وهذا النَّوْعُ الثَّانِي من الأحْكام المذْكُورَةِ ، ووَجْهُ المُنَاسِبَةِ بَيْنَ هذا الحُكْم والَّذِي قَبْلَهُ حتى حَسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ ، أنَّا ذكرنَا أنَّ سبب نزول الآية : أنَّ قوماً من الصَّحابَةِ - رضي الله عنهم أجمعين - حرَّموا على أنْفُسِهِمُ المطاعِمَ والمَلاَذَّ ، واخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ ، وحَلَفُوا على ذلك ، فلما نَهَاهُمُ اللَّهُ تعالى عنْ ذلك قالُوا : يا رسُول اللَّه ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيْمَانِنَا ؟ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة ، وقدْ تقدَّم إعرابُ نَظيرهَا في البَقَرةِ واشْتِقَاق مُفْرَدَاتِها .
قوله تعالى : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } .
قرأ{[12470]} حمزة والكسائيُّ وأبو بكْرٍ عن عاصم : " عَقَدتُمْ " بتخفيف القاف دون ألف بعد العين ، وابن ذَكْوَان عن ابن عامر : " عَاقَدتُّمْ " بزنة " فاعَلْتُمْ " والباقون : " عَقَّدتُّمْ " بتشديد القاف ، فأمَّا التخفيفُ ، فهو الأصل ، وأمَّا التشديدُ ، فيحتمل أوجهاً :
أحدها : أنه للتكثير ؛ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ .
والثاني : أنه بمعنى المجرَّدِ ، فيوافِقُ القراءة الأولى ، ونحوه : قَدَّرَ وقَدَرَ .
والثالث : أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين ، نحو : " واللَّهِ الَّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ " .
والرابع : أنه يدلُّ على تأكيد العزم بالالتزام .
الخامس : أنه عِوَضٌ من الألف في القراءة الأخرى ، وقال شهاب الدين{[12471]} : ولا أدري ما معناه ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين ، فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمَرَّةٍ واحدةٍ .
وقد تَجَرَّأ أبو عُبَيْدٍ على هذه القراءةِ وزيَّفَها ، فقال : " التشديدُ للتكريرِ مرةً من بعد مرَّة ، ولستُ آمَنُ أن تُوجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفَّارةِ في اليمينِ الواحدة ؛ لأنها لم تُكَرَّرْ " . وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك ، وذكروا تلك المعاني المتقدِّمة .
وأجَاب الواحِدِي{[12472]} بوجْهَيْن :
الأول : أنَّ بعضَهُم قال : عَقَدْتُم بالتَّخفيفِ وبالتَّشْديدِ واحدٌ في المعنى .
والثاني : هَبْ أنَّها تُفِيدُ التكرير ، كَمَا في قوله تعالى : { وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ } [ يوسف : 23 ] ، إلاَّ أنَّ هذا التكريرَ يحصل بأن يَعْقِدَهَا بقَلْبِهِ ولِسَانِه ، ومتَى جَمَعَ بَيْنَ القَلْبِ واللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ ، أمَّا لَوْ عُقِدَ اليَمِينُ بأحَدِهِمَا دُونَ الآخَر لَمْ يَكُن منعقداً لَهَا فَسَلِمَتِ القِرَاءَةُ تِلاوَةً ولِلَّهِ الحَمْدُ .
وأمَّا " عَاقَدَتْ " ، فيُحتملُ أن تكون بمعنى [ المجرَّد نحو ] : " جَاوَزْتُ الشَّيءَ وَجُزْتُهُ " ، وقال الفارسيُّ : " عَاقَدتُمْ " يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون بمعنى " فَعَلَ " ، كطَارَقْتُ النَّعْلَ ، وعَاقَبْتُ اللِّصَّ .
والآخر : أن يُرَادَ به " فاعَلْتُ " التي تقتضي فاعلين ؛ كأن المعنى : بما عَاقَدتُّمْ علَيْهِ الأيْمَانَ ، عَدَّاه ب " عَلَى " لمَّا كان بمعنى عَاهَدَ ، قال : { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ }
[ الفتح : 10 ] ؛ كما عَدَّى : { نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ } [ المائدة :58 ] ب " إلَى " ، وبابُها أن تقول : نَادَيْتُ زَيْداً ، نحو : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ } [ مريم : 52 ] لمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا ، قال : { مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ } [ فصلت : 33 ] ثم اتُّسِعَ فحُذِفَ الجارُّ ، ونُقِلَ الفعلُ إلى المفعْول ، ثم حُذِفَ الضميرُ العائد من الصلة إلى الموصُول ؛ إذ صار : " بِمَا عَاقَدتُّمُوهُ الأيمانَ " كما من حُذِف من قوله : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] ، قال شهاب الدين : يريد - رحمه الله - أن يبيِّنَ معنى " المُفَاعَلَةِ " ، فأتى بهذه النظائر للتضمين ، ولحذفِ العائدِ على التدريج ، والمعنى : بِمَا عَاقَدتُّمْ عليه الأيْمَانَ ، وعاقَدَتْكُمُ الأيْمَانُ عليه ، فنَسَبَ المعاقَدَةَ إلى الأيْمَانِ مجازاً ، ولقائل أن يقول : قد لا نَحْتَاجُ إلى عائدٍ حتَّى نحتاجَ إلى هذا التكلُّفِ الكثير ، وذلك بأن نجعل " مَا " مصدريةً ، والمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : بِمَا عَاقَدتُّمْ غيْرَكُمُ الأيْمَانَ ، أيْ : بمُعَاقدتِكُمْ غيرَكُمُ الأيْمَانَ ، ونخلُصُ من مجازٍ آخر ، وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان ؛ فإنَّ في هذا الوجه نسبة المعاقَدَةِ للغَيْرِ ، وهي نسبةٌ حقيقية ، وقد نَصَّ على هذا الوجه - جماعةٌ .
قالُوا{[12473]} : " مَا " مَعَ الفِعْلِ بِمَنْزِلةِ المصْدَرِ ، ولكِن يُؤاخِذُكُم بِعَقْدِكُمْ ، أوْ بِتَعْقِيدِكُمْ ، أو بِمُعَاقَدَتِكُم الأيْمَان إذا خنتم ، فحذف وقتاً لمؤاخَذَة ؛ لأنَّه مَعْلُومٌ ، أو يَنْكُثُ ما عَاقَدْتُمْ ، فَحَذَفَ المُضَافَ .
وقد تعقَّبَ أبو حيان على أبي عليٍّ كلامَهُ ؛ فقال : " قوله : إنَّه مثل " طارَقْتُ النَّعْلَ " و " عَاقَبْتُ اللِّصَّ " ، ليس مثله ؛ لأنَّك لا تقول : طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ ، وتقول : عاقدتُّ اليمينَ ، وعقدتُّهَا " ، وهذا غيرُ لازم لأبي عليٍّ ؛ لأنّ مرادَه أنه مثلُه من حَيْثُ إنَّ " المُفَاعَلَةَ " بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه ؛ كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ ، أمَّا كونُه يقالُ فيه أيضاً كذا ، فلا يضُرُّه ذلك في التشبيه ، وقال أيضاً : " تقديرُه حذف حَرْفِ الجرِّ ، ثم الضمير على التدرُّج - بعيدٌ ، وليس بنظيرِ : { فاصْدَعْ بِمَا تُؤمرُ } ؛ لأن " أمَرَ " بتعدَّى بنفسِه تارةً ، وبحرف الجرِّ أخرى ، وإن كان الأصلُ الحَرْفَ ، وأيضاً ف " مَا " في " فَاصْدَعْ بِمَا " لا يتعيَّن أن تكون بمعنى " الَّذي " بل الظاهر أنها مصدريَّةٌ ، [ وكذلك ههنا الأحسنُ : أن تكون مصدريةً ] لمقابلتها بالمصْدرِ ، وهو اللَّغْوُ " .
قال الوَاحِدِي{[12474]} : يُقَالُ : عَقَدَ فلانٌ اليمينَ والعهدَ والحبلَ عَقْداً ، إذَا وكَّده وأحْكَمَهُ ، ومثل ذلك أيضاً " عَقَّدَ " بالتَّشْديد إذا وكَّدَ ، ومثله : عَاقَد بالألفِ .
وقد تقدم الكلامُ في سورة النِّساء عند قوله تعالى : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ الآية : 33 ] و " عاقَدت " ، وذُكِرَ في هذه ثلاثُ قراءاتٍ في المشْهُور ، وفي تِيكَ قراءتانِ ، وقد تقدم في النساء أنه رُوِيَ عن حمزة : " عَقَّدَتْ " بالتشديد فيكون فيها أيضاً ثلاثُ قراءاتٍ ، وهو اتفاقٌ غريبٌ ، فإنَّ حمزة من أصحابِ التخفيفِ في هذه السورة ، وقد رُوِيَ عنه التثقيلُ في النساء .
والمرادُ بقوله : " عقَّدتم ، وعاقَدْتُم " أي : قَصَدْتُم وتَعمَّدْتُم ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سُورةِ البَقَرةِ .
قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ } مبتدأ وخبر ، والضميرُ في " فَكَفَّارتُهُ " فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه يعودُ على الحِنْثِ الدَّالِّ عليه سياقُ الكلام ، وإنْ لم يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ ، أي : فكفَّارةُ الحِنْثِ .
الثاني : أنه يعود على " مَا " إنْ جَعَلْنَاهَا موصولةً اسميَّةً ، وهو على حذف مضافٍ ، أي : فكفارة نُكْثِهِ ، كذا قدَّره الزمخشريُّ{[12475]} .
والثالث : أنه يعودُ على العَقْدِ ؛ لتقدُّمِ الفعْلِ الدالِّ عليه .
الرابع : أنه يعود على اليمين ، وإن كانت مؤنثة ؛ لأنها بمعنى الحَلْفِ ، قالهما أبو البقاء{[12476]} ، وليسا بظاهَرْين .
و " إطْعَامُ " مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، وهو مقدَّرٌ بحرفٍ وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل ، أي : فكفَّارته أن يُطْعِمَ الحَانِثُ عشرة ، وفاعلُ المصدرِ يُحْذَفُ كثيراً ، ولا ضرورة تدعو إلى تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ ، أي : أن يُطْعَمَ عشرةٌ ؛ لأنَّ في ذلك خلافاً تقدَّم التنبيه عليه ؛ فعلى الأول : يكونُ محلُّ " عشرة " نصباً ؛ وعلى الثاني : يكون محلُّها رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ ، ولذلك فائدةٌ تَظْهر في التابع ، فإذا قلت : " يُعْجِبُنِي أكْلُ الخُبْزِ " فإن قدَّرته مبنياً للفاعل ، فتتبع " الخُبْز " بالجرِّ على اللفظ ، والنَّصْبِ على المحلِّ ، وإنْ قَدَّرْتَه مبنيًّا للمفعول ، أتْبَعْتَهُ جرًّا ورفعاً ، فتقول : " يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ والسَّمْنِ والسَّمْنَ والسَّمْنُ " ، وفي الحديث : " نَهَى عن قَتْلِ الأبْتَرِ وذُو الطُّفَيَتَيْنِ " برفع " ذُو " على معنى : أنْ يُقْتَلَ الأبْتَرُ ، قال أبو البقاء{[12477]} : " والجَيِّدُ أن يُقَدَّرَ - أي المصدرُ - بفعلٍ قد سُمِّي فاعلُه ؛ لأنَّ ما قبله وما بعده خطابٌ " ، يعني : فهذه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك ؛ لأنَّ المعنى : فكفَّارَتُهُ أنْ تُطْعِمُوا أنْتُمْ أيها الحَالِفُونَ ، وقد تقدم أنَّ تقديره بالمبنيِّ للفاعلِ هو الراجحُ ، ولو لم تُوجَدُ قرينةٌ ؛ لأنه الأصلُ .
قوله تعالى : " مِنْ أوسطِ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلِّ رفعِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ يبيِّنه ما قبله ، تقديرُه : طعامُهُمْ مِنْ أوسطِ ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عِنْدَ قوله : " مَسَاكِينَ " ، وسيأتي له مزيد بيان قريباً إن شاء الله تعالى .
والثاني : أنه في موضعِ نصْبٍ ؛ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني ، والتقديرُ : قوتاً أو طعاماً كائناً من أوسطِ ، وأما المفعولُ الأوَّل فهو " عَشَرَة " المضافُ إليه المصدرُ ، و " مَا " موصولةٌ اسميَّةٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : من أوْسَطِ الذي تطعمُونَهُ ، وقَدَّره أبو البقاء{[12478]} مجروراً ب " مِنْ " ، فقال : " الَّذِي تُطْعَمُونَ مِنْهُ " ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ من شرط العائد المجرورِ في الحذف : أنْ يتَّحِدَ الحرفانِ والمتعلَّقانِ ، والحرفان هنا ، وإن اتفقا وهما " مِنْ " و " مِنْ " إلا أنَّ العامل اختلف ؛ فإنَّ " مِن " الثانيةَ متعلِّقةٌ ب " تُطْعِمُون " ، والأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ ، وهو الكون المطلقُ ؛ لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف ، وقد يقالُ : إنَّ الفعلَ لَمَّا كان مُنْصَباً على قوله : " مِنْ أوْسَطِ " ، فكأنه عاملٌ فيه ، وإنما قدَّرْنَا مفعولاً لضرورة الصِّناعة ، فإن قيل : الموصولُ لم ينجرَّ ب " مِنْ " إنما انجرَّ بالإضافةِ ، فالجوابُ : أنَّ المضافَ إلى الموصول كالموصولِ في ذلك ؛ نحو : " مُرَّ بِغُلامٍ الَّذي مَرَرْتُ " .
و " أهلِيكُمْ " مفعولٌ أول ل " تُطْعِمُونَ " ، والثاني محذوفٌ ؛ كما تقدم ، أي : تُطْعِمُونَهُ أهْلِيكُمْ ، و " أهْلِيكُمْ " جمعُ سلامةٍ ، ونَقَصَهُ من الشروط كونُه ليس عَلَماً ولا صفةً ، والذي حسَّن ذلك : أنه كثيراً ما يُستعملُ استعمال " مُسْتَحِقٌّ لِكَذَا " في قولهم : " هُوَ أهْلٌ لِكَذَا " ، أي : مُسْتَحِقٌّ له ، فأشبه الصفاتِ ، فجُمِعَ جمعَها ، وقال تعالى : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] { قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ، وفي الحديث : " إنَّ لله أهلينَ " قيل : يا رسُول الله : مَنْ هُمْ ؟ قال : " قُرَّاء القرآن هم أهلُو الله وخاصَّتُه " {[12479]} ، فقوله : " أهلُو الله " جمعٌ حُذِفَتْ نونُه للإضافة ، ويُحتمل أن يكون مفرداً ، فيكتب : " أهْلُ الله " ، فهو في اللفظِ واحدٌ .
وقرأ{[12480]} جَعْفَرٌ الصَّادقُ : " أهَالِيْكُمْ " بسكونِ الياء ، وفيه تخريجانِ :
أحدهما : أنَّ " أهَالِي " جمعُ تكسيرٍ ل " أهْلَة " ، فهو شاذٌّ في القياس ؛ ك " لَيْلَةٍ وليالٍ " ، قال ابنُ جِني{[12481]} : " أهَالٍ " بمنزلةِ " لَيَالٍ " واحدها أهلاَة ولَيْلاَة ، والعربُ تقول : أهْلٌ وأهْلَة ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
وَأهْلَةِ وُدٍّ سُرِرْتُ بِوُدِّهِمْ *** . . . {[12482]}
وقياسُ قولِ أبي زيدٍ : أن تجعله جمعاً لواحدٍ مقدَّرٍ ؛ نحو : أحَادِيث وأعَارِيض ، وإليه يشير قولُ ابن جنِّي : " أهالٍ بمنزلة ليالٍ واحدُها أهلاة وليْلاَة " ، فهذا يحتمل أن يكونَ [ بطريق ] السماعِ ، ويحتملُ أن يكون بطريقِ القياس ؛ كما يقول [ أبو زيد .
والثاني : أنَّ هذا اسمُ جمعٍ ل " أهْلٍ " قال الزمخشريُّ : " كَالليالي في جمع لَيْلَة والأرَاضِي في جمع أرْضٍ " ] . قوله " في جَمْعِ لَيْلَةٍ ، وجمعِ أرضٍ " أرادَ بالجمعِ اللغويَّ ؛ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى ، ولا يريد أنه جمعُ " لَيْلَة " و " أرْض " صناعةً ؛ لأنه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ ، فكيف يجعلُه جمعاً اصطلاحاً ؟ .
وكان قياسُ قراءةِ جعفرٍ تحريكَ الياءِ بالفتحة ؛ لخفَّتها ، ولكنه شَبَّه الياء بالألف ، فقدَّر فيها الحركةَ ، وهو كثيرٌ في النظْمِ ؛ كقول النابغة : [ البسيط ]
رَدَّتْ عَلَيْهِ أقَاصِيهِ وَلَبَّدَهُ *** ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ في الثَّأدِ{[12483]}
كَأنَّ أيْديهِنَّ بِالْقَاعِ القَرِقْ *** أيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ{[12484]}
اختَلَفُوا في قَدْرِ هذا الإطعامِ ، فقالَ قَوْمٌ : يُطعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُداً من طعام بمُدِّ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو رَطلٌ وثُلُثٌ مِنْ غالبِ قُوتِ البَلْدَة ، وكذَلِكَ في جَمِيعِ الكفَّارَاتِ ، وهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابتٍ ، وابْن عبَّاس ، وابن عُمَر - رضي الله عنهم - ، وبه قال سعيدُ بْنُ المُسَيَّب والحَسَن والقَاسِم ، وسُلَيْمَان بنُ يَسَار ، وعطاء ، والشَّافِعيُِّ - رضي الله تعالى عنهم - وقال أهْلُ العِرَاقِ : عليه لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ - وهو نصف صاع ، ويُرْوَى ذلِكَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ - رضي الله عنهما - .
وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : إنْ أطعم من الحِنْطَةِ فنِصْفُ صَاعٍ ، وإنْ أطعم من غيرها فصاعٌ ، وهو قول الشَّعْبِيِّ ، والنَّخْعِيِّ ، وسعيد بن جُبَيْرٍ ، ومُجَاهِد ، والحكم - رحمهم الله - ولو غدَّاهم وعشَّاهُمْ لا يجُوزُ ، وجوَّزهُ أبُو حنيفةَ - رضي الله عنه - ، ويُروَى ذَلِكَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، ولا يَجُوزُ الدَّرَاهِمُ و الدَّنَانِيرُ ، ولا الخُبْزُ ، والدَّقِيقُ ، بل يَجِبُ إخْرَاجُ الحَبِّ إليْهِم ، وجوَّز أبُو حنيفةَ - رضي الله عنه - كُلَّ ذلك ، ولو صُرِفَ الكُلُّ إلى مِسْكِين واحد لا يجُوزُ ، وجوَّز أبو حنيفة أن يُصْرَف طعامُ عشرةٍ إلى مسكينٍ واحدٍ في عشرة أيام ولا يَجُوزُ أن يُصرَف إلا إلى مُسْلِمٍ حر مُحْتَاج ، فإن صُرِفَ إلى ذِمِّيٍّ أوْ عَبْدٍ أو غَنِيٍّ لَمْ يَجُزْ ، وجوَّز أبُو حنيفةَ صرْفَهُ إلى أهْلِ الذِّمَّةِ ، واتَّفَقُوا على أنَّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلى أهْلِ الذِّمَّة لا يَجُوزُ .
فقيل : مِنْ خَيْر قُوتِ عيالِكُمْ ، والوسَطُ : الخُبْزُ [ وتقدم في البقرة في ] قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] .
وقال عَبِيدَةُ{[12485]} السَّلْمَانِيُّ : الأوْسَطُ الخُبْزُ والْخَلُّ ، والأعلى الخُبْزُ واللَّحْم ، والأدْنَى الخُبْزُ البحْتُ ، والكُلُّ يُجْزِئُ .
قوله تعالى : " أوْ كِسْوَتُهُمْ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه نَسَقٌ على " إطْعَام " ، أي : فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسْوَة تلك العشرة .
والثاني : أنه عطفٌ على محلِّ " مِنْ أوسط " ؛ كذا قاله الزمخشريُّ{[12486]} ، وهذا الذي قاله إنما يتمشَّى على وجهٍ سبقَ في قوله " مِنْ أوْسَط " [ وهو أن يكون " مِنْ أوسط " خبراً لمبتدأ محذوفٍ يدُلُّ عليه ما قبله ، تقديرُه : طعامُهُمْ مِنْ أوْسَط ] ، فالكلامُ عنده تامٌّ على قوله " عَشرةِ مساكِينَ " ، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكونُ من أوسط كذا وأمَّا إذا قلنا : إنَّ " مِنْ أوْسَطِ " هو المفعولُ الثاني ، فيستحيل عطف " كِسْوَتُهُمْ " عليه ؛ لتخالفهما إعراباً .
وقرأ الجمهور : " كِسْوتُهُمْ " بكسر الكاف . وقرأ{[12487]} إبراهيمُ النخعيُّ وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ وسعيدُ بنُ المُسَيِّب بضمِّها ، وقد تقدَّم في البقرة [ الآية 233 ] أنهما لغتان في المصدر ، وفي الشيء المَكْسُوِّ ، قال الزمخشريُّ{[12488]} : " كالقِدْوَة في القُدْوَة ، والإسْوَة في الأسْوَة " إلا أن الذي قرأ في البقرة بضَمِّها هو طلحة فلم يذكُرُوه هنا ، ولا ذكَرُوا هؤلاء هناك .
وقرأ{[12489]} سعيدُ بن جُبَيْر وابنُ السَّميفع : " أوْ كأسْوتِهِمْ " بكاف الجر الداخلة على " أُسْوَة " قال الزمخشريُّ : " بمعنى : أو مِثْلُ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ ، إسْرَافاً أو تَقْتيراً ، لا تُنْقصونَهُمْ عن مقْدارِ نفقتِهِمْ ، ولكنْ تواسُونَ بينهم ، فإنْ قُلْتَ : ما محلُّ الكافِ ؟ قلتُ : الرفعُ ، تقديرُه : أو طعَامُهُمْ كأسوتِهِمْ ، بمعنى : كَمِثْلِ طعامهم ، إن لَمْ يُطْعِمُوهُم الأوْسَطَ " . انتهى ، وكان قد تقدم أنه يجعل " مِنْ أوسَطِ " مرفوع المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف ، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً ؛ عطفاً على " مِنْ أوْسَطِ " ، وقال أبو البقاء{[12490]} قريباً من هذا ؛ فإنه قال : " فالكاف في موضعِ رفعٍ أي : أو مِثْلُ أسْوَةِ أهْلِيكُمْ " ، وقال أبو حيان : " إنه في موضع نصْبٍ عطفاً على محلِّ : مِنْ أوسطَ " ؛ لأنه عنده مفعولٌ ثان ، إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسْوةَ من الكَفَّارةِ ، وقد أجمعَ الناسُ على أنها إحدى الخصَالِ الثلاثِ ، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول : " اسْتُفيدتِ الكسْوةُ من السُّنَّةِ " ، أمَّا لو قام الإجماعُ على أن مستندَ الكسْوَة في الكفَّارة من الآية ؛ فإنه يَصِحُّ الردُّ على هذا القارئ .
والكِسْوَةُ في اللُّغَةِ معناهُ اللِّبَاسُ ، وهو كُلُّ ما يُكْتَسَى بِه .
كُلُّ مَنْ لَزمتْهُ كَفَّارَةُ يمينٍ فهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أطْعَمَ عشْرَة مساكين ، وإن شاءَ كَسَاهُم ، وإن شاء أعْتَقَ رقبَةً ، فإن اخْتَارَ الكِسْوَة ، فاخْتَلَفُوا في قدرهَا ، فذهبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يَكْسُو كُلَّ مِسْكينٍ ثوباً واحداً مِمَّا يَقَعُ عليه اسم الكِسْوَةِ ، إزَارٌ ، أوْ رِدَاءٌ ، أو قميصٌ ، أو سراويل ، أو عمامة مقَنَّعَة ، أو كِسَاء أو نَحْوها ، وهُو قولُ ابن عبَّاس والْحَسَن ومُجاهد وعطاء وطاوُس - رضي الله عنهم - ، وإليه ذهبَ الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه {[12491]}- .
وقال مالك - رضي الله عنه - : يَجِبُ لِكُلِّ إنسان ما يجُوزُ فيه صلاتُهُ ، فيكْسُو الرجُلَ ثَوْباً والمرْأةُ ثَوْبَيْن دِرْعاً وخِمَاراً .
وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبُ : " لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَان " {[12492]} .
قوله تعالى : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } عطف على " إطعامُ " وهو مصدر مضاف لمفعوله ، والكلامُ عليه كالكلام على [ " إطعامُ ] عشرَةِ " من جوازِ تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك ، [ وقوله : { فمنْ لَمْ يَجِدْ فصيَامُ } كقوله في النساء : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [ النساء : 92 ] ] ، وقد تقدَّم ذلك .
المُرَادُ بالرَّقَبَةِ الجملة .
قيل : الأصْلُ في هذا المجازِ ، أنَّ الأسِير في العربِ كان يجمع إلى رقبتِهِ بحبْلٍ ، فإذا أطلقَ حلَّ ذلك الحَبْل ، فسُمِّيَ الإطلاقُ مِنَ الرَّقبَةِ فَكُّ رقبة ، وأجازَ أبُو حنيفَةَ والثَّوْرِي إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَة في جَميعهَا ، إلاَّ كَفارَة القَتْل ؛ لأنَّ اللَّه تعالى قَيَّدَ الرَّقَبة فيها بالإيمان ، قُلْنَا : المُطْلَقُ يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ ، كما أنَّ اللَّهَ تعالى قَيَّدَ الشَّهَادَة بالعَدَالَةِ في موضعٍ فقال تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] ، وأطلق في موضعٍ فقال تعالى : { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، ثم العدالةُ مشروطةٌ في جميعها حَمْلاً للمُطْلَقِ على المُقَيَّدِ ، كذلك هذا .
ولا يجُوزُ إعْتَاقُ المُرْتَدِّ بالاتِّفَاقِ عن الكَفَّارة ، ويُشْتَرَطُ أن يكونَ سليمَ الرِّقِّ ، حتَّى لو أعْتَقَ عن كَفَّارتِهِ مُكَاتباً ، أوْ أمَّ ولدٍ ، أوْ عبداً اشْتَراه بِشَرْطِ العِتْقِ ، أو اشْتَرَى قَرِيبَهُ الذي يُعْتَقُ عليه بِنيَّةِ الكَفَّارة يعتق ، ولا يجُوزُ عن الكفَّارة .
وجوَّز أصْحَابُ الرَّأي عِتْق المُكَاتِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ أدَّى شيئاً من النُّجُومِ ، وعِتْق القَرِيبِ عن الكَفَّارة .
ويُشترطُ أن تكُون الرَّقَبَةُ سليمةً من كُلِّ عَيْبٍ يَضِرُّ بالعمل ضَرَراً بَيِّناً ، حتَّى لا يجُوزُ مَقْطُوع إحْدَى اليَدَيْنِ ، أو إحْدَى الرِّجْلَيْن ، ولا الأعمَى ، ولا الزَّمِن ، ولا المجْنُونُ المُطْبَقُ ، ويجُوزُ الأعْوَرُ ، والأصَمُّ والمقْطُوعُ الأذُنَيْنِ ، والأنْفِ ؛ لأنَّ هذهِ العُيُوبَ لا تَضِرُّ بالعَمَلِ إضْرَاراً بَيِّناً وعند أبي حنيفَة - رضي الله تعالى عنه - كُلُّ عَيْبٍ يُفَوِّتُ جِنْساً من المَنْفَعَةِ يَمْنَعُ الجَوازَ ، حَتَّى جوَّزَ مَقْطُوعَ إحْدَى اليَدَيْن ، ولم يجوِّز مَقْطُوعَ إحْدى الأذُنَيْنِ .
معنى الواجب{[12493]} المخيَّر : هُوَ أنَّهُ لا يَجِبُ عليه الإتْيان بكُلِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ ، ولا يجُوزُ له تَرْكُ جَميعها ، ومتى أتى بأيِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ خَرَجَ عن العُهْدَة ، فإذا اجْتَمَعَتْ هذه القُيُود الثلاثةُ ، فذلك هو الواجِبُ المُخَيَّرُ .
وقال بعض الفُقَهَاءِ : الواجِبُ واحدٌ لا بِعَيْنِه ، وهذا الكلامُ يَحْمِلُ أمْرَيْن :
الأوَّلُ : أنْ يُقَال : الواجِبُ عليه أن يُدخِلَ واحداً من هذه الثلاثة لا بِعَيْنِه ، وهذا مُحَالٌ في العُقُولِ ؛ لأنَّ الشَيْء الذي يَكُونُ مُعَيَّناً في نَفْسِه يَكُونُ مُمْتَنِع الوُجُودِ لذاتِهِ ، وما كان كذلك ، فإنَّهُ لا يَرِدُ به التَّكْلِيف .
والثاني : أن يُقَال : الوَاجِبُ عليه واحدٌ مُعَيَّنٌ في نَفْسِهِ وفي عِلْم الله تعالى ، إلاَّ أنَّهُ مَجْهُولُ العيْنِ عند الفاعلِ ، وذلك أيْضاً مُحَالٌ ؛ لأنَّ كون ذلك الشَّيْء واجباً بِعَيْنِه في عِلْم الله تعالى هو أنَّهُ لا يجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ ، واجْتَمَعتِ الأمَّةُ على أنَّهُ يجُوزُ له تركُهُ بتَقْييدِ الإتْيَان بِغَيْرِه ، والجَمْعُ بَيْنَ هذيْنِ القوْلَيْن جمعٌ بين النَّفي والإثْبَات ، وهُو مُحَال ، وتمامُ هذا البَحثِ مَذْكُورٌ في أصُولِ الفِقْه .
فإنْ قِيلَ : أيُّ فائدةٍ لِتَقْدِيمِ الإطعامِ على العِتْقِ مع أنَّ العتقَ أفْضَلُ ؟ فالجوابُ من وُجُوه :
أحدها : أنَّ المقصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيه على أنَّ هذه الكَفَّارَة وَجَبَتْ على التَّخْيِير لا عَلَى التَّرْتيب ، لأنها لوْ وَجَبَتْ على التَّرْتِيبِ لوجَبَتِ البدَايَةُ بالأغْلَظِ .
وثانيها : قدَّم الإطْعام ؛ لأنَّه أسْهَلُ ، ولكَوْنِ الطَّعامِ أعمّ وُجُوداً ، والمقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ على أنَّهُ تعالى يُراعِي التَّخْفِيفَ والَّسْهِيلَ في التَّكالِيفِ .
وثالثها : أنَّ الإطعامَ أفْضَلُ ؛ لأن الحُرَّ الفَقِيرَ قَدْ لا يَجِدُ طعاماً ، ولا يكونُ هُنَاكَ مَنْ يُعْطِيه الطَّعام ، فَيقعَ في الضُّرِّ .
وأمَّا العَبدُ فَيَجِبُ على مَولاَهُ إطعامُهُ وكِسْوَتُهُ .
قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } إذا عَجزَ الذي لَزِمَتْهُ كفَّارةُ اليمينِ عَنِ الإطْعَامِ ، أو الْكِسْوَةِ ، أو تَحْرِيرِ رقبةٍ ، يجبُ عليهِ صوْمُ ثلاثةِ أيَّامٍ ، والعاجزُ ألا يَفْضُل من مالهِ عن قُوتِهِ ، وقُوتِ عيالِهِ وحاجَتِهِ ما يُطْعِمُ ، أو يَكْسُو ، أو يَعْتِقُ ، فإنَّهُ يصومُ ثلاثة أيام ، وقال بعضهم : إذا مَلكَ ما يمكنه الإطْعَامُ ، وإنْ لم يَفضُل عن كِفَايتِهِ ، فليس له صِيَامٌ ، وهو قوْلُ الحَسَن ، وسعيد بن جُبَيْر{[12494]} .
واختلفُوا في وجوب التَّتَابعُ في هذا الصِّيَام ، فذهب جماعةٌ إلى أنَّه لا يجب فيه التَّتَابُعُ ، بل إنْ شاء تابع وإن شاء فرَّقَ ، والتَّتَابعُ أفْضَلُ ، وهُو أحد قولي الشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - .
وذهب قوم إلى وُجوبِ التَّتَابع فيه ، قِيَاساً على كَفَّارةِ القَتْلِ والظِّهَارِ ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِي وأبي حنيفةَ - رضي الله تعالى عنهما - وتدلُّ عليه قِرَاءة{[12495]} ابن مَسْعُود - رضي الله تعالى عنه - " فصِيَام ثلاثةِ أيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " .
وأُجِيبُ : بأنَّ القراءةَ الشَّاذَّةَ مردُودَةٌ ، إذ لَوْ كانَتْ قُرْآناً ، لنُقِلَتْ نَقْلاً مُتَوَاتراً ، ولو جوَّزنا في القُرْآن ألا ينقل متواتراً ، لَزِمَ طَعْن الرَّوَافِضِ والملاحِدَة في القُرْآن ، وذلك بَاطِلٌ ، فعِلمْنَا أن القراءة الشَّاذَّة مردُودَةٌ ، فلا تَصْلحُ أنْ تكون حُجَّةً .
وأيضاً نُقِلَ عن أبَيِّ بن كعب أنَّهُ{[12496]} قرأ : " فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر مُتَتَابِعَات " ، مع أنَّ التَّتَابع هُناكَ ما كان شَرْطاً وأجابُوا عَنْهُ أنَّهُ رُوِي عن النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - " أنَّ رَجُلاً قال لَهُ : عَلَيَّ أيَّامُ رمضانَ أفَأقْضِيهَا مُتفَرِّقاتٍ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " أرأيْتَ لوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَ الدِّرْهِمَ بِالدِّرْهَم أمَا كان يُجْزِيك ؟ قال : بلَى قال : فاللَّه تعالى أحَقُّ أن يَغْفِرَ ويَصْفَحَ " {[12497]} وهذا الحَدِيثُ وإن وَقَعَ جواباً عن هذا السُّؤال في صَوْم رمضان ، إلاَّ أنَّ لَفْظَهُ عامٌّ ، وتَعْلِيلُهُ عَامٌّ في جَميعِ الصِّيَامَاتِ ، وقد ثبتَ في الأصُولِ أنَّ العِبْرة بعُمُوم اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السبب ، فهذا من أقوى الدَّلائلِ على جَوازِ التَّفْرِيق هاهُنَا .
قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } ، ذلك إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الإطْعَامِ والكِسْوَة ، وتحْرِيرِ الرَّقَبَة يُكفِّر عنكم حِنْثَ اليَمِين وقْتَ حَلْفِكُمْ و " إذَا حَلَفْتُمْ " قال أبو البقاء{[12498]} : " منصوبٌ على الظَّرْف وناصبُه " كَفَّارة " ، أي : ذلك الإطعامُ ، أو ما عُطِفَ عليه يُكَفِّر عنْكُمْ حِنْثَ اليمينِ وقتَ حَلْفكُمْ " ، وقال الزمخشريُّ{[12499]} : " ذلك المذكورُ كفَّارة ، ولو قيل " تِلْكَ كَفَّارةُ " ، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء ، أو التأنيث للكفَّارة ، والمعنى : إذَا حَلَفْتُمْ حَنْثْتُم ، فترك ذِكْرَ الحِنْثِ ؛ لوقوع العلْمِ بأن الكفَّارة ، إنما تَجِبُ بالحِنْثِ بالحَلِفِ لا بنَفْسِ الحَلِفِ ، كقوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] أي : فأفْطَرَ " . ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشريُّ ، وهو تقديرُ الحِنْثِ ، ولذلك عِيبَ على أبي البقاء قوله : " العَامِلُ في " إذَا " كفارةُ أيْمانِكُمْ ؛ لأن المعنى : ذلك يُكَفِّرُ أيْمَانَكُمْ وَقْتَ حَلْفِكُمْ " ، فقيل له : الكفَّارةُ ليستْ واقعةً في وقْتِ الحَلْفِ ، فكيف يَعْمَلُ في الظرْفِ ما لا يقعُ فيه ؟ وظاهرُ الآية أنَّ " إذَا " متمحِّضَة للظرفيَّةِ ، وليس فيها معنى الشرطِ ، وهو غيرُ الغالبِ فيها ، وقد يجوزُ أن تكون شرطاً ، ويكونُ جوابُها محذوفاً على قاعدةِ البصريِّين يدُلُّ عليه ما تقدَّم ، أو هو نفسُ المتقدِّم عند أبي زَيْدٍ والكوفيين ، والتقدير : إذا حَلَفْتُمْ وحَنِثْتُم ، فذلك كفارةُ إثْمِ أيْمَانِكُمْ ؛ كقولهم : " أنْتَ ظَالِمٌ إنْ فَعَلْتَ " .
اخْتَلَفُوا في تقديم الكَفَّارة على الحنْثِ ؛ فذَهَبَ قَوْمٌ إلى جَوَازِهِ لقَوْل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : " من حَلَفَ بِيَمِينٍ ، فَرأى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا ، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَفْعَل الذي هُو خَيْر " {[12500]} وهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَر ، وابْنِ عبَّاس وعائِشَة - رضي الله عنهم - وبه قال الحَسَنُ وابنُ سيرين ، وإليه ذهبَ مالِكٌ ، والأوْزَاعِيُّ ، والشَّافعيُّ - رضي الله عنهم - ، إلاَّ أنَّ الشَّافعيَّ يقُولُ : إن كَفَّرَ بالصَّوْمِ قبل الحنْثِ لا يَجُوزُ ، لأنه بدَنِيٌّ ، إنَّمَا يجوزُ الإطْعَامُ والكسْوَةُ والعِتْقُ ؛ لأنَّه مَالِيٌّ ، فأَشْبَه تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ ، كما يجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ على الحَوْل ، ولا يجُوزُ تَعْجِيلُ صَوْمِ رمضانَ .
قالوا : وقوله : " إذَا حَلَفْتُم " فيه دَقِيقَةٌ ، وهو التَّنْبِيهُ على أنَّ تقْدِيم الكَفَّارة قبْل اليَمِين لا يجُوز ، وأمَّا بعد اليمين وقبل الحنْثِ فيجُوز ، لانعِقَادِ سببها وهو اليمينُ ، فصارت كمِلْكِ النِّصاب .
وقال أبو حنيفةَ - رضي الله عنه - : لا يجُوزُ تقديم الكَفَّارَة على الحنْثِ .
قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } قيل : المرادُ به تَرْكُ الحَلْفِ ، أي : لا تحلِفُوا ، وقِيل : المُرَادُ تَقْلِيلُ الأيْمان ، أي : لا تُكثِروا مِنْهَا .
قَليلُ الأَلايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ *** فإنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ{[12501]}
والصحيحُ : أنَّ المُرَادَ : حِفْظُ اليمينِ على الحنْثِ ، هذا إذا لم يكن حلف بِيَمينِهِ على ترْكِ منْدُوبٍ أو فعلٍ مكرُوهٍ ، فإن حَلَفَ على تَرْكِ مَنْدُوبٍ أو فِعْلِ مَكْرُوهٍ ، فالأفْضَلُ أن يُحنِثَ نَفْسَهُ ويُكَفِّر للحَدِيثِ المُتقدِّم .
قوله تعالى : " كَذِلِكَ " هذه الكاف نعتٌ لمصدر محذوف عند جماهير المُعْربين ، أي : يبيِّن الله آياته تبييناً مثل ذلك التبيين ، وعند سيبويه{[12502]} أنه حالٌ من ضميرِ ذلك المصْدَرِ على ما عُرِفَ .