قوله تعالى : { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ، محل ( الذين ) نصب عطف على الذين الأول ، وقيل : خفض عطفاً على قوله : { وأعتدنا للكافرين } نزلت في اليهود وقال السدي : في المنافقين ، وقيل : مشركي مكة المتفقين على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : { ومن يكن الشيطان له قريناً } ، صاحباً وخليلاً .
قوله تعالى : { فساء قريناً } ، أي : فبئس الشيطان قريناً ، وهو نصب على التفسير ، وقيل : على القطع بإلغاء الألف واللام كما تقول : نعم رجلاً عبد الله ، وكما قال تعالى : { بئس للظالمين بدلاً } [ الكهف :50 ] و{ ساء مثلاً } [ الأعراف : 177 ] .
ثم أخبر عن النفقة الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال : { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } أي : ليروهم ويمدحوهم ويعظموهم { وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } أي : ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص وإيمان بالله ورجاء ثوابه . أي : فهذا من خطوات الشيطان وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير . وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها فلهذا قال : { وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } أي : بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه ويسعى فيه أشد السعي .
فكما أن من بخل بما آتاه الله ، وكتم ما مَنَّ به الله عليه عاص آثم مخالف لربه ، فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله فإنه آثم عاص لربه مستوجب للعقوبة ، لأن الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه الإخلاص ، كما قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب فلهذا حث تعالى عليه بقوله :
وقوله - تعالى { والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } معطوف على { الذين يَبْخَلُونَ } .
وإنما شاركوهم فى الذم وسوء العاقبة لأن البخل بإظهار نعم الله فى مواضع الخير وكتمانها ، يستوى مع الإِنفاق الذى لا يقصد به وجه الله فى القبح واستجلاب العقاب ، إذ أن الذى ينفق ماله على سبيل الرياء والسمعة لا يتوخى به مواقع الحاجة ، فقد يعطى الغنى ويمنع الفقير ، وقد يبذل الكثير من المال ولكن فى المفاسد والشرور والمظاهر الكاذبة .
والمعنى : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس أى قاصدين بإنفاقهم الرياء والسمعة لا وجه الله - تعالى - ولا يؤمنون بالله الذى له الخلق والأمر ، ولا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب . . . هؤلاء الذين يفعلون ذلك ببغضهم الله - تعالى - ، ويجازيهم بما يستحقون من عذاب أليم .
روى مسلم عن أبى هريرة قال : " سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله - تبارك وتعالى - : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا اشرك معى فيه غيرى تركته وشركه " .
وقوله { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } جملة معترضة لبيان أن صحبتهم للشيطان ومطاوعتهم له هى التى دفعتهم إلى البخل وإلى الرياء وإلى عدم الإِيمان بالحق الذى آمن به العقلاء من الناس .
والمراد بالشيطان هنا : كل ما يغرى الإِنسان بالشر ويدفعه إليه من الانس أو الجن . والقرين : هو المصاحب والملازم للإِنسان . فهو فعيل بمعنى مفاعل ، كخليط بمعنى المخالط . وساء هنا : بمعنى بئس . وقرينا تمييز مفسر للضمير المستكين فى ساء .
والمخصوص بالذم محذوف وهو الشيطان الذى يدفع الإِنسان إلى الشرور الآثام .
والمعنى ومن يكن الشيطان مقارنا ومصاحبا له فبئس المصاحب وبئس المقارن الشيطان لأنه يدعوه إلى المعاصى التى تفضى به إلى النار .
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن قرناء السوء يفسدون الأخلاق : لأن عدوى الأخلاق تسرى بالمجاورة ، كما تسرى عدوى الأمراض البدنية .
والمقصود من الجملة الكريمة نهى الناس عن طاعة شياطين الإِنس والجن الذين يحرضون على ارتكاب الفواحش والقبائح ، ويزينون لأتباعهم الشرور والآثام .
ويعقب على الأمر بالإحسان ، بتقبيح الاختيال والفخر ، والبخل والتبخيل ، وكتمان نعمة الله وفضله ، والرياء في الإنفاق ؛ والكشف عن سبب هذا كله ، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ، واتباع الشيطان وصحبته :
( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله . وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ! ) . .
وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي . وهي ربط كل مظاهر السلوك ، وكل دوافع الشعور ، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة . فإفراد الله - سبحانه - بالعبادة والتلقي ، يتبعه الإحسان إلى البشر ، ابتغاء وجه الله ورضاه ، والتعلق بثوابه في الآخرة ؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله . فهو لا يخلق رزقه ، ولا ينال إلا من عطاء الله . . والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر ، والبخل والأمر بالبخل ، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء ؛ أو الإنفاق رياء وتظاهرا طلبا للمفخرة عند الناس ؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد !
وهكذا تتحدد " الأخلاق " . . أخلاق الإيمان . وأخلاق الكفر . . فالباعث على العمل الطيب ، والخلق الطيب ، هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والتطلع إلى رضاء الله . . وجزاء الآخرة . فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبة جزاء من الناس ، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس ! فاذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه ، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه . وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء . . اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس . وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة ، فضلا عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان ! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل . وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال ! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء ، والبخل والتبخيل ، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص !
والتعبير القرآني يقول : إن الله " لا يحب هؤلاء . . والله - سبحانه - لا ينفعل انفعال الكره والحب . إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء : " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " . . والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله - إلى جوار المعنى المقصود - وهي ظلال مقصودة ؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات ، ولهذه التصرفات ؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز . وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم : " ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا ! "
وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة . . وهي صفات تنطبق على اليهود ، كما تنطبق على المنافقين . . وكلاهما كان موجودا في المجتمع المسلم في ذلك الحين . . وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله ، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين ، وعن رسوله الأمين . . ولكن النص عام ، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة . فأولى أن نترك مفهومه عاما . لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق .
{ وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وأعتدنا للكافرين بالله من اليهود الذين وصف الله صفتهم عذابا مهينا . { وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ } «والذين » في موضع خفض عطفا على «الكافرين » . وقوله : { رِئَاءَ النّاسِ } يعني : ينفقه مراءاة الناس في غير طاعة الله أو غير سبيله ، ولكن في سبيل الشيطان . { وَلا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ } يقول : ولا يصدّقون بواحدنية الله ولا بالميعاد إليه يوم القيامة ، الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن . وقد قال مجاهد : إن هذا من صفة اليهود ، وهو صفة أهل النفاق الذين كانوا أهل شرك فأظهروا الإسلام تقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به ، وهم على كفرهم مقيمون أشبه منهم بصفة اليهود¹ لأن اليهود كانت توحد الله وتصدّق بالبعث والمعاد ، وإنما كان كفرها تكذيبها بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . وبعد ففي فصل الله بين صفة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر ، وصفة الفريق الاَخر الذين وصفهم في الاَية قبلها ، وأخبر أن لهم عذابا مهينا ، بالواو الفاصلة بينهم ما ينبىء عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني ، وإن كان جميعهم أهل كفر بالله . ولو كانت الصفتان كلتماهما صفة نوع من الناس لقيل إن شاء الله : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس . ولكن فصل بينهم بالواو لما وصفنا .
فإن ظنّ ظانّ أن دخول الواو غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف واحد في كلام العرب ؟ قيل : ذلك وإن كان كذلك ، فإن الأفصح في كلام العرب إذا أريد ذلك ترك إدخال الواو ، وإذا أريد بالثاني وصف آخر غير الأوّل أدخل الواو . وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأشهر من كلام من نزل بلسانه كتابه أولى بنا من توجيهه إلى الأنكر من كلامهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَكُنِ الشّيْطانُ لَهُ قَرِينا فَساءَ قَرِينا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يكن الشيطان له خليلاً وصاحبا يعمل بطاعته ويتبع أمره ويترك أمر الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته ، وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات¹ { فساءَ قرِينا } يقول : فساء الشيطان قرينا . وإنما نصب القرين ، لأن في «ساء » ذكرا من الشيطان ، كما قال جلّ ثناؤه : { بِئْسَ للظّالِمِينَ بَدَلاً } ، وكذلك تفعل العرب في ساء ونظائرها ، ومنه قول عديّ بن زيد :
عَنِ المَرْءِ لا تَسألْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ***فَكُلّ قَرِينٍ بالمُقارِنِ يَقْتَدِي
عطف { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } على { الذين يبخلون } : لأنّهم أنفقوا إنفاقاً لا تحصل به فائدة الإنفاق غالباً ، لأنّ من ينفق ماله رئاء لا يتوخّى به مواقع الحاجة ، فقد يعطي الغنيّ ويمنع الفقير ، وأريد بهم هنا المنفقون من المنافقين المشركين ، ولذلك وصفوا بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وقيل : أريد بهم المشركون من أهل مكة ، وهو بعيد ، لأنّ أهل مكة قد انقطع الجدال معهم بعد الهجرة .
وجملة : { ومن يكن الشيطان له قرينا } معترضة .
وقوله : { فساء قريناً } جواب الشرط . والضمير المُستتر في ( ساء ) إن كان عائداً إلى الشيطان ف ( ساءَ ) بمعنى بئس ، والضمير فاعلها ، و { قرينا } تمييز للضمير ، مثل قوله تعالى : { ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا } [ الأعراف : 177 ] ، أي : فساء قرينا له ، ليحصل الربط بين الشرط وجوابه ، ويجوز أن تبقى ( ساء ) على أصلها ضَدّ حَسُن ، وترفع ضميرا عائداً على ( مَن ) ويكون ( قريناً ) تمييز نسبة ، كقولهم : « ساءَ سمعاً فَسَاء جَابَةً » أي فساءَ من كان الشيطان قرينَهُ من جهة القَرين ، والمقصود على كلا الاحتمالين سوء حال من كان الشيطان له قريناً بإثبات سوء قرينه ؛ إذ المرء يعرف بقرينه ، كما قال عديّ بن زيد :
فَكُلّ قرينٍ بالمُقَارن يَقْتَدي
وقوله : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر } عطف على الجملتين ، وضمير الجمع عائد إلى الفريقين ، والمقصود استنزال طائرهم ، وإقامة الحجّة عليهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس}، يعني اليهود، {ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}: لا يصدقون بالله أنه واحد لا شريك له، ولا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، {ومن يكن الشيطان له قرينا}: صاحبا، {فساء قرينا}، يعني فبئس الصاحب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ}: ينفقه مراءاة الناس في غير طاعة الله أو غير سبيله، ولكن في سبيل الشيطان.
{وَلا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ}: ولا يصدّقون بواحدنية الله ولا بالميعاد إليه يوم القيامة، الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن. وقد قال مجاهد: إن هذا من صفة اليهود، وهو صفة أهل النفاق الذين كانوا أهل شرك فأظهروا الإسلام تقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به، وهم على كفرهم مقيمون أشبه منهم بصفة اليهود¹ لأن اليهود كانت توحد الله وتصدّق بالبعث والمعاد، وإنما كان كفرها تكذيبها بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد ففي فصل الله بين صفة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر، وصفة الفريق الاَخر الذين وصفهم في الآية قبلها، وأخبر أن لهم عذابا مهينا، بالواو الفاصلة بينهم ما ينبئ عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني، وإن كان جميعهم أهل كفر بالله. ولو كانت الصفتان كلتماهما صفة نوع من الناس لقيل إن شاء الله: وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس. ولكن فصل بينهم بالواو لما وصفنا.
{وَمَنْ يَكُنِ الشّيْطانُ لَهُ قَرِينا فَساءَ قَرِينا}: ومن يكن الشيطان له خليلاً وصاحبا يعمل بطاعته ويتبع أمره ويترك أمر الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته، وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات¹ {فساءَ قرِينا} يقول: فساء الشيطان قرينا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذم المقترين، أتبعه ذم المسرفين المبذرين فقال -عطفاً على {الكافرين} أو {الذين يبخلون} معرفاً أن الذين لا يحسنون على الوجه المأمور به فيمن تقدم الأمر بالإحسان إليهم فرقتان: فرقة يمنعون النفقة أصلاً، وفرقة يمنعون وصفها ويفعلونها رياء، فيعدمون بذلك روحها -: {والذين ينفقون} وأشار إلى عظيم رغبتهم في نفقتهم بقوله: {أموالهم} ودل على خسة مقاصدهم وسفول هممهم بقوله: {رئاء الناس} أي لقصور نظرهم وتقيده بالمحسوسات كالبهائم التي لا تدرك إلا الجزيئات المشاهدات. ولما ذكر إخراج المال على وجه لا يرضاه ذو عقل، ذكر الحامل عليه مشيراً إلى أنهم حقروا أنفسهم بما عظموها به، وذلك أنهم تعبدوا للعبيد، وتكبروا على خالقهم العزيز المجيد فقال: {ولا يؤمنون بالله} وهو الملك الأعظم. ولما كان المأمور بالإحسان إليهم هنا من الوالدين ومن ذكر معهم أخص ممن أشير إليهم في البقرة، أكد بزيادة النافي فقال: {ولا باليوم الآخر} الحامل على كل خير، والنازع عن كل شر...
ولما كان التقدير: فكان الشيطان قرينهم، لكفره بإعجابه وكبره؛ عطف عليه قوله: {ومن يكن الشيطان} أي وهو عدوه البعيد من كل خير، المحترق بكل ضير {له قريناً} فإنه يحمله على كل شر، ويبعده عن كل خير؛ وإلى ذلك أشار بقوله: {فساء قريناً}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس}؛ قال الأستاذ:
الرئاء ويخفف فيقال الرياء مصدره راءى كالمراءاة، والجملة عطف على الذين يبخلون وأعيد الموصول للدلالة على المغايرة في الأصناف كقوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة} [آل عمران:135] من سورة آل عمران، أي أن مانعي الإحسان من أهل الفخر والخيلاء صنفان صنف يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم وصنف يبذلون المال لا شكرا لله على نعمته واعترافا لعباده بحقوقهم، بل ينفقونها رئاء الناس أي مرائين لهم يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم، ويحمدوا فعلهم، فالمرائي لا يقصد بإنفاقه إلا الفخر على الناس بكبريائه، وإشراع الطريق لخيلائه، فإنفاقه أثر تلك الملكة الرديئة
والكبرياء كما تكون من شيء في نفس الشخص، تكون أيضا بما يكون له من المال والعرض. فإنك لترى الرجل يمشي ينظر إلى عطفيه ويفكر في نفسه هل هو محل الإعجاب والتعظيم من الناس أم لا (والمرجح عنده نعم على لا) وشر هذا دون شر البخيل فإن هذا يحمل الناس على قبول اختياله وفخره في مقابلة شيء يبذله لهم فكأنه رأى لهم شيئا من الحق عليه وهو بدل التعظيم والثناء الذي يطلبه برئائه، وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس واختياله وفخره عليهم أن لا يرى لهم عليه حقا ما فهو يكلفهم تعظيمه ومدحه لأجل ماله وماله في الصندوق مكتوم عنهم فهو شر من المرائي بلا شك، ولذلك قدم ذكر البخلاء اهتماما بهم لأنهم أعرق في تلك الرذيلة وآثارها. والمرائي في الحقيقة بخيل لا يرى لأحد عليه حقا ولكنه يتوهم أنه صاحب الفضل على الناس ولذلك يخص ببذله في الغالب من لا حق لهم عنده ويبخل على أرباب الحقوق المؤكدة حتى على زوجه وولده وخادمه، وعلى الأقربين حتى الوالدين، ولا يتحرى في إنفاقه مواضع النفع العام ولا الخاص وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح وإن كان الإنفاق هنالك ضارا كالمساعدة على الفسق أو الفتن، هو تاجر يشتري تعظيم الناس له وتسخيرهم لقضاء حاجته والقيام بخدمته.
أقول: إن ما يبينه الأستاذ الإمام هنا هو الرياء الحقيقي الممقوت عند الله وعند خيار عباده ويقول علماء الأخلاق الدينية أن للرياء أنواعا ومراتب، وإن منها أن يبذل المال لمستحقه امتثالا لأمر الله تعالى وقياما بالحق وإيثارا للخير، وقد يخفيه ولكنه يحب أن يحمد على ذلك إذا عرف، ويعدون الرياء من الشرك الخفي ويقولون إن منه ما هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كهذا المثال الذي ذكرناه، وإنما هذا من قبيل ما يحاسب عليه أنفسهم الصديقون، ويقال في مثله حسنات الأبرار سيئات المقربين، والحق أن من جاء بالإحسان لأنه إحسان فهو مرضي عند الله نافع للناس، فلا يضيره حبه أن يحمد بما فعل، وإن كان عدم المبالاة بذلك لذاته أكمل، وقد بينت ذلك بالتفصيل في تفسير {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} [آل عمران:188] الآية فراجعه في الجزء الرابع من التفسير، أو في المنار.
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المجرمين المرائين بقوله: {ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} وهو من عطف السبب على المسبب والعلة على المعلول، ذلك بأن المرائي يثق بما عند الناس ما لا يثق بما عند الله، ويرجح التقرب إليهم على التقرب إليه، ويؤثر ما عندهم من المدح وتوقع النفع، على ما أعده الله في الآخرة على الإيمان وعمل الصالحات، فالله في نظره المظلم أهون من الناس، فهل يعد مثل هذا مؤمنا بالله إيمانا حقيقيا مؤمنا باليوم الآخر كما يجب؟ أم يكون إيمانه تخيلا كتخيل الشعراء، وقولا كقول الصبيان: والله ما فعلت كذا. فالواحد منهم ينطق باسم الله ويؤكد باسمه الكريم الكلام وهو لا يعرف الله وإنما يسمع الناس يقولون قولا فيقلدهم بما يحفظ منه، لا يعرف أنه هو موجد الكائنات، النافذ علمه وقدرته بما في الأرض والسموات، فهل يكون مثل هذا مؤمنا بالله واليوم الآخر؟ كلا إنه لو كان مؤمنا باليوم الآخر موقنا بأن له هنالك حياة أبدية لا نهاية لها، لما فضل عليها عرض هذه الحياة القصيرة التي لا قيمة لها.
ومن آيات الفرق بين المخلص والمرائي أن المرائي يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل والمخلص قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كأن يرغب بعض الناس في البذل فيقول للغني مثلا إنني على فقري أو على قدر حالي قد أعطيت في مصلحة كذا كذا درهما أو دينارا فاللائق بك أن تبذل كذا.
وأقول: إن من شأن الكافر الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أن لا يبذل مالا ولا يعمل عملا صالحا إلا بقصد الرياء والسمعة لأنه ليس له وراء حظوظ هذه الدنيا أمل ولا مطلب والمؤمن ليس كذلك فإن وقع الرياء من مؤمن فإنما يقع من ضعيف الإيمان قليلا ولا يكون كل عمل المؤمن كذلك بل يكون ذلك إلماما يندم عليه صاحبه ويسرع إلى التوبة، وإلا كان كافرا مجاهرا، أو منافقا مخادعا، وسيأتي شيء من تحقيق هذا البحث في تفسير قوله تعالى في هذه السورة: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء:142].
قال تعالى: {ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا} أي إن الحامل لأولئك المتكبرين على ما ذكر هو وسوسة الشيطان التي عبر عنها في آية البقرة بقوله: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} [البقرة:268] فبين أن هؤلاء قرناء الشيطان وهو بئس القرين فعلم أن حالهم في الشر كحال الشيطان، ولن يصرح بالمقصد بل اكتفى بذم من كان الشيطان قرينا له وهذا من الإيجاز الذي لا يجده الإنسان في غير القرآن، قال الأستاذ الإمام: أقول وفي الآية تنبيه إلى تأثير قرناء المرء في سيرته وما ينبغي من اختيار القرين الصالح على قرين السوء، وتعريض بتنفير أولئك الأنصار من مقارنة أولئك اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق في سبيل الله وبيان أنهم شياطين يعدون الفقر، وينهون عن العرف ويأمرون بالمنكر، والقرين الصالح من يكون عونا لك على الخير مرغبا لك فيه، منفرا لك بنصحه وسيرته عن الشر مبعدا لك عنه، مذكرا لك بتقصيرك، مبصرا إياك بعيوب نفسك، وكم أصلح القرين الصالح فاسدا، وكم أفسد قرين السوء صالحا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 37]
ويعقب على الأمر بالإحسان، بتقبيح الاختيال والفخر، والبخل والتبخيل، وكتمان نعمة الله وفضله، والرياء في الإنفاق؛ والكشف عن سبب هذا كله، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، واتباع الشيطان وصحبته: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله. وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا. والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا!).. وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي. وهي ربط كل مظاهر السلوك، وكل دوافع الشعور، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة. فإفراد الله -سبحانه- بالعبادة والتلقي، يتبعه الإحسان إلى البشر، ابتغاء وجه الله ورضاه، والتعلق بثوابه في الآخرة؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله. فهو لا يخلق رزقه، ولا ينال إلا من عطاء الله.. والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر، والبخل والأمر بالبخل، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء؛ أو الإنفاق رياء وتظاهرا طلبا للمفخرة عند الناس؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد! وهكذا تتحدد "الأخلاق".. أخلاق الإيمان. وأخلاق الكفر.. فالباعث على العمل الطيب، والخلق الطيب، هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والتطلع إلى رضاء الله.. وجزاء الآخرة. فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبة جزاء من الناس، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس! فاذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه. وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء.. اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس. وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة، فضلا عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل. وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء، والبخل والتبخيل، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص! والتعبير القرآني يقول: إن الله "لا يحب هؤلاء.. والله -سبحانه- لا ينفعل انفعال الكره والحب. إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء: "وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا".. والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله -إلى جوار المعنى المقصود- وهي ظلال مقصودة؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات، ولهذه التصرفات؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز. وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم:"ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا! "وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة.. وهي صفات تنطبق على اليهود، كما تنطبق على المنافقين.. وكلاهما كان موجودا في المجتمع المسلم في ذلك الحين.. وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين، وعن رسوله الأمين.. ولكن النص عام، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة. فأولى أن نترك مفهومه عاما. لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس} على {الذين يبخلون}: لأنّهم أنفقوا إنفاقاً لا تحصل به فائدة الإنفاق غالباً، لأنّ من ينفق ماله رئاء لا يتوخّى به مواقع الحاجة، فقد يعطي الغنيّ ويمنع الفقير، وأريد بهم هنا المنفقون من المنافقين المشركين، ولذلك وصفوا بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وقيل: أريد بهم المشركون من أهل مكة، وهو بعيد، لأنّ أهل مكة قد انقطع الجدال معهم بعد الهجرة.
وجملة: {ومن يكن الشيطان له قرينا} معترضة.
وقوله: {فساء قريناً} جواب الشرط. والضمير المُستتر في (ساء) إن كان عائداً إلى الشيطان ف (ساءَ) بمعنى بئس، والضمير فاعلها، و {قرينا} تمييز للضمير، مثل قوله تعالى: {ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا} [الأعراف: 177]، أي: فساء قرينا له، ليحصل الربط بين الشرط وجوابه، ويجوز أن تبقى (ساء) على أصلها ضَدّ حَسُن، وترفع ضميرا عائداً على (مَن) ويكون (قريناً) تمييز نسبة، كقولهم: « ساءَ سمعاً فَسَاء جَابَةً» أي فساءَ من كان الشيطان قرينَهُ من جهة القَرين، والمقصود على كلا الاحتمالين سوء حال من كان الشيطان له قريناً بإثبات سوء قرينه؛ إذ المرء يعرف بقرينه، كما قال عديّ بن زيد:
فَكُلّ قرينٍ بالمُقَارن يَقْتَدي
وقوله: {وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر} عطف على الجملتين، وضمير الجمع عائد إلى الفريقين، والمقصود استنزال طائرهم، وإقامة الحجّة عليهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا}: الشيطان هنا كل ما يحرض على الشر من وسوسة نفس، وصاحب مفسد، ومن تسلط على عباد الله تعالى لإغوائهم، وفي النص القرآني إيجاز بالحذف معجز، إذ المعنى: وقد دفع هؤلاء إلى الرياء في إنفاقهم وإلى البخل والكتمان قرناء السوء من شياطين الإنس والجن، والقرين هو الصاحب الملازم الذي يخلط نفسك بنفسه، ويقرنها بها حتى تصيرا كأنهما شيء واحد، ومعنى قوله: {ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا} من يكن الشيطان صاحبا ملازما له قد اختلط به ومازج نفسه، فما أسوأه من قرين محرض على الشر يدفع إليه بصحبته، وملازمته وإغوائه، والعدوى التي تسري إليه. وفي النص إشارة إلى أن قرناء السوء يفسدون الأخلاق، لأن عدوى الأخلاق تصل بالمجاورة كما تصل عدوى الأمراض...