غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

87

ثم قال { لا يؤاخذكم } وقد ذكرنا وجه النظم آنفاً ، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة . أما قوله { بما عقدتم الأيمان } فمن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير فلا إشكال ، ومن قرأ بالتشديد فإن أبا عبيدة اعترض عليه بأن التشديد للتكثير فهذه القراءة توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة . وأجاب الواحدي بأن عقد بالتخفيف وعقد بالتشديد واحد في المعنى ، ولو سلم فالتكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر فلا كفارة . ومن قرأ بالألف فمثل القراءة المخففة كقولك : عاقبت اللص وعافاه الله . والمعنى على القراءات : ولكن يؤاخذكم بعقد الأيمان أو بتعقيدها أو معاقدتها إذا حنثتم . فحذف الظرف للعلم به ، أو المراد بنكث ما عقدتم بحذف المضاف { فكفارته } أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ويسمى بالواجب المخير . وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها ، ولا يجوز الإخلال بجميعها ، ولكنه إذا أتى بأيّ واحد منها فإنه يخرج عن العهدة ، ومن هنا قال أكثر الفقهاء الواجب واحد لا بعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة فإن عجز عنها جميعاً فالواجب شيء آخر وهو الصوم . أما مقدار الطعام فقد قال الشافعي : نصيب كل مسكين مد أي ثلثا منّ ، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم لأنه تعالى قال { من أوسط ما تطعمون } فإن كان المراد ما كان متوسطاً في العرف فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقاً وخبز فإنه يصير قريباً من المنّ وذلك كاف لواحد في يوم واحد ، وإن كان المراد ما كان متوسطاً في الشرع فليس له في الشرع مقدار إلا ما جاء في قصة الأعرابي المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإطعام ستين مسكيناً من غير ذكر مقدار . فقال الرجل : ما أجد . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أطعم هذا . وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مدّ . ولا تلزم كفارة الحلق لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان تكفيرها معتبراً بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد . وقال أبو حنيفة : الواجب نصف صاع من الحنطة أو صاع من غيرها قال : لأن الأوسط هو الأعدل . وما ذكره الشافعي هو أدنى ما يكفي . وأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس مدّ بإدامه والإدام تبلغ قيمته مداً آخر ويزيد في الأغلب . أجاب الشافعي أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام ومقداره ما ذكرنا ، وجنس الطعام المخرج جنس الفطرة . ثم قال الشافعي : الواجب تمليك الطعام قياساً على الكسوة . وقال أبو حنيفة : إذا غدّى وعشّى عشرة مساكين جاز لأن ذلك إطعام ، ولأن إطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك وقد قال { من أوسط ما تطعمون أهليكم } والقائل أن يقول : ذكر إطعام الأهل لتعيين مقدار المطعم لا لأجل كيفية الإطعام . وقال أبو حنيفة : لو أطعم مسكيناً واحد عشر مرات جاز . وقال الشافعي : لا يجزي إلا إطعام عشرة لأن مدار الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه فيجب الوقوف على مورد النص .

قال في الكشاف { أو كسوتهم } عطف على محل { من أوسط } ووجه بأن البدل هو المقصود فكأنه قيل : فكفارته من أوسط . وأقول : الأظهر أن يكون { من أوسط } مفعولاً آخر للإطعام سواء كان «من » للابتداء أو للتبعيض ، ويكون { كسوتهم } معطوفاً على الإطعام . والكسوة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به . قال الشافعي : يجزئ في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة وهو الثوب يغطي العورة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة لكل مسكين ثوب واحد لما روي عن ابن عباس كانت العباءة تجزئ يومئذٍ . وعن مجاهد : ثوب جامع . وقال الحسن : ثوبان أبيضان . و المراد بالرقبة الجملة كان الأسير في العرب تجمع يداه إلى رقبته فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الحبل فك رقبة . ثم أجرى ذلك على العتق هكذا قيل في أصل هذا المجاز . ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقاب تجزئه . وقال الشافعي : لا يجزئ إلا كل سليمة من عيب يخل بالعمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكراً أو أنثى بعد أن كانت مؤمنة قياساً على كفارة القتل ، ولم يجوّز إعتاق المكاتب ولا شراء القريب . وفي تقديم الإطعام على العتق من أن العتق أفضل تنبيه على التخيير وأن الأمر مبني على التخفيف . ويمكن أن يقال : الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أو لا يكون هناك من يعطيه فيقع في الضر ، أما العبد فيجب على مولاه طعامه وكسوته ، فالعتق يحتمل التأخير والإطعام قد لا يحتمل ذلك . { فمن لم يجد } أحد الأمور الثلاثة المذكورة { فصيام } فعليه صيام { ثلاثة أيام } قال الشافعي : إذا وجد قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام ، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لا يجوز الصوم . تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوماً وليلة لأن ذلك ضروري ، وتقديم حق النفس على حق الغير واجب شرعاً فبقي الآية معمولاً بها في غيره . وعند أبي حنيفة : يجوز الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة . ثم صيام الأيام الثلاثة المشروط عند أبي حنيفة بالتتابع تمسكاً بقراءة أبيّ وابن مسعود { فصيام ثلاثة أيام متتابعات } فإن قراءتهما لا تتخلف عن روايتهما . وقال الشافعي في أصح قوليه : إن التفريق جائز والقراءة الشاذة لا يعتدّ بها لأنها لو كانت صحيحة لنقلت نقلاً متوتراً وقد «روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له : عليّ أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك ؟ قال : بلى . قال : فالله أحق أن يعفو ويصفح . وإذا جاز هذا التفريق في صوم رمضان ففي غيره أولى ، وأيضاً العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

( مسألة ) : من صام ستة أيام عن يمينين أجزأته ولا حاجة إلى تعيين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد أتى بها فيخرج عن العهدة { ذلك } المذكور { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف ، وللتنبيه على أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين ، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً فكفر عن يمينك ثم ائت بالذي هو خير » ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب . هذا إذا كان يكفر بغير الصوم ، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان ، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية ، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لا يشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضاً لوجود أحد السببين . والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر لهما فيه . جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي ، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقاً . { واحفظوا أيمانكم } قللوها ولا تكثروا منها ، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث ، وعلى هذا تكون الأيمان مختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف ما لو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث . وقيل : احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاوناً بها { كذلك } مثل ذلك البيان الشافي { يبين الله لكم آياته } أحكامه وأعلام شريعته { لعلكم تشكرون } نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج .

/خ100