كل مرة تحرير رقبة مؤمنة لم يدع ذكر ذلك في شيء منها للذكر في نوع من ذلك على قرب ما بين أولئك الأسباب . فلو كان يحتمل الاقتصار على بيان الكفاية دون المبالغة أو يجب ذلك في النظر لكان يذكر مرة[ الآية المقصودة في النساء : 89 ] .

كفاية على نحو الصوم . فإذا لم يكتف على تقارب المعنى بان أن ذلك نوع ما لم يؤذن فيه تعليق الحكم بالمعنى . بل لو كان مأذونا فيه لكان يوجد في القتل معان لا توجد في غير ذلك ، فلا يجوز قياس غيره عليه ، والله أعلم .

فإن قال قائل : إذ قال الله تعالى : ( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها )[ غافر : 40 ] ثم قد جعل سيئة[ في الأصل وم : سببه ] الظهار والقتل عتق رقبة والصيام صوم ( شهرين متتابعين )[ النساء : 92 والمجادلة : 3 ] فكيف جعل سيئة الحنث بالعتق عتق رقبة وبالصيام [ صوم ][ ساقطة من الأصل وم ] ثلاثة أيام ؟ فلو كان [ صوم ][ ساقطة من الأصل وم ] ثلاثة عديل العتق ، فإذن زاد في الظهار والقتل /138-أ/ في الجزاء نقل[ في الأصل وم : نقول ] ، وبالله التوفيق ، لذلك أجوبة ثلاثة :

[ أحدها ][ ساقطة من الأصل وم ] : أن الجزاء في الدنيا هو ما تجوز به المحنة ابتداء لا على الجزاء . فعلى ذلك يجوز فيه الزيادة بحق المحنة لا الجزاء والنقصان بحق العفو كما قال الله تعالى : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة )[ الأنبياء : 35 ] وقال : ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات )[ الأعراف : 168 ] . وفي الآخرة لا يكون بحق ابتداء المحنة ، إنما ذلك بحق الجزاء ، وهو عز وجل حكيم ، عدل ، لا يزيد على ما توجبه الحكمة ، ويجيز التجاوز بما هو عفو كريم . فلذلك اختلف الأمران .

والثاني : أن يقال : حق جزاء كل ما فيه العتق صيام شهرين متتابعين ، ولما العفو فيه عامل الحانث ، فرضي منه بصوم ثلاثة أيام لما علم عز وجل في ذلك من المصالح ، والله أعلم .

والثالث : أن يكون حق الجزاء في اليمين بالصيام ما ذكر . وكذلك في القتل والظهار ؛ وفيها حق العتق كذلك ، وفي اليمين دونه . ولكنه تمم بما لا يحتمل التجزئة على حق كل شيء لا يتجزأ أن جزأ منه متى وجب يجب كله ؛ فعلى ذلك العتق ، والله أعلم .

ثم نقول : وظاهر هذا يشهد لأبي يوسف ، رحمه الله ، ومحمد ، رحمه الله ، أنه متى أوجب جزءا منه أعتق[ في الأصل وم : عتق ] كله ، إذ لا يحتمل التجزئة . دليله أمر الكفارات ، والله أعلم .

ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يحتمل أن يكون هذا لما لا يحتمل العتق التجزئة ، وإن كان العتق في نفسه محتملا فيجب عرض ذلك على ما فيه بيانه ، فوجد الأمر بالتحرير حيث كان يذكر الرقبة . ولو كان لا يحتمل من حيث التحرير [ كان ][ ساقطة من الأصل وم ] كافيا عن ذكر الرقبة . فإن ذكر في كل ما أمر بان أنه ذكر ليتمم بالإعتاق ، لا أنه يتم بلا ذكر . فعلى ذلك أمر الطلاق لم يذكر فيها معنى رقبتها لما لا يحتمل ، والله أعلم ، بعض ذلك .

ثم كانت الحقوق ترجع إلى الانتفاع أو إلى قول أو مضرة أو نحو ذلك ، لا يحتمل نفوذ جزء[ في الأصل وم : حر ] المعتق منه دون غيره . ثبت أن ذلك إن كان كذلك فهو لا يحتمل ؛ إذ في ترك إكمال فوت نفع ما أوجب ، والله أعلم . ثم قد يجوز إعتاق الجزء من حيث كان الملك والحرية بأخذ العين ، والمنافع تصل إلى المباشرة لا تحتمل التمييز . وفي القول فيه جملة يحتمل لذلك اختلافا . وعلى ذلك أمر الطلاق لا ملك . ثم في النفس إنما حقيقة المباشرة والانتفاع ؛ وذلك لا يحتمل الجزء المطلق منها [ أو جزءا ][ في الأصل وم : أوجب ] دون غيره . فلذلك أكمل ، والله أعلم .