السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

{ لا يؤاخذكم الله باللغو } الكائن { في أيمانكم } هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الإنسان : لا والله وبلى والله وإليه ذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى ، وقيل : هو الحلف على ما يظنّ أنه كذلك ولم يكن وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم } أي : وثقتم { الأيمان } عليه بأن حلفتم عن قصد .

روي أنّ الحسن سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال : يا أبا سعيد دعني أجب عنك فقال :

ولست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمد عاقدات العزائم

والمعنى : ولكن يؤاخذكم الله بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف التقدير بأحد الأمرين للعلم به ، وقرأ ورش يؤاخذكم بإبدال الهمزة واواً مفتوحة ، وقرأ ابن ذكوان عاقدتم بألف بعد العين وتخفيف القاف والباقون بغير ألف مع تشديد القاف { فكفارته } أي : اليمين إذا حنثتم فيه التي تذهب إثمه وتزيل أثره بحيث تصيرون كأنكم ما حلفتم .

{ إطعام عشرة مساكين } أي : لكل مسكين مدّ عندنا ونصف صاع عند أبي حنيفة رحمه الله { من أوسط } أي : أعدل { ما تطعمون أهليكم } من برّ أو غيره لا من أعلاه ولا من أدناه { أو كسوتهم } بما يسمى كسوة كقميص وعمامة وإزار وسراويل ومقنعة من صوف وقطن وكتان وحرير ولو لرجل وإن لم يجز له لبسه لوقوع اسم الكسوة عليه رديئاً كان أو جيداً ويجزئ لبد أو فروة اعتبر في البلد لبسهما ولا يكفي دفع ما ذكر لمسكين واحد وعليه الشافعيّ ولا يكفي المكعب والنعل والخف والقلنسوة والتبان وهو سراويل قصيرة لا تبلغ الركبة ونحو ذلك مما لا يسمى كسوة { أو تحرير رقبة } أي : مؤمنة كما في كفارتي القتل والظهار حملاً للمطلق على المقيد وجوّز أبو حنيفة عتق الكافرة في كل كفارة إلا القتل ، وخرج بالتخيير بين هذه الثلاثة أنه لا يجزئ أن يطعم خمسة ويكسو خمسة كما لا يجزئ إعتاق نصف رقبة وإطعام خمسة { فمن لم يجد } أي : بأن عجز عن أحد ما ذكر { فصيام ثلاثة أيام } أي : فكفارته صيام ثلاثة أيام ولا يجب تتابعها .

فإن قيل : قرئ شاذاً متتابعات والقراءة الشاذة كخبر الواحد في وجوب العلم كما أوجبنا قطع يد السارق اليمنى بالقراءة الشاذة في قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما } ( المائدة ، 38 ) ولأنّ من عادة الشافعي رحمه الله تعالى حمل المطلق على المقيد من جنسه وهو الظهار والقتل أجيب : بأنّ اليمين نسخ فيها متتابعات تلاوة وحكماً فلا يستدل بها بخلاف آية السرقة فإنها نسخت تلاوة لا حكماً وبأنّ المطلق ههنا متردّد بين أصلين يجب التتابع في أحدهما وهو كفارة الظهار والقتل ولا يجب في الآخر وهو قضاء رمضان فلم يكن أحد الأصلين في التتابع بأولى من الآخر ويسنّ تتابعها خروجاً من خلاف أبي حنيفة فإنه شرط تتابعها .

تنبيه : المراد بالعجز أن لا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة كمن يجد كفايته وكفاية من تلزمه مؤنته فقط ولا يجد ما يفضل عن ذلك وضابط ذلك : أنّ من جاز له أن يأخذ سهم الفقراء والمساكين من الزكاة والكفارات جاز له أن يكفر بالصوم لأنه فقير في الأخذ فكذا في الإعطاء { ذلك } أي : المذكور { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي : وحنثتم { واحفظوا أيمانكم } أي : من أن تنكثوها ما لم تكن من فعل برّ أو إصلاح بين الناس كما مرّ في سورة البقرة { كذلك } أي : مثل ما بين لكم ما ذكر { يبين الله لكم آياته } أي : أعلام شريعته { لعلكم تشكرون } أي : يحصل منكم شكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية .