قوله تعالى : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } ، الآية نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، قال ابن عباس : لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية ، قال النضر : لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ، أي : ما هذا إلا ما سطره الأولون في كتبهم ، فقال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه : اتق الله ، فإن محمداً يقول الحق ، قال : فأنا أقول الحق ، قال عثمان : فإن محمداً يقول : لا إله إلا الله ، قال : وأنا أقول لا إله إلا الله ، ولكن هذه بنات الله ، يعني الأصنام ، ثم قال : اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك ، والحق نصب خبر كان ، وهو عماد وصلة .
قوله تعالى : { فأمطر علينا حجارةً من السماء } ، كما أمطرتها على قوم لوط .
قوله تعالى : { أو ائتنا بعذاب أليم } ، أي : ببعض ما عذبت به الأمم ، وفيه نزل : { سأل سائل بعذاب واقع } [ المعارج :1 ] . وقال عطاء : لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية ، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر . قال سعيد ابن جبير : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثةً صبراً من قريش : طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث . وروى أنس رضي الله عنه : أن الذي قاله أبو جهل لعنه الله .
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الذي يدعو إليه محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم ، والجهل بما ينبغي من الخطاب .
فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه ، قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق معه : إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم .
فمنذ قالوا : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية ، علم بمجرد قولهم أنهم السفهاء الأغبياء ، الجهلة الظالمون ، فلو عاجلهم اللّه بالعقاب لما أبقى منهم باقية ، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين أظهرهم ، فقال : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فوجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب .
وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الأشهاد ، يدرون بقبحها ، فكانوا يخافون من وقوعها فيهم ، فيستغفرون اللّه [ تعالى فلهذا ] قال تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم ، بعد ما انعقدت أسبابه .
ثم تمضى السورة في حديثها عن رذائل مشركى قريش ، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم ، وجحودهم للحق . فتقول : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . .
وقائل هذا القول : النضر بن الحارث صاحب القول السالف { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا . . . } ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير .
وأخرج البخارى عن أنس بن مالك أن قائل ذلك : أبو جهل بن هشام .
وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله ، وأن محمدا قد جاءهم بالحق . . بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا الذي جاء به محمد بن قرآن وغيره وهو الحق المنزل من عندك ، فعاقبنا على إنكاره والكفر به ، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا . أو تنزل علينا عذابا أليما يقضى علينا .
قال الجمل : قوله : { هُوَ الحق } قرأ العامة " الحق " بالنصب على أنه خبر الكون ولفظ { هُوَ } للفصل . وقرأ الأعمش وزيد بن على " الحق " بالرفع ووجوهها ظاهر برفع لفظ " هو " على الابتداء ، والحق خبره ، الجملة خبر الكون .
وفى إطلاقهم { الحق } على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجعله من عند الله ؛ تهكم بمن يقول ذلك سواء أكان هذا القائل - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو المؤمنين .
وأل فيه للعهد : أي الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله .
وقوله : { مِّنَ السمآء } متعلق بمحذوف صفة لقوله { حِجَارَةً } وفائدة هذا الوصف الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيبا لظالمين .
قال صاحب الكشاف : وهذا أسلوب من الجحود بليغ . يعن إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر . . ومرادهم نفى كونه حقا ، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقا ، مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك : إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة من السماء .
فإن قلت : ما فائدة قوله { مِّنَ السمآء } والأمطار لا تكون إلا منها ؟
قلت : كأنهم يريدون أن يقولوا : فامطر علينا السجيل وهى الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل .
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ، فقال الرجل : أجهل من قومى قومك ، فقد قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى الحق : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء . . . } ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .
ولقد كان هذا الرجل حكيما في رده على معاوية ، لأنه كان الأولى بأولئك المشركين أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه . . ولكن العناد الجامع الذي استولى عليهم جعلهم يؤثرون الهلاك على الإِذعان للحق ويفضلون عبادة الأصنام على اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده .
. وهكذا النفوس عندما تنغمس في الأحقاد وتتمادى في الجحود . وتنقاد للأهواء والشهوات ، وتأخذها للأهواء والشهوات ، وتأخذها العزة بالإِثم . ترى الباطل حقا ، والحق باطلا ، وتؤثر العذاب وهى سادرة في باطلها ، على الخضوع للحق والمنطق والصواب .
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم ؛ فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه ؛ وإذا بهم يتمنون على الله - إن كان هذا هو الحق من عنده - أن يمطر عليهم حجارة من السماء ، أو أن يأتيهم بعذاب أليم . بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه :
( وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ) . .
وهو دعاء غريب ؛ يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق ، حتى ولو كان حقاً ! . إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق ، وأن يهديها إليه ، دون أن تجد في هذا غضاضة . ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة ، تأخذها العزة بالإثم ، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب ، على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه . . وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله [ ص ] ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالُواْ اللّهُمّ إِن كَانَ هََذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . .
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد أيضا ما حلّ بمن قال : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ إذ مكرت لهم ، فأتيتهم بعذاب أليم . وكان ذلك العذاب : قتلهم بالسيف يوم بدر . وهذه الاَية أيضا ذكر أنها نزلت في النضر بن الحرث . ذكر من قال ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَإذْ قالُوا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ قال : نزلت في النضر بن الحرث .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ قال : قول النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ قول النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة من بني عبد الدار .
قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ قال : هو النضر بن الحرث بن كلدة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : قال رجل من بني عبد الدار ، يقا له النضر بن كلدة : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ فقال الله : وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ وقال : وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فرَادَى كمَا خَلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ وقال : سأَلَ سائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ للْكافِرِينَ قال عطاء : لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : فقال يعني النضر بن الحرث : اللهمّ إن كان ما يقول محمد هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ قال الله : سأَلَ سائِلٌ بعَذَابٍ وَاقِعٍ للْكافِرِينَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ . . . الاَية ، قال : سأَلَ سائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ للْكافِرِينَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ قالُوا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ . . . الاَية ، قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهَلتها ، فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم ذكر غيرة قريش واستفتاحهم على أنفسهم ، إذ قالوا : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ أي ما جاء به محمد ، فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ كما أمطرتها على قوم لوط أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ أي ببعض ما عذّبت به الأمم قبلنا .
واختلف أهل العربية في وجه دخول «هو » في الكلام . فقال بعض البصريين نصب «الحق » ، لأن «هو » والله أعلم حوّلت زائدة في الكلام صلة توكيد كزيادة «ما » ، ولا تزاد إلاّ في كلّ فعل لا يستغني عن خبر ، وليس هو بصفة لهذا ، لأنك لو قلت : «رأيت هذا هو » لم يكن كلاما ، ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة ، ولكنها تكون من صفة المضمرة ، نحو قوله : وَلَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمينَ تجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيرا وَأعْظمَ أجْرا لأنك تقول : «وجدته هو وإياي » فتكون «هو » صفة . وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة ، ولكنها تكون زائدة كما كان في الأوّل . وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم ، فيرفع ما بعدها إن كان بعدها ظاهرا أو مضمرا في لغة بني تميم ، يقولون في قوله : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمينَ وَ تجِدُوهُ عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرا وَأعْظَم أجْرا كما تقول : كانوا آباؤهم الظالمون ، جعلوا هذا المضمر نحو «هو » و «هما » و «أنت » زائدا في هذا المكان . ولم تجعل مواضع الصفة ، لأنه فصل أراد أن يبين به أنه ليس ما بعده صفة لما قبله ، ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر .
وكان بعض الكوفيين يقول : لم تدخل «هو » التي هي عماد في الكلام إلاّ لمعنى صحيح . وقال : كأنه قال : زيد قائم ، فقلت أنت : بل عمرو هو القائم فهو لمعهود الاسم والألف ، واللام لمعهود الفعل التي هي صلة في الكلام مخالفة لمعنى «هو » ، لأن دخولها وخروجها واحد في الكلام ، وليست كذلك هو وأما التي تدخل صلة في الكلام ، فتوكيد شبيه بقولهم : «وجدته نفسه » تقول ذلك ، وليست بصفة كالظريف والعاقل .
وقوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية ، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره ، وفيه نزلت هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم ، لأن النضر كان فيهم موسوماً بالنبل والفهم مسكوناً إلى قوله ، فكان إذا قال قولاً قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبداً بعلمائهم وفقهائهم ، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد ، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة ، وعميت بصائرهم عن الهدى ، وصمموا على أن هذا ليس بحق ، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن ، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع{[5311]} ، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق ، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة ، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل ، ويجوز في العربية رفع { الحق } على أنه خبر { هو } والجملة خبر { كان } ، قال الزّجاج : ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز{[5312]} وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقَّ » على أن يكون خبر «كان » ويكون هو فصلاً ، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بان الذي بعده خبر ليس بصفة . و { أمطر } إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة .
قال القاضي أبو محمد : ويعارض هذه قوله { هذا عارض ممطرنا }{[5313]} لأنهم ظنوها سحابة رحمة ، وقولهم { من السماء } مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّة ويمنه .
عطف على { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [ الأنفال : 30 ] أو على { قالوا قد سمعنا } [ الأنفال : 31 ] وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث صاحب المقالة السابقة ، وقالها أيضاً أبو جهل وإسناد القول إلى جميع المشركين للوجه الذي أسند له قولُ النضر { قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 31 ] فارجع إليه ، وكذلك طريق حكاية كلامهم إنما هو جار على نحو ما قررته هنالك من حكاية المعنى .
وكلامهم هذا جار مجرى القَسَم ، وذلك أنهم يقسمون بطريقة الدعاء على أنفسهم إذا كان ما حصل في الوجود على خلاف ما يحكونه أو يعتقدونه ، وهم يحسبون أن دعوة المرء على نفسه مستجابة ، وهذه طريقة شهيرة في كلامهم قال النابغة :
ما إنْ أتيتُ بشيء أنتَ تكرهه *** إذَنْ فلا رَفَعَتْ سَوطي إِليَّ يدي
وقال معدان بنُ جَواس الكِندي ، أو حُجَيّة بن المضرب السَّكوني :
إن كان ما بُلِّغْت عني فلامني *** صديقي وشَلَّتْ من يديّ الأنامل
وكَفّنْتُ وحدي مُنذراً برِدائِه *** وصادَفَ حَوْطاً من أعاديّ قاتل
بُقَّيْتُ وفْري وانحرفتُ عن العلا *** ولقيتُ أضيافي بوجهِ عبوسِ
إنْ لم أَشُنّ على ابن حرب غارة *** لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس
وقد ضَمّن الحريري في « المقامة العاشرة » هذه الطريقة في حكاية يمين وجّهها أبو زيد السروجي على غُلامه المزعوم لدى والي رَحبة مالك بن طوْق حتى اضطرَّ الغلامَ إلى أن يقول : « الاصطلاء بالبلية ، ولا الابتلاءُ بهذه الإِلِيّة » .
فمعنى كلامهم : إن هذا القرآن ليس حقاً من عندك فإن كان حقاً فأصبنا بالعذاب ، وهذا يقتضي أنهم قد جزموا بأنه ليس بحق وليسَ الشرط على ظاهره حتى يفيد ترددهم في كونه حقاً ولكنه كناية عن اليمين وقد كانوا لجهلهم وضلالهم يحسبون أن الله يتصدى لمخاطرتهم ، فإذا سألوه أن يمطر عليهم حجارة إن كان القرآن حقاً منه أمطر عليهم الحجارة وأرادوا أن يظهروا لقومهم صحة جزمهم بعدم حقية القرآن فأعلنوا الدعاء على أنفسهم بأن يصيبهم عذاب عاجل إن كان القرآن حقاً من الله ليستدلوا بعدم نزول العذاب على أن القرآن ليس من عند الله ، وذلك في معنى القسم كما علمت .
وتعليق الشرط بحرف { إن } لأن الأصل فيها عدم اليقين بوقوع الشرط ، فهم غير جازمين بأن القرآن حق ومنزل من الله بل هم موقنون بأنه غير حق واليقين بأنه غير حق أخص من عدم اليقين بأنه حق .
وضمير { هو } ضميرُ فصل فهو يقتضي تقوي الخبر أي : إن كان هذا حقاً ومن عندك بلا شك .
وتعريف المسند بلام الجنس يقتضي الحصر فاجتمع في التركيب تقو وحصر وذلك تعبيرهم يحكون به أقوال القرآن المنوهة بصدقه كقوله تعالى : { إن هذا لَهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] وهم إنما أرادوا إن كان القرآن حقاً ولا داعي لهم إلى نفي قوة حقيته ولا نفي انحصار الحقية فيه ، وإن كان ذلك لازماً لكونه حقاً ، لأنه إذا كان حقاً كان ما هم عليه باطلاً فصح اعتبار انحصار الحقية فيه انحصاراً إضافياً ، إلاّ أنه لا داعي إليه لولا أنهم أرادوا حكاية الكلام الذي يبطلونه .
وهذا الدعاء كناية منهم عن كون القرآن ليس كما يوصف به ، للتلازم بين الدعاء على أنفسهم وبين الجزم بانتفاء ما جعلوه سبب الدعاء بحسب عرف كلامهم واعتقادهم .
و { من عندك } حال من الحق أي منزلاً من عندك فهم يطْعنون في كونه حقاً وفي كونه منزلاً من عند الله .
وقوله : { من السماء } وصف لحجارة أي حجارةَ مخلوقة لعذاب مَن تصيبه لأن الشأن أن مطر السماء لا يكون بحجارة كقوله تعالى : { فصَب عليهم ربك سوط عذابٍ } [ الفجر : 13 ] ( والصب قريب من الأمطار ) .
وذكروا عذاباً خاصاً وهو مطر الحجارة ثم عمموا فقالوا : { أو ائِتنا بعذاب أليم } ويريدون بذلك كله عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالآخرة . ووصفوا العذاب بالأليم زيادة في تحقيق يقينهم بأن المحلوف عليه بهذا الدعاء ليس منزلاً من عند الله فلذلك عرضوا أنفسهم لخَطر عظيم على تقدير أن يكون القرآن حقاً ومنزلاً من عند الله .
وإذ كان هذا القول إنما يلزم قائله خاصة ومن شاركه فيه ونطقَ به مثل النضر وأبي جهل ومَن التزم ذلك وشارك فيه من أهل ناديهم ، كانوا قد عرضوا أنفسهم به إلى تعذيب الله إياهم انتصاراً لنبيه وكتابه ، وكانت الآية نزلت بعد أن حق العذاب على قائلي هذا القول وهو عذاب القتل المُهين بأيدي المسلمين يومَ بدر ، قال تعالى : { يُعذبْهُم الله بأيديكم ويُخْزِهم وينْصُرْكم عليهم } [ التوبة : 14 ] وكان العذاب قد تأخر عنهم زمناً اقتضته حكمة الله ، بين الله لرسوله في هذه الآية سبب تأخر العذاب عنهم حين قالوا ما قالوا ، وأيقظ النفوس إلى حلوله بهم وهم لا يشعرون .