التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ( 1 ) وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ( 2 ) فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 89 ) } ( 89 ) .

( 1 ) اللغو في أيمانكم : روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عن اللغو في الأيمان : هو كلام الرجل في بيته : كلا والله وبلى والله ( 3 ){[851]} .

( 2 ) بما عقدتهم الأيمان : بما وثقتم الأيمان أو ضممتم في أنفسكم عليه ، أو أوجبتموه على أنفسكم باليمين أو تعمدتم الالتزام به .

تعليق على الآية :

{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } الخ

وما ينطوي من أحكام وتلقين ونبذة مقتبسة في أنواع الأقسام في الإسلام

وما يجوز وما لا يجوز .

عبارة الآية واضحة وما فيها :

( 1 ) إيذان للمسلمين بأن الله تعالى لا يؤاخذهم على ما يمتزج في كلامهم من لغو الأيمان المعتاد في أساليب الخطاب ، وإنما يؤاخذهم بالأيمان التي يعزمون على أنفسهم بها على أمر معين سلبا أو إيجابا وعن تصميم .

( 2 ) وبيان لما يجب عليهم في مثل هذه الحال . فإذا أقسم المسلم يمينا فيها عزيمة على الإقدام على عمل ما ، أو الامتناع عن عمل ما ، ثم بدا له أن يرجع عنها أو كان الأوجب الرجوع عنها حسب نوع العزيمة وماهيتها من الإباحة والكراهية فعليه أن يقدم كفارة عن يمينه ، وهي إطعام عشرة مساكين من نوع أوسط طعام أسرة الحالف أو كسوتهم أو عتق رقبة . فمن لم يستطع فعل ذلك فعليه أن يصوم بدل الكفارة ثلاثة أيام . وفي هذه الحالة لا يبقى حرج عليه من اليمين فيفعل أو لا يفعل ما حلف عليه سلبا أو إيجابا .

( 3 ) وتوصية المسلمين بوجوب حفظ أيمانهم .

وقد انتهت الآية بتقرير كون الله إنما ينزل آياته متضمنة مثل هذه الأحكام والبيانات حتى يشعر المسلمون المخاطبون بفضله ويقوموا بواجب شكره . مما جرى النظم القرآني عليه في تشريعات وتقريرات عديدة .

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أنه لما نزلت الآيات السابقة قال الذين حرموا على أنفسهم طيات الحياة : ما نصنع يا رسول الله بأيماننا التي حلفناها على ذلك ؟ فأنزل الله الآية .

والرواية محتملة الصحة . ولا يبعد مع ذلك أن يكون خبر عزيمة الذين اعتزموا التنسك قد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خبر اليمين وأن تكون الآية قد نزلت مع الآيتين السابقتين كفصل تام ، فيه نهي عن تحريم التنسك وحرمان النفس من طيبات الحياة وحث أو إباحة الاستمتاع بالحلال الطيب ، وتحلة لليمين معا .

والآية في حد ذاتها جملة تشريعية تامة في صدد الأيمان وكفارتها ؛ ولذلك أفردناها عن الآيتين السابقتين . وهي ثانية آية في هذا الصدد . ففي سورة البقرة آية تماثل الشطر الأول منها جاءت في معرض النهي عن اتخاذ اليمين وسيلة للامتناع عن الخير والإصلاح وتقوى الله . والآيتان متساوقتان . ويمكن أن تكون إحداهما متممة للأخرى فيما استهدفه القرآن من تلقين وتشريع في صدد أدب اليمين وتهذيب أخلاق المسلم وتوجيهه نحو الخير ومنعه أو حمايته من المزالق ومما يكرهه الله لعباده المؤمنين من أعمال ومواقف وعزائم .

ولقد روى المفسرون في صدد هذه الآية حديثا نبويا رواه الخمسة عن أبي موسى جاء فيه : ( والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ) ( 1 ){[852]} .

وهكذا يظهر من هذا الحديث ومن آية سورة البقرة ( 224 ) التي جاء فيها { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } شدة التساوق بين المبادئ القرآنية والتلقينات النبوية . وكون المهم في الإسلام هو عمل الخير وعدم الوقوع في الضار أو المنكر أو المكروه . فإذا حلف امرؤ يمينا على أمر يفعله أو لا يفعله وكان في تنفيذها ضرر وشر ومنكر ومكروه أو كان هناك ما هو خير منها فعليه الرجوع عنها مع التكفير هنا . ولا يجوز له في حال أن يتخذ اليمين وسيلة للامتناع عن الخير والبر والإصلاح أو لعمل ما فيه ضرر وشر ومنكر ومكروه . وفي هذا من التلقين والتهذيب ما يتسق مع مصلحة الإنسانية في كل ظرف ومكان . والتكفير عن اليمين هو بمثابة توبة إلى الله واعتذار وإعلان ندم . وقد جعلت الكفارة وسيلة لعمل البر في الوقت نفسه . وفي هذا ما فيه من التوجيه الجليل أيضا .

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية في الأيمان اللغو ، وفي اليمين الغموس ، وفي اليمين المصبورة ، وفي اليمين التي تحلف لاقتطاع مال المسلم وفي ما يصح الحلف به ولا يصح وفي عدم لزوم الكفارة لمن يستثني في يمينه الخ . أوردناها في سياق تفسير الآية ( 224 ) من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة ، ولقد أوردوا أقوالا متنوعة لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم ولأئمة الفقه في ما في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي :

1- هناك من ذهب إلى اعتبار اليمين التي يحلفها الحالف وهو يظن أنه يحلف صادقا ويكون الأمر على غير ذلك من باب اللغو أو الخطأ الذي لا يؤاخذ عليه . وهذا وجيه يؤيده نص آية سورة البقرة ( 224 ) .

2- هناك من ذهب إلى أن اليمين التي يحلفها الحالف ليقتطع بها مال رجل مسلم لا تفيد الكفارة في التكفير عنها ، ولا يخلو هذا من وجاهة مع القول : إن التوبة الصادقة مع إصلاح الضرر قد يضمنان غفران الله استلهاما من آيات التوبة في القرآن على ما شرحناه في سياق سورة البروج .

3- هناك قول بأن تحريم المرء الطيبات على نفسه بدون يمين يوجب الكفارة . وقول إنه لا يوجب إذا لم يكن يمين . وهذا هو الأوجه ؛ لأن الكفارة شرعت لليمين . غير أن التحريم بدون عذر مشروع يظل مخالفا لنهي الله ومعرضا صاحبه لغضبه ما لم يتب عنه على ما هو المتبادر .

4- هناك من فسر كلمة : { أوسط } بمعنى المعتدل المعتاد ، وهناك من فسرها بمعنى ( خير ) و ( أحسن ) فإذا كان أهل الحالف يأكلون اللحم والسمن والتمر والخبز ولو لم يكن ذلك دائما ، فمن الواجب أن يكون طعام المساكين العشرة من ذلك . وإلى هذا فهناك اتساق على عدم جواز الإطعام من النوع الرديء الذي لا يأكله أهل الحالف عادة . وهذا وذاك حق متسق مع نص الآية وروحها . ويستتبع هذا القول : إنه إذا كان طعام أهل الحالف من الأنواع الرديئة مثل خبز الذرة والشعير والملح والبصل والخل والزيت فلا بأس على الحالف من أن يطعم المساكين منه أيضا . عملا بالمبدأ القرآني : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } .

5- وهناك قوال بأن الطعام هو وجبة واحدة مشبعة . وقول إن قوت يوم كامل . أو غذاء أو عشاء . والآية تتحمل كل ذلك ومن السائغ القول إن على الميسور أن يفعل الأحسن .

6- وهناك قول : إنه يصح جمع المساكين العشرة وإطعامهم أو إطعامهم متفرقين ، وكل هذا وجيه . وعزا رشيد رضا إلى أبي حنيفة جواز إطعام مسكين واحدة عشرة أيام ، ولا بأس في هذا وإن كان الأولى التزام النص وإطعام عشرة مساكين .

7- وأجاز بعضهم إعطاء بدل عيني . والآية تذكر الطعام الذي يمكن أن يقال : إن المقصود به المهيأ للأكل . ولعل القائلين جوزوه ؛ لأنه يمكن أن يتحول إلى طعام مجز . وليس في هذا الرأي بأس فيما نرى . وقد اختلفوا في القدر ، فقيل إنه مد من بر أو مد من تمر أو نصف صاع من بر أو نصف صاع من تمر . أو مد بر ومد تمر أو نصف صاع بر ونصف صاع تمر . وروى رشيد رضا عن ابن ماجة حديثا يذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفر بصاع من تمر ، وأمر به مع التنبيه على أن المفسر وصف الحديث بأنه ضعيف . ونقول هنا ما قلناه في الطعام المهيأ . وهو أن على الميسور أن يعطي الأكثر الأفضل .

والمتبادر أن المقادير المروية هي ما كانت تعد مجزية في الظرف والعرف اللذين قدرت فيهما ، وهذا ما ينبغي أن يلاحظ في أي ظرف وعرف كما هو المتبادر . والمهم على كل حال إعطاء ما يكافئ ما احتوته الآية على الوجه الأفضل الممكن .

ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يذكر جواز إعطاء ثمن الطعام نقدا . وقياسا على جواز إعطاء بدل عيني عنه نرى أن إعطاء الثمن سائغ أيضا . والله تعالى أعلم .

8- وهناك قول بأن أي نوع من الكساء مجز . وقول إنه يجب أن يكون كسوة تامة . وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية بل وفحواها . وهناك اختلاف في القدر ، فقيل ثوبان : واحد للصيف وآخر للشتاء . وقيل إزار ورداء وقميص وسروال . وقيل إزار ورداء وقيل عمامة وعباءة . وعلى كل حال فالمهم هو كسوة تامة . وهي عرضة للتبدل بتبدل الظروف بطبيعة الحال . وهناك قول بأن وصف { أوسط } يشمل الكسوة فيكون الواجب كسوة المساكين كسوة تامة من خير ما يكسي الحالف أهله . وفي هذا وجاهة ظاهرة .

وقد يسوغ القول قياسا على سواغ إعطاء ثمن الطعام أن إعطاء ثمن الكسوة نقدا سائغا أيضا . والله أعلم .

9- هناك قول : إن ( أو ) للتخيير . وهناك من قال : إنها للترتيب . وهذا وذاك هما في صدد الطعام والكسوة وتحرير الرقبة ؛ لأن الصيام إنما يجزي في حالة عدم القدرة على الطعام والكسوة والرقبة . والقولان مما يتحمله النظم القرآني . وهناك من أوجب البدء بالأعلى . فالقادر على الرقبة فعليه أن يحرر رقبة والقادر على الكسوة عليه أن يكسو إن كانت الكسوة أغلى من وجبة الطعام . ولا يخلو هذا من وجاهة .

10- هناك من قال : إن من كان عنده فضل لإطعام عشرة مساكين بعد قوته وقوت عياله يوما وليلة وجب عليه ذلك ولا يجزيه الطعام ولو لم يكن ذا مال كثير . وهناك من جعل ذلك منوطا بحيازة ما فوق المائتي درهم . وهناك من جعل ذلك منوطا بفضل يزيد على رأس مال الحالف الذي يتعيش به . والرأي الأخير هو الأوجه فيما يتبادر لنا . وعلى كل حال فالصيام لا يجزي إلا في حالة العجز عن أقل الكفارات الأخرى قيمة . وهذا العجز يقدر حسب ظروف الحالف . وهذه مسألة إيمانية يوكل المرء فيها إلى دينه وتقواه .

11- وهناك من لم يقيد الرقبة بأي قيد من لون ودين وجنس . وهناك من قيدها بأن تكون مؤمنة استلهاما من آية النساء ( 92 ) التي تقيد الرقبة الواجب عتقها على القتل الخطأ بكونها مؤمنة . وهناك من قيدها إلى هذا بأن لا يكون فيها عيب أو عاهة من عمى وطرش وخرس وجنون أو لا يكون صغير السن . ويتبادر لنا أن قيد ( المؤمنة ) وجيه . ولكن إذا لم يوجد مملوك مسلم يشتري ليعتق فلا بأس فيما نرى من عتق رقبة غير مؤمنة ؛ لأن في ذلك على كل حال تحريرا للإنسان الذي كرم الله جنسه مطلقا . وقد يكون إطلاق النص هذا مما يعضد هذا التسويغ . والمتبادر أن القائلين بسلامة الرقيق من العيب وبكونه كبير السن حتى لا يسترخص الحالف الرقبة التي يشتريها . ومع أن تحرير إنسان كبير وسليم قد يكون أنفع إلا أن تحرير إنسان صغير وذي عاهة ينطوي على البر والإشفاق أيضا مما يجعلنا لا نرى ذلك القيد وجيها وضروريا . والله أعلم .

12- وهناك من أوجب أن يكون صيام الأيام الثلاثة متتابعا ، وعد الفطر في اليوم الثاني أو الثالث ناقصا يوجب الإعادة وقد روي أن كعب بن أبي أحد كبار قراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ ( ثلاثة أيام متتابعات ) وهناك من أجاز عدم التتابع ، ويلحظ أن القرآن نص على التتابع في صيام الشهرين اللذين يجب صيامهما على قاتل الخطأ في آية سورة النساء ( 92 ) وعلى المظاهر لزوجته في آية سورة المجادلة ( 4 ) وما دام أن المؤولين قالوا إن صفة الرقبة يجب أن تكون مؤمنة قياسا على آية سورة النساء فيسوغ أن يقاس عليها أيضا ويقال : إن التابع في صيام الأيام الثلاثة هو الأوجه . والله تعالى أعلم .

وفي تفسير المنار نبذتان عن أقسام الحلف . واحدة تبدو أنها للمفسر وأخرى مقتبسة من فتاوى الإمام ابن تيمية ، وفي كل منهما سداد وفائدة ولذلك رأينا أن نوردهما في هذه المناسبة .

ولقد جاء في الأولى أن الحلف باعتبار المحلوف عليه ينقسم إلى أقسام :

1- أن يحلف على فعل واجب وترك حرام ، فهذا تأكيد لما كلفه الله إياه فيحرم الحنث به ويكون إثمه مضاعفا .

2- أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم ، فهذا يجب عليه الحنث به ؛ لأن يمينه معصية وتجب الكفارة .

3- أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه . فهذا طاعة فيندب أو يجب الوفاء ويكره أو يحرم الحنث .

4- أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه . وهذه معصية فيجب الحنث مع الكفارة .

5- أن يحلف على ترك مباح . وهذا مختلف فيه . غير أن النهي عن تحريم ما أحل الله في الآية يلهم كراهية ذلك وجوب الحنث والكفارة . أما إذا كان الحلف على شأن غير ذلك ، فإذا كان في الحنث فائدة كمجاملة ضيف أو إدخال سرور على الأهل أو زيارة صديق أو مباشرة عمل أو سفر فهو مستحب مع الكفارة .

ولقد جاء في النبذة الثانية أن الأيمان ثلاثة أقسام :

( أولاها ) ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات والكعبة والملائكة والمشايخ والآباء وتربتهم ونحو ذلك . فهذه أيمان غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء ، بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم استنادا إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحاديث منها : ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) و ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ) و ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) .

( وثانيها ) اليمين بالله تعالى كقوله : والله لأفعلن ، فهذه يمين منعقدة ، فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين .

( وثالثها ) أيمان المسلمين التي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كقول المرء : إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله أو الحل علي حرام لا أفعل كذا . أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام ، أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله ، أو إن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة . فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال :

( 1 ) إذا حنث لزمه ما عقله وحلف به .

( 2 ) لا يلزمه شيء إذا حنث .

( 3 ) يلزمه كفارة يمين فقط إذا حنث ، ومن العلماء من جعل النذر كاليمين وأوجب في عدم الوفاء به كفارة .

وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة ، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار أنه يجزئه كفارة يمين في جميع هذه الأيمان كما قال الله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } و { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ( التحريم : 2 ) .

وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) . فإذا قال الحل علي حرام لا أفعل كذا ، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا ، أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو مالي صدقة أجزأه في ذلك كفارة يمين فإن كفر كفارة الظهار فهو أحسن .

هذا ، ولقد تعددت تأويلات المؤولين القدماء في معنى جملة : { واحفظوا أيمانكم } حيث أولها بعضهم بمعنى ( لا تنقضوها ) أو ( كفروا عنها ) وأولها بعضهم بمعنى ( لا تكثروا من الأيمان وترووا فيها ) . وكلا القولين محتمل وإن كنا نرجح القول الثاني . والله أعلم .

ولما كانت هذه الآية هي الوحيدة التي فيها تحلة اليمين فإن فيها دليلا على أن سورة التحريم قد نزلت بعدها لأن فيها جملة : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } حيث يكون في هذا دليل آخر أو قرينة أخرى على أن بعض فصول هذه السورة نزلت قبل فصول سورة متقدمة عليها . ويقال هذا بالنسبة لفصول اليهود التي يدل فحواها على أنها نزلت قبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة على كل حال . وهذا وذاك يؤيدان ما قلنا من أن فصول هذه السورة قد ألفت بعد تمام نزول ما اقتضت الحكمة أن تحتويه من فصول .


[851]:انظر التاج ج 3 ص 70.
[852]:التاج ج 3 ص 78 وقد أورد مؤلف التاج مع هذا الحديث حديثين آخرين من بابهما واحدا رواه مسلم والنسائي جاء فيه: (والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وآخر رواه مسلم والترمذي وأبو داود جاء فيه: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل).