قوله : ( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) الآية [ 91 ] .
معنى الآية : أن الذين ذكر أنهم أرادوا أن يحرموا الطيبات في الآية التي قبلها ، / كانوا قد حلفوا ليفعلُن ذلك ، فنهوا عن تحريم ما أرادوا تحريمه ، وأُعلموا أن الله لا يؤاخذ( {[17741]} ) باللغو في الأَيمان( {[17742]} ) .
قال( {[17743]} ) ابن عباس : لما نهاهم النبي عن ما أرادوا أن يفعلوا من التحريم ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع في أيماننا التي حلفنا بها ؟ ، فأنزل الله ( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) ( الآية )( {[17744]} ) . ( ( وَلَكِنْ يُّؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاَيْمَانَ ) )( {[17745]} ) : من شدّد ( عَقَّدتُّمُ )( {[17746]} ) فمعناه : بما وكدتم( {[17747]} ) الأيمان ، فالتشديد( {[17748]} ) يدل تأكيد( {[17749]} ) اليمين( {[17750]} ) . ومن خفف( {[17751]} ) فلِأَن " عقدهُ " ( {[17752]} ) تلزم فيه الكفارة إذا [ حنث ]( {[17753]} ) بإجماع( {[17754]} ) .
واختير( {[17755]} ) التخفيف –عند من قرأ به- ، لأن السامع إذا سمع التشديد سبق إليه أن الكفارة لا تكون إلا مع التأكيد وتكرير اليمين وهذا لا يقول به أحد( {[17756]} ) .
والتخفيف يدل على أنه إن عقده( {[17757]} ) ولم يكرره( {[17758]} ) لزمته( {[17759]} ) الكفارة إذا حنث( {[17760]} ) . وأنكر أبو عبيد( {[17761]} ) على من قرأ بالتشديد ، وقال : لأنه يوهم أن الحنث لا يجب إلا بتكرير اليمين ، لأن " فعّل " –في كلام العرب- لتكرير( {[17762]} ) [ الفعل ]( {[17763]} ) .
وهذا الاعتراض لا يلزم ، وإنما يكون التشديد للتكرير( {[17764]} ) مع الواحد ، فأما مع الجميع( {[17765]} ) فلا ، لأنه قد تكرر( {[17766]} ) لكل واحد يمين عقده( {[17767]} ) كقولك : " ذَبَّحتُ الكباش " ، فكذلك( {[17768]} ) ( [ عقّدتم( {[17769]} ) الأيمان ] ) ، إنما( {[17770]} ) وقع التكرير من أجل الجمع ، ولو كانت الآية " عقدتم اليمين " ، للزم( {[17771]} ) ما قال أبو عبيد ، فالتشديد( {[17772]} ) يكون للتكرير ، ( إلا أن )( {[17773]} ) التكرير ينقسم قسمين :
- قسم يتكرر الفعل فيه على الواحد .
- وقسم يتكرر الفعل فيه على آحاد : مرة لكل واحد ، وهو الذي في الآية .
وقال مجاهد : ( بِمَا عَقَّدتُّمُ الاَيْمَانَ ) : بما تعمدتم الأيمان( {[17774]} ) . وقال عطاء : " بما عقَّدتم الأيْمَانَ " كقولك " والله الذي لا إله إلاّ هو " ( {[17775]} ) .
وروى نافع عن ابن عمر : إذا حلف من غير أن يُؤَكِّدَ اليمين أطعم عشرة مساكين ، لكل مسكين [ مد ]( {[17776]} ) وإذا وكَّد( {[17777]} ) اليمين أعتق رقبة( {[17778]} ) .
فقيل( {[17779]} ) لنافع : ما معنى " وكَّد اليمين " ؟ ، قال : أن يحلف على الشيء مراراً( {[17780]} ) .
ولغو اليمين : أن يحلف على الشيء يراه أنه كما حلف ، ثم لا يكون كذلك ، وهو قول مالك وجماعة معه( {[17781]} ) ، وقيل هو قولك : " لا والله " و " بلى والله " ، وهو قول الشافعي وجماعة معه( {[17782]} ) .
وقيل : هو تحريمك ما أحل الله لك ، فلتفعله ولا كفارة عليك( {[17783]} ) ، قاله ابن جبير وغيره( {[17784]} ) . وقال مسروق : لغو اليمين : كل يمين في معصية ليس فيها كفارة( {[17785]} ) . وعن ابن عباس أنه قال : لغو اليمين : أن تحلف وأنت غضبان( {[17786]} ) . لا كفارة في جميع ذلك على الاختلاف المذكور( {[17787]} ) .
والأيمان ثلاث( {[17788]} ) : -يمين تُكَفَّر ، كيمينك ألا تفعل الشيء ثم تفعله .
- والثانية : يمين لا تكفر( {[17789]} ) لشدتها ، وجرمها عظيم ، وهو أن تتعمد فتحلف على الشيء وأنت تعلم أنك كاذب .
- ويمين لا تكفر ، ولا جرم( {[17790]} ) لها ، وهي اللغو( {[17791]} ) .
وقوله : ( فَكَفَّارَتُهُ ) : الهاء تعود على ما في قوله ( بِمَا عَقَّدتُّمُ ) ، فمعناه : " فكفارة( {[17792]} ) ما عقدتم منها إطعام عشرة مساكين " ( {[17793]} ) .
وقيل : الهاء تعود على " اللغو " ، و( {[17794]} )فيه ذكرت الكفارة ، وأما ما عقدتم يمينه( {[17795]} ) فلا كفارة له وهو أعظم من أن يكفر( {[17796]} ) .
والأحسن أن تعود الهاء على ( ما )( {[17797]} ) : لأن اللغو في اللغة : المطرح( {[17798]} ) ، ( ولو )( {[17799]} ) كان اللغو يكفر لم يكن مطرحاً( {[17800]} ) . وقيل المعنى : فكفارة " إثمه " ( {[17801]} ) .
والإطعام : أن تطعم لكل مسكين مداً في قول مالك وغيره( {[17802]} ) . وقيل : تطعم لكل مِسْكين صاعاً( {[17803]} ) .
ومعنى ( مِنَ اَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِكُمُ ) أي : من أعدل ذلك( {[17804]} ) ، قيل : الخبز( {[17805]} ) والسمن( {[17806]} ) .
وقيل : الخبز( {[17807]} ) والتمر( {[17808]} ) . و[ قيل ]( {[17809]} ) : الخبز و[ الزيت( {[17810]} ) ] وقيل : المعنى : من أوسط ذلك في الشبع : / إن كان ممن يشبع أهله ، أشبع المساكين ، وإن كان ممن يقوتهم( {[17811]} ) ، قوت( {[17812]} ) المساكين( {[17813]} ) .
وروي عن عاصم( {[17814]} ) من( {[17815]} ) طريق الشموني( {[17816]} ) عن أبي بكر( {[17817]} ) ( أوسط )( {[17818]} ) بالصاد .
قال( {[17819]} ) مالك : إن غذاهم وعشاهم أجزأه( {[17820]} ) ، ولا يجزيه قيمة الطعام عند الشافعي( {[17821]} ) ، وهو قياس مذهب مالك( {[17822]} ) ، وأجازه( {[17823]} ) بعض العراقيين( {[17824]} ) . ولا يعطي إلا مسلماً( {[17825]} ) .
ولا يجزيه إلا مؤمنة( {[17826]} ) إن أعتق( {[17827]} ) . ولو أعتق مولوداً أو مَرضعاً من قِصَر النفقة أجزأه( {[17828]} ) عند مالك( {[17829]} ) .
[ ( فَمَن( {[17830]} ) لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ) أي : إن لم يجد الإطعام ولا العنق والكسوة( {[17831]} ) فعليه صيام ثلاثة أيام ، ولا يصوم إلا عند الإطعام أو العتق( {[17832]} ) . وفي قراءة ابن مسعود ( فَصِيَامُ ثَلاثةِ( {[17833]} ) ( أَيَّامٍ ) مُتَتَابعاتٍ )( {[17834]} ) .
والتفريق( {[17835]} ) عند مالك يجوز في كفارة اليمين ، وهو قول الشافعي وغيره( {[17836]} ) . والصوم للعبد أحسن وإن أذن له سيده بالعتق والإطعام ، ولم يُجِز( {[17837]} ) له جماعة إلا الصوم( {[17838]} ) ، واختلف فيه قول مالك( {[17839]} ) . والكفارة قبل الحنث جائزة ، وبعده أحسن( {[17840]} ) .
وقد قيل : لا تجزي( {[17841]} ) قبله( {[17842]} ) .
وروي عن النبي عليه السلام : كَفِّر عَن يمينك و[ أْتِ ]( {[17843]} ) الذي هو خير( {[17844]} ) .
وقد بدأ تعالى ذكره في هذه الآية بالتخفيف ، ثم أتى بالأشد بعده ، وبدأ في الظهار( {[17845]} ) بالأشد ، ثم أتى ( بالأخف بعده )( {[17846]} ) ، وذلك أن الله جل ذِكره إنما بدأ بالأخف( {[17847]} ) ثم أتى بالأشد على طريق التخيير ، فأتى ب( أوْ ) للتخيير ، ثم أتى بالأَخف بعد ذلك عند عدم ما وقع فيه التخيير ، فقال : ( فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ )( {[17848]} ) ، وبدأ في الظهار بالأشد ، ثم أتى بالأخف عند عدم الأشد ، لا على طريق التخيير( {[17849]} ) في ذلك( {[17850]} ) .
قوله : ( ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمُ ) : ( ذلك ) إشارة إلى ما تقدم من الإطعام أو العتق أو الكسوة ، أو الصيام( {[17851]} ) عند عدم الثلاثة( {[17852]} ) ، ومعنى ( كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمُ ) أي : ستر( {[17853]} ) إثم أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم( {[17854]} ) وأنتم قد عقدتم الأيمان( {[17855]} ) .
( وَاحْفَظُوا( {[17856]} ) أَيْمَانَكُمْ ) أي : احفظوها أن تحنثوا ، ولا تكفروا( {[17857]} ) .
( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ ءَايَاتِهِ ) : أي : كما يبين( {[17858]} ) لكم الكفارة في أيمانكم ، يبين الله( {[17859]} ) لكم آياته( {[17860]} ) ، أي : علاماته ، ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( {[17861]} ) ) ( أي تشكرون ) على هدايته لكم وبيانه لكم( {[17862]} ) .