فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } عن عائشة رضي الله عنها : لغو اليمين ما لم يعقد عليه الحالف قبله ؛ فكل يمين من غير قصد تعد لغوا ، ومنها قول الحالف : لا والله ، وبلى والله ، دون تصميم على ما حلف عليه ، وربما يكون سبق لسان من غير نية ؛ و { في } قد تكون بمعنى : مِن ؛ فهذه يرجى أن لا يعاقب الله عليها ، ولا يطلب إلى صاحبها كفارة ؛ ولكن المولى سبحانه يؤاخذ بالإيمان المعقدة الموثقة بالقصد والنية إذا حنث فيها ، كأن حلف أن لا يفعل شيئا ثم فعله ، أو حلف أن يفعل شيئا ثم لم يفعله ؛ وهناك نوع ثالث من الأيمان وهو اليمين الغموس ، والعلماء يعدونه من الكبائر ، بل من أكبرها( {[1859]} ) ، وفيه نزل قول الحق تقدست أسماؤه : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) ( {[1860]} ) ؛ { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } فكأن المعنى فكفارة ما عقدتم من الأيمان إذا حنثتم فيه إطعام عشرة محاويج .

نقل ابن جرير بسنده عن عمر : لكل مسكين مدان من حنطة ، وفي رواية ثانية له : لكل مسكين نصف صاع من بر أو نصف صاع من تمر ؛ ونقل عن علي : نصف صاع من حنطة ؛ وعن الحسن : يغذيهم ويعشيهم ؛ أو يكسو كل واحد منهم ثوبا ؛ وعن أبي جعفر : كسوة الشتاء والصيف ثوب ثوب ؛ أو يفك- كفارة عن يمينه- أسر عبد ، يعتق رقبته ، ويحرره ؛ - { فكفارته } : أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ، ويسمى بالواجب المخير ، وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها ، ولا يجوز الإخلال بجميعها ، ولكنه إذا أتى بأي واحدة منها فإنه يخرج عن العهدة ، ومن هنا قال أكثر الفقهاء : الواجب واحد لا يعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة ، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم-( {[1861]} ) .

{ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } فمن لم يستطع التكفير عن يمينه التي حنث فيها ، ولزمه أن يكفر عنها( {[1862]} ) ثم لم يتيسر له أن يأتي بخصلة من الخصال الثلاث المذكورات آنفا فليصم ثلاثة أيام تكفيرا عما وقع فيه ، وهذا ما شرعه لكم مولاكم ، سترا لخطاياكم ، وتغطية لما كان منكم إذا حلفتم وما وفيتم ؛ { واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } { واحفظوا أيمانكم } قللوها ولا تكثروا منها ، أولا تتركوها بغير تكفير إذا حنثتم فيها ، أولا تنسوها تهاونا بها ؛ كذلك يوضح الله تعالى لكم أحكامه وأعلام شرعه ، لتشكروا نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج .

روى الإمام مسلم- رحمه الله-في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " ؛ كما روى عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله " ، واللجاج في اليمين : المضي على مقتضاه وإن لزم من ذلك حرج ومشقة ، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة ، ولا يعتل باليمين ، فإن المولى الحكيم أنزل في كتابه الكريم : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس . . ) ( {[1863]} ) .


[1859]:ومع الوعيد الشديد في الآية فقد صحت الأحاديث بأن من الكبائر اليمين الغموس، وقيل: وما اليمين الغموس ؟ قال: "التي يقتطع بها مال امرئ، مسلم هو فيها كاذب" رواه الشيخان وغيرهما.
[1860]:من سورة آل عمران. الآية 77.
[1861]:من تفسير غرائب القرآن.
[1862]:لا تنعقد اليمين بغير الله وأسمائه وصفاته، ففي الصحيحين:" ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"؛ وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا لإله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق"؛ وفي هذا الذي شرعه على لسان رسوله فيمن حلف بصنم ووثن تعليم لمن يريد أن يتعلم أن ربنا غفور رحيم، وديننا سمح عظيم، لا يسارع بطرد الناس من رحابه لخطأ اقترفوه، وإنما يطالبهم أن يعودوا لإلى الحق، وينطقوا بكلمة التوحيد، فهل آن للذين يفكرون المسلمين أن يكفوا ؟!.
[1863]:من سورة البقرة. من الآية 224.