معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

قوله تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين }

اختلفوا في هذا الدخان : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن كثير ، عن سفيان ، حدثنا منصور والأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : " بينما رجل يحدث في كندة ، فقال : يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام ، ففزعنا فأتيت ابن مسعود وكان متكئاً فغضب فجلس ، فقال : من علم فليقل ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : لا أعلم ، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } ( ص-86 ) ، وإن قريشاً أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال :اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم ، فقرأ : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } إلى قوله : { إنكم عائدون } أفيكشف عنهم عذاب الآخرة إذا جاء ؟ ثم عادوا إلى كفرهم ، فذلك قوله : { يوم نبطش البطشة الكبرى } يعني يوم بدر و لزاماً يوم بدر ، { الم * غلبت الروم } إلى { سيغلبون } ( الروم 2-3 ) ، والروم قد مضى ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى عن وكيع عن الأعمش ، قال : قالوا : { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } فقيل له : إن كشفنا عنهم عادوا إلى كفرهم ، فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر ، فذلك قوله : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } إلى قوله : { إنا منتقمون } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : " خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان . وقال قوم : هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد ، فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار " ، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عقيل بن محمد الجرجاني ، حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي ، حدثنا محمد بن جرير الطبري ، حدثني عصام بن رواد بن الجراح ، حدثنا أبي ، أنبأنا أبو سفيان بن سعيد ، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول الآيات الدخان ، ونزول عيسى بن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين ، تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا ، قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا هذه الآية : { يوم تأتي السماء بدخان مبين } يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام ، وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

{ فَارْتَقِبْ } أي : انتظر فيهم العذاب فإنه قد قرب وآن أوانه ، { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

والفاء فى قوله - تعالى - : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ولتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالصبر حتى يحكم الله بينه وبينهم .

والارتقاب : الانتظار ، وأكثر ما يستعمل الارتقاب فى الأمر المكروه والمراد باليوم مطلق الوقت ، وهو مفعول به لارتقب .

قال الآلوسى ما ملخصه : " والمراد السماء جهة العلو ، وإسناد الإِتيان بذلك إليها من قبيل الإِسناد إلى السبب ، لأنه يحصل بعدم إمطارها . . " .

أى : فارتقب يوم تأتى السماء بجدب ومجاعة ، فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، وهى ظلمة تعرض للبصر لضعفه . . وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز ، من باب ذكر المسبب وإرادة السبب . . وبعض العرب يسمى الشر الغالب دخانا ، ووجه ذلك أن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه ، وأريد به هنا الجدب ، ومعناه الحقيقى معروف .

وللمفسرين فى معنى هذه الآية إتجاهات أولها : ما ورد فى الحديث الصحيح من " أن مشركى مكة ، لما أصروا على كفرهم على إعراضهم عن الحق ، دعا عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف . . " فأصابهم القحط والبلاء والجوع . .

وكنى عن ذلك بالدخان ، لأن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان ، فيقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان . .

والسبب فيه أن الإِنسان إذا اشتد ضعفه ، أظلمت عيناه ، فيرى الدنيا كالمملوءة بالدخان .

روى البخارى وغيره عن ابن مسعود قال : " إن قريشا لما أبطأت عن الإِسلام ، واستعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسنى يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى اكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان . .

فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله : { إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } " .

قال ابن كثير : " وهذا الحديث مخرج فى الصحيحين ، ورواه الإِمام أحمد فى مسنده ، وهو عند الترمذى والنسائى فى تفسيرهما ، وعن ابن جرير وابن أبى حاتم من طرق متعددة " .

وعلى هذا الرأى يكون الدخان قد وقع فعلا ، بمعنى أن المشركين قد أصابهم بلاء شديد فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - . ثم كشف الله عنهم ما كشف ببركة دعاء النبى - صلى الله عليه وسلم - .

أما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه ، أن المراد بالدخان ، ما يكون قبل يوم القيامة من دخان يسبق ذلك ، كعلامة من علامات البعث والنشور .

واستدل أصحاب هذا الاتجاه ، بأحاديث ذكرها المفسرون .

قال ابن كثير : " وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسدي الغفارى . قال : أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفته ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجووج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال وثلاثة خسوف : خسوف بالمشرق وخسوب بالمغرب ، وخسوف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبينت معهم حيث باتوا ، وتقيل حيث قالوا .

ثم ساق ابن كثير بعد ذلك أحاديث أخرى ، وقال فى نهايتها : والظاهر أن ذلك يوم القيامة .

ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى سياق الآيات التى ذكرها الله - تعالى - فى هذه السورة ، ولا يتعارض ذلك مع كون ظهور الدخان علامة من علامات قرب يوم القيامة ، كما جاء فى حديث حذيفة بن أسيد الغفارى ، الذى ذكره ابن كثير - رحمه - الله - وقال فى شأنه : تفرد بإخراجه مسلم فى صحيحه .

ومن المفسرين الذين رجحوا الاتجاه الأول الإِمام الطبرى ، فقد قال بعد أن ساق هذين القولين : وأولى القولين بالصواب فى ذلك قول ابن مسعود ، من أن الدخان الذى أمر الله - تعالى - نبيه ان يرتقبه ، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم .

وإنما قلت القول الذى قاله ابن مسعد - رضى الله عنه - هو أولى تأويل الآية ، لأن الله - تعالى - توعد بالدخان مشركى قريش . . ولأن الأخبار قد تظاهرة بأن ذلك كائن .

والمعنى : فانتظر يا محمد لمشركى قومك ، يوم تأتيهم السماء من البلاء الذى يحل بهم ، بمثل الدخان المبين .

ومنهم - أيضا - الإِمام الآلوسى ، فقد قال - رحمه الله - : هذا والأظهر حمل الدخان على ما روى عنا بن مسعود ، لأن أنسب بالسياق ، لما أنه فى كفار قريش ، وبيان سو حالهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس . هذا عذاب أليم ) . .

وقد اختلف السلف في تفسير آية الدخان . فقال بعضهم . إنه دخان يوم القيامة ، وإن التهديد بارتقابه كالتهديد المتكرر في القرآن . وإنه آت يترقبونه ويترقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : بل هو قد وقع فعلاً ، كما توعدهم به . ثم كشف عن المشركين بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فنذكر هنا ملخص القولين وأسانيدهما . ثم نعقب بما فتح الله به ، ونحسبه صواباً إن شاء الله .

قال سليمان بن مهران الأعمش ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن مسروق . قال : دخلنا المسجد - يعني مسجد الكوفة - عند أبواب كندة . فإذا رجل يقص على أصحابه : ( يوم تأتي السماء بدخان مبين ) . . تدرون ماذا الدخان ? ذلك دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام . قال : فأتينا ابن مسعود - رضي الله عنه - فذكرنا ذلك له ، وكان مضطجعاً ففزع فقعد ، وقال : إن الله عز وجل قال لنبيكم [ صلى الله عليه وسلم ] : ( قل : ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) . إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم . أحدثكم عن ذلك . إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دعا عليهم بسنين كسني يوسف . فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ؛ وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان - وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد - قال الله تعالى : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ) . . فأتي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقيل له : يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت . فاستسقى [ صلى الله عليه وسلم ] لهم فسقوا . فنزلت . ( إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون ) . . قال ابن مسعود رضي الله عنه : أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة ? . . فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عز وجل : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) . . قال : يعني يوم بدر . قال ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد مضى خمسة : الدخان ، والروم والقمر ، والبطشة ، واللزام " . . [ وهذا الحديث مخرج في الصحيحين . ورواه الإمام أحمد في مسنده . وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما . وعند ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به ] . وقد وافق ابن مسعود - رضي الله عنه - على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي . وهو اختيار ابن جرير .

وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما ورد في حديث أبي سريحة حذيفة ابن أسيد الغفاري - رضي الله عنه - قال : أشرف علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من عرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات " طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر - الناس - تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " . . [ تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه ] .

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن ربكم أنذركم ثلاثاً الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال " . [ ورواه الطبراني عن هاشم بن زيد ، عن محمد بن إسماعيل بن عياش بهذا النص ؛ وقال ابن كثير في التفسير : وهذا إسناد جيد ] .

وقال ابن جرير كذلك : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن عبدالله بن أبي مليكة . قال : غدوت على ابن عباس - رضي الله عنهما - ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت . قلت : لم ? قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت . . وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن عبد الله ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما فذكره .

قال ابن كثير في التفسير : " وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - حبر الأمة وترجمان القرآن . وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها ، مما فيه مقتنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ، مع أنه ظاهر القرآن . قال الله تبارك وتعالى : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) . . أي بيّن واضح يراه كل أحد . وعلى ما فسر به ابن مسعود - رضي الله عنه - إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّمَآءُ بِدُخَانٍ مّبِينٍ * يَغْشَى النّاسَ هََذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رّبّنَا اكْشِفْ عَنّا الْعَذَابَ إِنّا مْؤْمِنُونَ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : فارْتَقِبْ فانتظر يا محمد بهؤلاء المشركين من قومك الذين هم في شكّ يلعبون ، وإنما هو افتعل ، من رقبته : إذا انتظرته وحرسته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فارْتَقِبْ : أي فانتظر .

وقوله : يَوْمَ تَأْتِي السمّاءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ اختلف أهل التأويل في هذا الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه ، وأخبره أن السماء تأتي فيه بدخان مبين : أي يوم هو ، ومتى هو ؟ وفي معنى الدخان الذي ذُكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم : ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش ربه تبارك وتعالى أن يأخذهم بسنين كسني يوسف ، فأخذوا بالمجاعة ، قالوا : وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذٍ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان . ذكر من قال ذلك :

حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : دخلنا المسجد ، فإذا رجل يقص على أصحابه . ويقول : يَوْمَ تأْتِي السّماءُ بِدُخان مُبِينٍ تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ أسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام ؟ قال : فأتينا ابن مسعود ، فذكرنا ذلك له وكان مضطجعا ، ففزع ، فقعد فقال : إن الله عزّ وجلّ قال لنبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ ما أسألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ وَما أنا مِنَ المُتَكَلّفِينَ إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم ، سأحدثكم عن ذلك ، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يَوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ، قال الله تبارك وتعالى : يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى الناسَ هَذَا عَذَابٌ ألِيمٌ فَقالُوا : رَبّنا اكْشِفْ عَنا العَذَابَ إنّا مُؤْمِنُونَ قال الله جلّ ثناؤه : إنّا كاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إنّكُمْ عائِدُونَ يَوْم نَبْطِش البَطْشَةَ الكُبْرَى إنّا مُنْتَقِمُونَ قال : فعادوا يوم بدر فانتقم الله منهم .

حدثني عبد الله بن محمد الزهريّ ، قال : حدثنا مالك بن سُعَير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : كان في المسجد رجل يذكر الناس ، فذكر نحو حديث عيسى ، عن يحيى بن عيسى ، إلا أنه قال : فانتقم يوم بدر ، فهي البطشة الكبرى .

حدثنا ابن حميد ، وعمرو بن عبد الحميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا ، فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن : إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام ، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان ، فقال : يا أيها الناس اتقوا الله ، فمن علم شيئا فليقل بما يعلم ، ومن لا يعلم فليقل : الله أعلم . وقال عمرو : فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم ، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم : لا أعلم ، فإن الله عزّ وجلّ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ ما أسألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْر وَما أنا مِنَ المُتَكَلّفِينَ إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا ، قال : «اللهمّ سبعا كسبع يوسف » ، فأخذتهم سنة حصّت كل شيء ، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف ، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا من الجوع ، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال : يا محمد إنك جئت تأمر بالطاعة وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم ، قال الله عزّ وجلّ : فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ . . . إلى قوله : إنّكُمْ عائِدُونَ قال : فكُشف عنهم يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنّا مُنْتَقِمُونَ فالبطشة يوم بدر ، وقد مضت آية الروم وآية الدخان ، والبطشة واللزام .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، قال : شهدت جنازة فيها زيد بن عليّ فأنشأ يحدّث يومئذٍ ، فقال : إن الدخان يجيء قبل يوم القيامة ، فيأخذ بأنف المؤمن الزكام ، ويأخذ بمسامع الكافر ، قال : قلت رحمك الله ، إن صاحبنا عبد الله قد قال غير هذا ، قال : إن الدخان قد مضى وقرأ هذه الاَية فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِين يَغْشَى النّاسَ هَذَا عَذَابٌ ألِيمٌ قال : أصاب الناس جهد حتى جعل الرجل يرى ما بينه وبين السماء دخانا ، فذلك قوله : فارْتَقِبْ وكذا قرأ عبد الله إلى قوله : مُؤْمِنُونَ قالَ : إنّا كاشِفُوا العَذابِ قَلِيلاً قلت لزيد فعادوا ، فأعاد الله عليهم بدرا ، فذلك قوله : وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا فذلك يوم بدر ، قال : فقبل والله ، قال عاصم : فقال رجل يردّ عليه ، فقال زيد رحمة الله عليه : أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : «إنّكُمْ سَيَجِيئُكُمْ رُوَاةٌ ، فَمَا وَافَقَ القُرآنَ فَخُذُوا بِهِ ، وَما كانَ غيرَ ذلكَ فَدَعُوهُ » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود أنه قال : البطشة الكبرى يوم بدر ، وقد مضى الدخان .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، قال : سمعت أبا العالية يقول : إن الدخان قد مضى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عمرو ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : مضى الدخان لسنين أصابتهم .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد ، قال : نُبئت أن ابن مسعود كان يقول : قد مضى الدخان ، كان سنين كسني يوسف .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِين قال : الجدب وإمساك المطر عن كفار قريش ، إلى قوله : إنّا مُؤْمِنُونَ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ قال : كان ابن مسعود يقول : قد مضى الدخان ، وكان سنين كسني يوسف يَغْشَى النّاسَ هَذَا عَذَابٌ أليمٌ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِين : قد مضى شأن الدخان .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى قال : يوم بدر .

وقال آخرون : الدخان آية من آيات الله ، مرسلة على عباده قبل مجيء الساعة ، فيدخل في أسماع أهل الكفر به ، ويعتري أهل الإيمان به كهيئة الزكام ، قالوا : ولم يأت بعد ، وهو آتٍ . ذكر من قال ذلك :

حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جميع ، عن عبد الملك بن المُغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلمان ، عن ابن عمر ، قال : يخرج الدخان ، فيأخذ المؤمن كهيئة الزكمة ، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق ، حتى يكون كالرأس الحنيذ .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، قال : غدوت على ابن عباس ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت ، قلت : لمَ ؟ قال : قالوا : طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت .

حدثنا محمد بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، قال : قال الحسن : إن الدخان قد بقي من الاَيات ، فإذا جاء الدخان نفخ الكافر حتى يخرج من كلّ سمع من مسامعه ، ويأخذ المؤمن كزكمة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عثمان ، يعني ابن الهيثم ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن بنحوه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي سعيد ، قال : يهيج الدخان بالناس . فأما المؤمن فيأخذه منه كهيئة الزكمة . وأما الكافر فيهيجه حتى يخرج من كلّ مسمع منه قال : وكان بعض أهل العلم يقول : فما مَثل الأرض يومئذٍ إلا كمَثل بيت أوقد فيه ليس فيه خصاصة .

حدثني عصام بن روّاد بن الجراح ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن ربْعِيّ بن حِرَاش ، قال : سمعت حُذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوّلْ الاَياتِ الدّجالُ ، وَنُزُولُ عِيسَى بْن مَرْيَمَ ، وَنارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدْنِ أَبَيْنَ تَسُوقُ النّاسَ إلى المَحْشَرِ تَقِيلُ مَعَهُمْ إذَا قالُوا ، والدّخان » ، قال حُذيفة : يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاَية يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِين يَغْشَى النّاسَ هَذَا عَذَابٌ ألِيمٌ «يَمْلاَ ما بَينَ المَشْرقِ والمَغْرِبِ يَمْكُثُ أرْبَعِينَ يَوْما وَلَيْلَةً أمّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبَهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزّكامِ . وأمّا الكافِرُ فَيَكُونُ بِمْنزِلَةِ السّكْرانِ يَخْرُجُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ وأُذُنَيْهِ ودُبُرِهِ » .

حدثني محمد بن عوف ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال : ثني أبي ، قال : ثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ رَبّكُمْ أنْذَرَكُمْ ثَلاثا : الدّخان يَأْخُذ المُؤْمِنَ كالزّكْمَةِ ، وَيأْخُذُ الكافِرَ فَيَنْتَفِخُ حتى يَخْرُجَ مِنْ كُلّ مَسْمَعٍ مِنْهُ ، والثّانِيَة الدّابّةُ ، والثّالِثَة الدّجّالُ » .

وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه ، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم ، على ما وصفه ابن مسعود من ذلك إن لم يكن خبر حُذيفة الذي ذكرناه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا ، وإن كان صحيحا ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما أنزل الله عليه ، وليس لأحد مع قوله الذي يصح عنه قول ، وإنما لم أشهد له بالصحة ، لأن محمد بن خلف العسقلانيّ حدثني أنه سأل روّادا عن هذا الحديث ، هل سمعه من سفيان ؟ فقال له : لا ، فقلت له : فقرأته عليه ، فقال : لا ، فقلت له : فقرىء عليه وأنت حاضر فأقرّ به ، فقال : لا ، فقلت : فمن أين جئت به ؟ قال : جاءني به قوم فعرضوه عليّ وقالوا لي : اسمعه منا فقرأوه عليّ ، ثم ذهبوا ، فحدّثوا به عني ، أو كما قال فلما ذكرت من ذلك لم أشهد له بالصحة ، وإنما قلت : القول الذي قاله عبد الله بن مسعود هو أولى بتأويل الاَية ، لأن الله جلّ ثناؤه توعّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله : لا إلَهَ إلاّ هُوَ يُحْي ويُمِيتُ ربّكُمْ وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلِينَ ، بَلْ هُمْ فِي شَكّ يَلْعَبُونَ ، ثم أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام : فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِين أمرا منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون آخره عنهم لغيرهم ، وبعد ، فإنه غير منكر أن يكون أحلّ بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم ، ويكون مُحِلاً فيما يستأنف بعد بآخرين دخانا على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا كذلك ، لأن الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تظاهرت بأن ذلك كائن ، فإنه قد كان ما رَوَى عنه عبد الله بن مسعود ، فكلا الخبرين اللذين رُويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح .

وإن كان تأويل الاَية في هذا الموضع ما قلنا ، فإذ كان الذي قلنا في ذلك أولى التأويلين ، فبين أن معناه : فانتظر يا محمد لمشركي قومك يوم تأتيهم السماء من البلاء الذي يحل بهم على كفرهم بمثل الدخان المبين لمن تأمله أنه دخان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

واختلف الناس في الدخان الذي أمر الله تعالى بارتقابه ، فقالت فرقة منها علي بن أبي طالب وزيد بن علي وابن عمر وابن عباس والحسن بن أبي الحسن وأبو سعيد الخدري : هو دخان يجيء قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين حتى تكون كأنها مصلية حنيذة{[10223]} . وقالت فرقة منها عبد الله بن مسعود وأبو العالية وإبراهيم النخعي : هو الدخان الذي رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف ، فكان الرجل يرى من الجدب والجوع دخاناً بينه وبين السماء ، وما يأتي من الآيات يقوي هذا التأويل . وقال ابن مسعود : خمس قد مضين ، الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم وذكر الطبري حديثاً عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن أول آيات الساعة الدخان ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن »{[10224]} وضعف الطبري سند هذا الحديث ، واختار قول ابن مسعود رضي الله عنه في الدخان قال : ويحتمل إن صح حديث حذيفة أن يكون قد مر دخان ويأتي دخان .


[10223]:المصلية: المشوية في النار، والحنيذ: المشوي الذي يسيل منه الدهن، وفي التنزيل العزيز:{فما لبث أن جاء بعجل حنيذ}.
[10224]:الحديث في تفسير الطبري، وقد رواه عصام بن رواد، عن أبيه، عن سفيان الثوري، ولفظه أطول مما ذكر ابن عطية هنا، وقد ذكر الطبري أنه لم يشهد للحديث بالصحة لأن روادا قال: إنه لم يسمعه من سفيان، ولم يقرأه عليه، ولم يقرأه أحد من الناس على سفيان بمسمع من رواد، وإنما حدثه به قوم وعرضوه عليه، ثم ذهبوا فحدثوا به عنده، ولهذا اختار الطبري قول ابن مسعود في الدخان، لكن القرطبي ذكر أن في صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال:(ما تذكرون)؟ قالوا: نذكر الساعة، قال:(إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات-فذكر- الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)، ونلحظ أن حذيفة الذي ذكر الطبري هو حذيفة بن اليمان، وهو غير حذيفة بن أسيد المذكور هنا، وكذلك ذكر القرطبي رواية عن حذيفة-ولم يحدد من هو- وقال: إن الثعلبي خرج هذا الحديث أيضا عن حذيفة، ثم ذكر نص الحديث الذي ذكره ابن جرير الطبري وضعفه، ومن هذا نفهم أنه حذيفة بن اليمان. ومع ذلك فإن القرطبي يقوي رأي ابن مسعود لأنه قال: إن الله تعالى قد كشف الدخان عنهم، ولو كان يوم القيامة لم يكشفه عنهم، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في صحيح البخاري، ومسلم، والترمذي، وهو ع مسروق، قال: قال عبد الله: إنما كان هذا لأن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى:{فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس هذا عذاب أليم}، قال: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، استسق لمضر فإنها قد هلكت، قال:(لمُضر! إنك لجريء)، فاستسقى فسقوا، فنزلت{إنكم عائدون}، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل:{يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}، قال: يعني يوم بدر، وقد قال الشوكاني في "فتح القدير": ولا منافاة بين كون الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدخان من آيات الساعة وعلامتها، فقد وردت أحاديث صحاح وحسان وضعاف في ذلك، وليس فيها أنه سبب نزول الآية.(راجع القرطبي، والطبري، والبخاري ومسلم، وفتح القدير).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

تفريع على جملة { بل هم في شك يلعبون } [ الدخان : 9 ] قُصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه ، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب ، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول ، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشةُ انتقام من أيمتهم تستأصلهم .

فالخطاب في { ارتقبْ } للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت . والارتقاب : افتعال من رقَبَه ، إذا انتظره ، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر . وفعل ( ارتقب ) يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلاً في نزول هذه الآية ، ويقتضي كنايةً عن اقتراب وقوعه كما يُرتقب الجائي من مكان قريب .

و { يوم } اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل ( ارتقب ) وليس ظرفاً وذلك كقوله تعالى : { يخافون يوماً } [ النور : 37 ] ، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب { يومَ } نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة .

والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه . ولأن الجملة في قوة المصدر . والتقدير : فارتقب يوم إتيان السماء بدخان . وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أياممٍ وشهور كثيرة .

والدخان : ما يتصاعد عند إيقاد الحَطب ، وهو تشبيه بليغ ، أي بمثل دخان .

والمبين : البين الظاهر ، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بَان . والمعنى : أنه ظاهر لكل أحد لا يُشك في رؤيته . وقال أبو عبيدة وابن قتيبة : الدخان في الآية هو : الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسمّيه العرب دُخَاناً وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف . وعن الأعرج : أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء ، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها . والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول ، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا ، وأنه عقاب للمشركين .