{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ } أي : كيف تعجبون من حالة لا ينبغي العجب منها ، وهو أن جاءكم التذكير والموعظة والنصيحة ، على يد رجل منكم ، تعرفون حقيقته وصدقه وحاله ؟ " فهذه الحال من عناية اللّه بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر ، وقوله : { لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : لينذركم العذاب الأليم ، وتفعلوا الأسباب المنجية من استعمال تقوى اللّه ظاهرا وباطنا ، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة اللّه الواسعة .
وبعد أن وصف نوح نفسه بتلك الصفات الأربع ، وبين لهم وظيفته أكمل بيان أخذ ينكر عليهم استبعادهم أن يخصه الله بالنبوة فقال :
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } الهمزة في أول الجملة للاستفهام الإنكارى ، والواو بعدها للعطف على محذوف مقدر بعد الهمزة .
والمعنى : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر أى موعظة من ربكم وخالقكم على لسان رجل من جنسكم ، تعرفون مولده ونشأته .
ولقد حكى القرآن عن قوم نوح أنهم عجبوا من أن يختار الله رسولا منهم ، قال - تعالى - :
{ فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } .
وقوله : { لِيُنذِرَكُمْ } علة للمجىء ، أى : وليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصى .
وقوله : { وَلِتَتَّقُواْ } علة ثانية مرتبة على العلة التي قبلها ، أى : ولتوجد منكم التقوى ، وهى الخشية من الله بسبب الإنذار .
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } علة ثالثة مترتبة على التي قبلها . أى : ولترحموا بسبب التقوى إن وجدت منكم .
قال بعض العلماء : وهذا الترتيب في غاية الحسن ، لأن المقصود من الإرسال الإنذار ، ومن الإنذار التقوى . ومن التقوى الفوز بالرحمة .
وفائدة حرف الترجى { وَلَعَلَّكُمْ } التنبيه على عزة المطلب ، وأن التقوى غير موجبة للرحمة ، بل هى منوطة بفضل الله ، وأن المتقى ينبغى ألا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله " .
وإلى هنا نكون قد عرفنا أسلوب نوح في دعوته كما جاء في هذه السورة الكريمة ، فماذا كان موقف قومه ؟
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
ونلمح هنا فجوة في السياق . . فكأنما عجبوا أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم ، يحمله رسالة إلى قومه ، وأن يجد هذا الرسول في نفسه علماً عن ربه لا يجده الآخرون ، الذين لم يختاروا هذا الاختيار . . هذه الفجوة في السياق يدل عليها ما بعدها :
( أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون ؟ . . )
وما من عجب في هذا الاختيار . فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب . . إنه يتعامل مع العوالم كلها ، ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه . . فإذا اختار الله من بينه رسوله - والله أعلم حيث يجعل رسالته - فإنما يتلقى هذا المختار عنه ، بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به والتلقي عنه ، بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان ، والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين .
ويكشف لهم نوح عن هدف الرسالة :
( لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون ) . .
فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى ، ليظفروا في النهاية برحمة الله . . ولا شيء وراء ذلك لنوح ، ولا مصلحة ، ولا هدف ، إلا هذا الهدف السامي النبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رّبّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتّقُواْ وَلَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
وهذا أيضا خبر من الله عزّ ذكره عن قيل نوح لقومه أنه قال لهم إذْ ردّوا عليه النصيحة في الله ، وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيّا ، وقالوا له : ما نَرَاكَ إلاّ بَشَرا مِثْلَنا وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بادِيَ الرأيِ وَما نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كاذبِينَ : أوَ عَجِبْتُمْ أنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول : أو عجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعظة ، يذكركم بما أنزل ربكم على رجل منكم . قيل : معنى قوله : على رَجُلٍ منْكُمْ مع رجل منكم لِيُنْذِرَكُمْ يقول : لينذركم بأس الله ، ويخوّفكم عقابه على كفركم به . وَلِتَتّقُوا يقول : وكي تتقوا عقاب الله وبأسه ، بتوحيده وإخلاص الإيمان به والعمل بطاعته . ولَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول : وليرحمكم ربكم إن اتّقيتم الله وخفتموه وحذّرتم بأسه . وفُتحت الواو من قوله : أوَ عَجِبْتُمْ لأنها واو عطف دخلت عليها ألف استفهام .
هذه ألف استفهام دخلت على الواو العاطفة ، والاستفهام هنا بمعنى التقرير والتوبيخ ، وعجبهم الذي وقع إنما كان على جهة الاستبعاد والاستمحال ، هذا هو الظاهر من قصتهم ، وقوله : { على } قيل هي بمعنى مع ، وقيل على حذف مضاف تقدره على لسان رجل منكم .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون المجيء بنفسه في هذا الموضع يصل ب { على } إذ كل ما يأتي من الله تعالى فله حكم النزول فكأنه { جاءكم } معناه نزل فحسن معه أن يقال { على رجل } واللام في { لينذركم } لام كي . وقوله { ولعلكم } ترجّ بحسب حال نوح ومعتقده لأن هذا الخبر إنما هو من تلقاء نوح عليه السلام .
قولهّ : { أو عجبتم } بمنزلة المنع لقضية قولهم : { إنا لَنَراك في ضلالٍ مبين } [ الأعراف : 60 ] لأنّ قولهم ذلك بمنزلة مقدمةِ دليل على بطلان ما يدعوهم إليه .
وحقيقة العَجَب أنّه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شيء غير مألوفٍ ، وقد يكون العجب مشوباً بإنكار الشّيء المتعجب منه واستبعاده واحالته ، كما في قوله تعالى : { بل عَجِبُوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً ذلك رَجْع بعيد } [ ق : 2 ، 3 ] وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى : { وإنْ تَعْجَب فَعَجَبٌ قولهم أإذا كنا تراباً إنَّا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربّهم } [ الرعد : 5 ] والذي في هذه الآية كناية عن الإنكار كما في قوله تعالى : { قالوا أتَعْجَبين من أمر الله } [ هود : 73 ] أنكروا عليها أنّها عدت ولادتها ولَدا ، وهي عَجوز ، مُحالاً .
وتنكير { ذِكْرٌ } و { رَجُلٍ } للنّوعية إذ لا خصوصية لذِكْر دون ذِكْر ولا لِرَجُل دون رَجل ، فإنّ النّاس سواء ، والذّكْر سواء في قبوله لمن وفقه الله ورده لمن حُرم التّوفيقَ ، أي هذا الحدث الذي عظمتموه وضجِجتم له ما هو إلاّ ذِكْر من ربّكم على رَجُل منكم . ووصْفُ { رجل } بأنّه منهم ، أي من جنسهم البشري فضحٌ لشبهتهم ، ومع ما في هذا الكلام من فضح شبهتهم فيه أيضاً ردّ لها بأنّهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استِبْعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان ، إذ الشأن أن ينظروا في الذّكر الذي جاءهم من ربّهم وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به ، وأن يعلموا أن كونَ المُذَكِّر رجلاً منهم أقربُ إلى التّعقّل من كون مُذكِّرِهم من جنس آخر من مَلَك أو جِنِّي ، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم والاستدلال لصدق دعوى المجادل ، وهو يتنزّل منزلة سَنَد المنع في علم الجدل .
ومعنى ( على ) من قوله { على رجل منكم } يشعر بأنّ { جاءكم } ضُمّن معنى نَزل : أي نزل ذكر من ربّكم على رجل منكم ، وهذا مختار ابن عطيّة ، وعن الفرّاء أنّ ( على ) بمعنى مع .
والمجرور في قوله : { لينذركم } ظرف مستقر في موضع الحال من رجل ، أو هو ظرف لَغو متعلّق بقوله : { جاءكم } وهو زيادة في تشويه خَطَئهم إذ جعلوا ذلك ضلالاً مبيناً ، وإنّما هو هدى واضح لفائدتكم بتحذيركم من العقوبة ، وإرشادكم إلى تقوى الله ، وتقريبكم من رحمته .
وقد رُتّبت الجمل على ترتيب حصول مضمونها في الوجود ، فإنّ الإنذار مقدّم لأنّه حَمْلٌ على الإقلاع عمّا هم عليه من الشّرك أو الوثنية ، ثمّ يحصل بعده العمل الصّالح فتُرجى منه الرّحمة .
والإنذار تقدّم عند قوله تعالى : { إنَّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونَذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) .
والتّقوى تقدّم عند قوله تعالى : { هدى للمتّقين } في أوّل سورة البقرة ( 2 ) .
ومعنى ( لعلّ ) تقدّم في قوله تعالى : { لعلّكم تتّقون } في سورة البقرة ( 21 ) .
والرّحمة تقدّمت عند قوله تعالى : { الرحمن الرّحيم } في سورة الفاتحة ( 3 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم قط عذبوا، وقد سمعت الأمم بعدهم بنزول العذاب على قوم نوح، ألا ترى أن هودا قال لقومه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} (الأعراف: 69)، وقال صالح لقومه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد} هلاك {عاد} (الأعراف: 74)، وحذر شعيب قومه، فقال: {أن يصيبكم} من العذاب {مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد} (هود: 89) فمن ثم قال نوح لقومه: أعلم ما لا تعلمون.
فقال بعضهم لبعض، الكبراء للضعفاء: ما هذا إلا بشر مثلكم، أفتتبعونه؟ فرد عليهم نوح: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم}، يعني بيان من ربكم، {على رجل منكم}، يعني نفسه، {لينذركم} العذاب في الدنيا، {ولتتقوا} الشرك وتوحدوا ربكم، {ولعلكم}، يعني لكي {ترحمون}، فلا تعذبوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا أيضا خبر من الله عزّ ذكره عن قيل نوح لقومه أنه قال لهم إذْ ردّوا عليه النصيحة في الله، وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيّا، وقالوا له:"ما نَرَاكَ إلاّ بَشَرا مِثْلَنا وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بادِيَ الرأيِ وَما نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كاذبِينَ": أوَ عَجِبْتُمْ أنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول: أو عجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعظة، يذكركم بما أنزل ربكم على رجل منكم. قيل: معنى قوله: "على رَجُلٍ منْكُمْ "مع رجل منكم "لِيُنْذِرَكُمْ "يقول: لينذركم بأس الله، ويخوّفكم عقابه على كفركم به. "وَلِتَتّقُوا" يقول: وكي تتقوا عقاب الله وبأسه، بتوحيده وإخلاص الإيمان به والعمل بطاعته. "ولَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ" يقول: وليرحمكم ربكم إن اتّقيتم الله وخفتموه وحذّرتم بأسه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم} أي أتعجبون بما جاءكم ذكر من الله على يدي {رجل منكم} ما لا أقدر أنا، ولا تقدرون أنتم على مثله؟ كانوا يعجبون، وينكرون أن يكون رسل الله من البشر بقولهم: {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة} [المؤمنون: 24] ونحو ذلك. هكذا كانوا ينكرون رسالة البشر، وما ينبغي لهم أن ينكروا ذلك لأنهم قد كانوا رأوا تفضيل بعض البشر على بعض [وتفضيلهم في] وضع الرسالة فيهم؛ أعني [تفضيلهم في الرسالة]؛ وذلك قد رأوا في ما بينهم. ولله تفضيل بعضهم على بعض؛ إذ له الخلق، ولكل ذي ملك وسلطان أن يصنع في ملكه ما شاء من تفضيل بعض على بعض وغيره. أو يقول: قد عجبتم {أن جاءكم ذكر من ربكم على} يدي {رجل منكم} ولو كان جاء الذكر على من هو من غير جوهركم كان في ذلك لبس واشتباه عليكم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في هذه الآية تقريع من نوح (عليه السلام) لقومه على صورة الاستفهام بأنهم عجبوا أن جاءهم ذكر من ربهم. وإنما دخل الاستفهام معنى التقريع، لأن المجيب لا يأتي إلا بما يسوء من القبيح، فهو إنكار وتقريع...
والتعجب: تغير النفس بما خفي سببه وخرج عن العادة مثله، لأنه لا مثل له في العادة. والذكر: حضور المعنى للنفس، والذكر على وجهين: ذكر البيان وذكر البرهان، فذكر البيان إحضار المعنى للنفس، وذكر البرهان الشهادة بالمعنى في النفس، وكلا الوجهين يحتمل في الآية...
وقيل في دخول (على) في قوله "على رجل منكم "قولان:... الثاني -لان فيه معنى منزل "على رجل منكم"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عجبوا مِنْ كوْنِ شخص رسولَ اللهِ، ولم يتعجبوا من كون الصنمِ شريكاً لله، هذا فَرْطُ الجهالة وغاية الغباء!...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {ولعلكم} ترجّ بحسب حال نوح ومعتقده لأن هذا الخبر إنما هو من تلقاء نوح عليه السلام...
بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول، فقال: {لينذركم} وما لأجله ينذر، فقال: {ولتتقوا} وما لأجله يتقون، فقال: {ولعلكم ترحمون} وهذا الترتيب في غاية الحسن، فإن المقصود من البعثة الإنذار، والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وقد علم من قوله:"على رجل منكم" أن شبهتهم على الرسالة هي كون الرسول بشرا منكم كأن الاشتراك في البشرية وصفاتها العامة يقتضي التساوي في الخصائص والمزايا ويمنع الانفراد بشيء منها، وهذا باطل بالاختبار والمشاهدة في الغرائز والقوى العقلية والعضلية، وفي المعارف والأعمال الكسبية، فالتفاوت بين أفراد البشر عظيم جدا لا يشبههم فيه نوع آخر من أنواع المخلوقات في عالم الشهادة، ولو فرضنا التساوي بينهم في ذلك فهل يمنع أن يختص الخالق الحكيم من شاء منهم بما هو فوق المعهود في الغرائز والمكتسب بالتعلم؟ كلا إنه تعالى قادر على ذلك وقد اقتضته حكمته ومشيئته، ونفذت به قدرته، وقد تقدم رد هذه الشبهة في أوائل سورة الأنعام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما من عجب في هذا الاختيار. فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب.. إنه يتعامل مع العوالم كلها، ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه.. فإذا اختار الله من بينه رسوله -والله أعلم حيث يجعل رسالته- فإنما يتلقى هذا المختار عنه، بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به والتلقي عنه، بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان، والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين. ويكشف لهم نوح عن هدف الرسالة: (لينذركم، ولتتقوا، ولعلكم ترحمون).. فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى، ليظفروا في النهاية برحمة الله.. ولا شيء وراء ذلك لنوح، ولا مصلحة، ولا هدف، إلا هذا الهدف السامي النبيل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{أو عجبتم} بمنزلة المنع لقضية قولهم: {إنا لَنَراك في ضلالٍ مبين} [الأعراف: 60] لأنّ قولهم ذلك بمنزلة مقدمةِ دليل على بطلان ما يدعوهم إليه. وحقيقة العَجَب أنّه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شيء غير مألوفٍ، وقد يكون العجب مشوباً بإنكار الشّيء المتعجب منه واستبعاده واحالته، والذي في هذه الآية كناية عن الإنكار... وتنكير {ذِكْرٌ} و {رَجُلٍ} للنّوعية إذ لا خصوصية لذِكْر دون ذِكْر ولا لِرَجُل دون رَجل، فإنّ النّاس سواء، والذّكْر سواء في قبوله لمن وفقه الله ورده لمن حُرم التّوفيقَ، أي هذا الحدث الذي عظمتموه وضجِجتم له ما هو إلاّ ذِكْر من ربّكم على رَجُل منكم. ووصْفُ {رجل} بأنّه منهم، أي من جنسهم البشري فضحٌ لشبهتهم، ومع ما في هذا الكلام من فضح شبهتهم فيه أيضاً ردّ لها بأنّهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استِبْعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان، إذ الشأن أن ينظروا في الذّكر الذي جاءهم من ربّهم وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به، وأن يعلموا أن كونَ المُذَكِّر رجلاً منهم أقربُ إلى التّعقّل من كون مُذكِّرِهم من جنس آخر من مَلَك أو جِنِّي، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم والاستدلال لصدق دعوى المجادل... وقد رُتّبت الجمل على ترتيب حصول مضمونها في الوجود، فإنّ الإنذار مقدّم لأنّه حَمْلٌ على الإقلاع عمّا هم عليه من الشّرك أو الوثنية، ثمّ يحصل بعده العمل الصّالح فتُرجى منه الرّحمة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولقد أدرك أنه يجوز أن يكونوا في استغراب، وهو يريد هدايتهم، فيريد أن يزيل غرابتهم، فقال متقربا متحببا مخاطبا وجدانهم مزيلا استغرابهم:
{أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63)}.
الواو هنا عاطفة على ما بعدها على ما قبلها، فهي عاطفة كلام نوح – عليه السلام – الأخير على ما قبله، ولكنها أخرت في الذكر عن الهمزة، وهو بهذا ينبههم إلى ما يزيل عجبهم واستغرابهم، فهو استفهام في معنى النفي، أي لا يصح أن تعجبوا من ذلك فإن الله لا ينزل، ويكلم الناس، ولا ينزل الملائكة، {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)} (النعام) ولقد أزال عجبهم، وأمرهم بألا يعجبوا.
وموضع العجب الواهم هو {أن جاءكم ذكر من ربكم} (أن) تذكير بالحقيقة المستكنة في قلوبهم التي يطمسونها طمسا، حتى لا يذكروا، {على رجل منكم}، أي على لسان رجل منهم، أو أن (على) بمعنى (مع) أي: مع رجل منهم، وكذلك قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: {أبعث الله بشرا رسولا (94)} (الإسراء) {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. (7)} (الفرقان)، وقد بين الله الغاية من الرسالة التي جاء بها نوح – عليه السلام – وهي غاية الرسل أجمعين فقال: {لينذركم} بهذا الذكر الذي يثير العلم الذي تطمسونه فيذكركم به منذرا من عذاب، ومبشرا بثواب {ولتتقوا} ولتعملوا على أن تتخذوا من عملكم وقاية لكم من العذاب، {ولعلكم ترحمون}، أي ولترجوا أن يرحمكم الله باتباع ما امركم به من توحيد، وإصلاح، فإن ذلك هو الرحمة الحقيقية بكم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي الآية اللاحقة نقرأ لنوح كلاماً آخر قاله في مقابل استغراب قومه من أنّه كيف يمكن لبشر أن يكون حاملا لمسؤولية إبلاغ الرسالة الإلهية، إذ قال: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربّكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا ولعلكم ترحمون).
يعني: أيّ شيء في هذه القضية يدعو إلى الاستغراب والتعجب، لأنّ الإنسان الصالح هو الذي يمكنه أن يقوم بهذه الرسالة أحسن من أي كائن آخر. هذا مضافاً إلى أنّ الإنسان هو القادر على قيادة البشر، لا الملائكة ولا غيرهم.