قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } ، هذه الآية معطوفة على قوله : { واذكروا إذ أنتم قليل } ، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا ، وإذا قالوا اللهم ، لأن هذه السورة مدنية ، وهذا المكر والقول إنما كانا بمكة ، ولكن الله ذكرهم بالمدينة ، كقوله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله } [ التوبة : 40 ] وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير : أن قريشاً فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ، ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت رؤوسهم : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، وشيبة بن ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمية بن خلف ، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا ، قالوا : ادخل ، فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه ، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه ، كما هلك من كان قبله من الشعراء . قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم ، والله لئن حبستموه في بيت ، فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فيوشك أن يثبوا عليكم ويقاتلوكم ، ويأخذوه من أيديكم ، قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقام هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي فقال : أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير ، وتخرجوه من أظهركم ، فلا يضركم ما صنع ولا أين وقع وإذا غاب عنكم ، واسترحتم منه ، فقال إبليس لعنه الله : ما هذا لكم برأي تعمدون عليه ، تعتمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ؟ ألم تروا إلى حلاوة منطقه ، وحلاوة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه ؟ وأنه لئن فعلتم ذلك ليذهبن ، وليستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم ، فيخرجكم من بلادكم ، قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره ، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً ، نسيباً ، وسيطاً ، فتياً ، ثم يعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقرون على حرب قريش كلها ، وبأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، فتؤدي قريش ديته ، فقال إبليس : صدق هذا الفتى وهو أجودكم رأياً ، القول ما قال ، لا أرى رأياً غيره ، فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون عليه ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي هذه ، فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه ، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله أبصارهم عنه ، فجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } إلى قوله { فهم لا يبصرون } ومضى إلى الغار من ثور ، هو وأبو بكر ، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي عنده ، وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته ، وبات المشركون يحرسون علياً في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا علياً رضي الله عنه ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثاً ، ثم قدم المدينة ، فذلك قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } .
قوله تعالى : { ليثبتوك } ، ليحبسوك ، ويسجنوك ، ويوثقوك .
قوله تعالى : { أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله } ، قال الضحاك : يصنعون ويصنع الله ، والمكر والتدبير ، وهو من الله التدبير بالحق ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر .
30 وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .
أي : و أذكر أيها الرسول ، ما منَّ اللّه به{[342]} عليك . إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه .
وإما أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم - من شره .
وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم .
فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه ، فاتفق رأيهم على رأي : رآه شريرهم أبو جهل لعنه اللّه ، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفا صارما ، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد ، ليتفرق دمه في القبائل . فيرضى بنو هاشم [ ثَمَّ ] بديته ، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش{[343]} ، فترصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه .
فجاءه الوحي من السماء ، وخرج عليهم ، فذرَّ على رءوسهم التراب وخرج ، وأعمى اللّه أبصارهم عنه ، حتى إذا استبطؤوه جاءهم آت وقال : خيبكم اللّه ، قد خرج محمد وذَرَّ على رءوسكم التراب .
فنفض كل منهم التراب عن رأسه ، ومنع اللّه رسوله منهم ، وأذن له في الهجرة إلى المدينة ، فهاجر إليها ، وأيده اللّه بأصحابه المهاجرين والأنصار ، ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة ، وقهر أهلها ، فأذعنوا له وصاروا تحت حكمه ، بعد أن خرج مستخفيا منهم ، خائفا على نفسه .
استمع - أخى القارئ - بتدبر إلى الآيات التي حكى كل ذلك بأسلوبها البليغ المثر فتقول : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ . . . وَنِعْمَ النصير } .
قال ابن كثير : " عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } أنه قال : تشاورت قريش ليلة بمكة - في شأن النبى - صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر ، وأن غيرهم قد آمن به - فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق . وقال بعضهم بل اقتلوه ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يبيت مكانه ففعل وخرج النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليا قالوا له أين صاحبك ؟ قال : لا أدرى . فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فرموا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثة ليال " .
وقد ذكر ابن كثير وغيره روايات أخرى تتعلق بهذه الآية ، إلا أننا نكتفى بهذه الرواية ، لإفادتها بالمطلوب في موضوعنا ، ولأن غيرنا قد اشتمل على أخبار أنكرها بعض المحققين ، كما أنكرها ابن كثير نفسه .
وقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ . . } تذكير من الله - تعالى - لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم ، حيث نجى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مكر المشركين حين تأمروا على قتله وهو بينهم بمكة .
قال ابن جرير : أنزل الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه المدينة سورة الأنفال ، يذكره نعمه عليه - ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ . . } الآية .
وقوله { يَمْكُرُ } من المكر ، وهو - كما يقول الراغب - صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان : مكر محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله - تعالى - { والله خَيْرُ الماكرين } . ومكر مذموم ، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا ، ومنه قوله - تعالى - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ . . } وقال - سبحانه - وتعالى - في الأمرين : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } وقوله : " ليثبتوك " أي ليحبسوك . يقال أثبته إذا حبسته .
والمعنى : واذكر - يا محمد - وقت ان نجيتك من مكر أعدائك ، حين تآمروا عليك وأنت بين اظهرهم في مكة ، لكى { لِيُثْبِتُوكَ } أى : يحسبوك في دارك ، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن طعوتهم إلى الدين الحق { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم في النسب ، حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة . . { أَوْ يُخْرِجُوكَ } أى : من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك .
وقوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } بيان لموضع النعمة والمنة ، أى : والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السئ ، والله - تعالى - يرد مكرهم في نحورهم ، ويحبط كيدهم ، ويخيب سعيهم ، ويعاقب عليهم عقابا شديداً ، ويدبر أمرك وأمر أتباعك ، ويحفظكم من شرورهم ، فهو - سبحانه - أقوى الماكرين ، وأعظم تأثيرا ، وأعلمهم بما يضر منه وما ينفع .
قال الآلوسى : قوله { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } أى : برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم ، أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين ، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر ، وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا فلقوا منهم ما يشب منه الوليد .
{ والله خَيْرُ الماكرين } إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره - سبحانه - وإطلاق هذا المركب الإِضافى عليه - تعالى - إن كان باعتبار أن مكره - سبحانه - أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإِضافة للتفضيل ، لأن لمكر الغير - أيضا نفوذا أو تأثيراً في الجملة . . وإن كان باعتبار أنه - سبحانه - لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به ، فلا شكرة لمكر الغير فيه ، وتكون الإِضافة حينئذ للاختصاص ، لانتفاء المشاركة . .
هذا والصورة التي يرسمها قوله - تعالى - : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } صورة عميقة التأثير ، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ، وهم يتأمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون ، والله من ورائهم محيط ، ويمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون .
إنها صورة ساخرة ، وهى في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة . . . . قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شئ محيط ؟
والتعبير القرآنى يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ، فيهز بها القلوب ، ويحرك بها أعماق الشعور .
( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين ) . .
إنه التذكير بما كان في مكة ، قبل تغير الحال ، وتبدل الموقف . وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل ؛ كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر . . ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب ، وما كان فيه من خوف وقلق ؛ في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة . . وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله [ ص ] في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم ، لا مجرد النجاة منهم !
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله [ ص ] ويحبسوه حتى يموت ؛ أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ؛ أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا . . ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله ؛ على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ؛ ليتفرق دمه في القبائل ؛ ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها ، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر !
قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق ، أخبرنا معمر ، أخبرني عثمان الجريري ، عن مقسم مولى ابن عباس ، أخبره ابن عباس في قوله : ( وإذ يمكر بك ) . . . قال : " تشاورت قريش ليلة بمكة . فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي [ ص ] - وقال بعضهم : بل اقتلوه . وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه [ ص ] على ذلك ؛ فبات عليّ - رضي الله عنه - على فراش رسول الله [ ص ] وخرج النبي [ ص ] حتى لحق بالغار . وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي [ ص ] فلما أصبحوا ثاروا إليه ؛ فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا ? قال : لا أدري ! فاقتصوا أثره ؛ فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل ، فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه . . فمكث فيه ثلاث ليال " .
( ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين ) .
والصورة التي يرسمها قوله تعالى : ( ويمكرون ويمكر الله ) . . صورة عميقة التأثير . . ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون . . والله من ورائهم ، محيط ، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون !
إنها صورة ساخرة ، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة القادرة . . قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شيء محيط ?
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ؛ فيهز بها القلوب ، ويحرك بها أعماق الشعور .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مذكره نعمه عليه : واذكر يا محمد ، إذ يمكر بك الذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لِيُثْبِتُوكَ فقال بعضهم : معناه : ليقيدوك . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ يعني : ليوثقوك .
قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيُثْبِتُوكَ ليوثقوك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ . . . الاَية ، يقول : ليشدّوك وثاقا ، وأرادوا بذلك نبيّ الله النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ بمكة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومِقْسم ، قالا : قالوا : أوثقوه بالوثاق
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لِيُثْبِتُوكَ قال : الإثبات : هو الحبس والوثاق .
وقال آخرون : بل معناه الحبس . ذكر من قال ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن قوله : لِيُثْبِتُوكَ قال : يَسجنوك . وقالها عبد الله بن كثير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قالوا : اسجنوه
وقال آخرون : بل معناه : ليسحروك . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن إسماعيل البصريّ المعروف بالوساوسي ، قال : حدثنا عبد المجيد بن أبي روّاد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة ، أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر به قومك ؟ قال : «يُرِيدُونَ أنْ يَسْحَرُونِي ويَقْتُلُونِي ويُخْرِجُونِي » فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : «ربي » قال : نعم الربّ ربك ، فاستوص به خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا أسْتَوْصِي بِهِ ؟ بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي خَيْرا » . فنزلت : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : لما ائتمروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه ، قال له أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا لك ؟ قال : «نَعَمْ » . قال : فأخبره . قال : من أخبرك ؟ قال : «رَبّي » . قال : نعم الربّ ربك ، استوص به خيرا قال : «أنا أسْتَوْصِي بِهِ ، أوْ هُوَ يَسْتَوْصِي بي ؟ » .
وكان معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه ، كما :
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : وحدثني الكلبي ، عن زاذان مولى أم هانىء ، عن ابن عباس : أن نفرا من قريش من أشراف كلّ قبيلة ، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم ، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح . قالوا : أجل ادخل فدخل معهم ، فقال : انظروا في شأن هذا الرجل ، والله ليوشِكنّ أن يواثبكم في أموركم بأمره قال : فقال قائل : احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ، زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم قال : فصرخ عدوّ الله الشيخ النجدي ، فقال : والله ما هذا لكم رأي ، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم قالوا : فانظروا في غير هذا . قال : فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضرّكم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم فقال الشيخ النجديّ : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ، لتجتمعنّ عليكم ، ثم ليأتينّ إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم قالوا : صدق والله ، فانظروا رأيا غير هذا قال : فقال أبو جهل : والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد ما أرى غيره . قالوا : وما هو ؟ قال : نأخذ من كلّ قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ، ثم يعطى كلّ غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل كلها ، فلا أظنّ هذا الحيّ من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها ، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه . فقال الشيخ النجديّ : هذا والله الرأي القول ما قال الفتى ، لا أرى غيره . قال : فتفرّقوا على ذلك وهم مجمعون له . قال : فأتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكره نعمه عليه وبلاءه عنده : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ خَيْرُ واللّهُ المَاكِرِينَ وأنزل في قولهم : «تَرَبّصُوا بِهِ رَيْبَ المَنُونِ » حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : أمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَربّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ وكان يسمى ذلك اليوم : «يوم الزحمة » للذي اجتمعوا عليه من الرأي .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومقسم ، في قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ قالا : تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأوثقوه بالوثاق وقال بعضهم : بل اقتلوه وقال بعضهم : بل اخرجوه فلما أصبحوا رأوا عليّا رضي الله عنه ، فردّ الله مكرهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرني أبي ، عن عكرمة ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ، أمر عليّ بن أبي طالب ، فنام في مضجعه ، فبات المشركون يحرسونه . فإذا رأوه نائما حسبوا أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فتركوه . فلما أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا هم بعليّ ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري . قال : فركبوا الصعب والذّلول في طلبه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : أخبرني عثمان الجريري : أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس ، في قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : بل اقتلوه وقال بعضهم : بل اخرجوه فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات عليّ رضي الله عنه على فراش النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، وخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليّا ، يحسبون أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم . فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه عليّا رضي الله عنه ، ردّ الله مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري . فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل ومرّوا بالغار ، رأوا على بابه نسج العنكبوت ، قالوا : لو دخل ههنا لم يكن نَسْجٌ على بابه فمكث فيه ثلاثا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ قال : اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدما أسلمت الأنصار وفرقوا أن يتعالى أمره إذا وجد ملجأ لجأ إليه . فجاء إبليس في صورة رجل من أهل نجد ، فدخل معهم في دار الندوة فلما أنكروه قالوا : من أنت ؟ فوالله ما كلّ قومنا أعلمناهم مجلسنا هذا قال : أنا رجل من أهل نجد أسمع من حديثكم وأشير عليكم . فاستحيوا فخلوا عنه . فقال بعضهم : خذوا محمدا إذا اصطبح على فراشه ، فاجعلوه في بيت نتربص به ريب المنون والريب : هو الموت ، والمنون : هو الدهر قال إبليس : بئسما قلت ، تجعلونه في بيت فيأتي أصحابه فيخرجونه فيكون بينكم قتال قالوا : صدق الشيخ . قال : أخرجوه من قريتكم قال إبليس : بئسما قلت ، تخرجونه من قريتكم وقد أفسد سفهاءكم فيأتي قرية أخرى فيفسد سفهاءهم فيأتيكم بالخيل والرجال . قالوا : صدق الشيخ . قال أبو جهل ، وكان أولاهم بطاعة إبليس : بل نعمد إلى كلّ بطن من بطون قريش ، فنخرج منهم رجلاً فنعطيهم السلاح ، فيشدّون على محمد جميعا فيضربونه ضربة رجل واحد ، فلا يستطيع بنو عبد المطلب أن يقتلوا قريشا ، فليس لهم إلاّ الدية . قال إبليس : صدق ، وهذا الفتى هو أجودكم رأيا . فقاموا على ذلك ، وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فنام على الفراش ، وجعلوا عليه العيون . فلما كان في بعض الليل ، انطلق هو وأبو بكر إلى الغار ، ونام عليّ بن أبي طالب على الفراش ، فذلك حين يقول الله : لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ والإثبات : هو الحبس والوثاق ، وهو قوله : وَإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإذَنْ لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إلاّ قَلِيلاً يقول : يهلكهم . فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقيه عمر ، فقال له : ما فعل القوم ؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ، وكذلك كان يصنع بالأمم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أخّرُوا بالقِتالِ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ قال : كفار قريش أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه إلاّ أنه قال : فعلوا ذلك بمحمد .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ . . . الاَية ، هو النبيّ صلى الله عليه وسلم مكروا به وهو بمكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ . . . إلى آخر الاَية ، قال : اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : اقتلوا هذا الرجل فقال بعضهم : لا يقتله رجل إلاّ قُتل به قالوا : خذوه فاسجنوه واجعلوا عليه حديدا قالوا : فلا يدعكم أهل بيته . قالوا : أخرجوه قالوا : إذا يستغويَ الناس عليكم . قال : وإبليس معهم في صورة رجل من أهل نجد . واجتمع رأيهم أنه إذا جاء يطوف البيت ويستسلم أن يجتمعوا عليه فَيَغمّوه ويقتلوه ، فإنه لا يدري أهله من قتله ، فيرضون بالعقل فنقتله ونستريح ونعقله . فلما أن جاء يطوف بالبيت اجتمعوا عليه ، فغمّوه . فأتى أبو بكر ، فقيل له ذاك ، فأتى فلم يجد مدخلاً فلما أن لم يجد مدخلاً ، قال : أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبّي الله وقَدْ جَاءَكُمْ بالبَيّنَاتِ مِنْ رَبّكُمْ ؟ قال : ثم فرجها الله عنه فلما أن كان الليل أتاه جبريل عليه السلام ، فقال : من أصحابك ؟ فقال : فلان وفلان وفلان . فقال : لا نحن أعلم بهم منك يا محمد ، هو ناموس ليل قال : وأخذ أولئك من مضاجعهم وهم نيام . فأتى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقدم أحدهم إلى جبريل ، فكحله ، ثم أرسله ، فقال : «ما صُورَتُهُ يا جِبْرِيلُ ؟ » قال : كفيته يا نبيّ الله . ثم قدم آخر فنقر فوق رأسه بعصا نقرة ، ثم أرسله فقال : «ما صُورَتُهُ يا جِبْرِيلُ ؟ » فقال : كفيته يا نبيّ الله . ثم أتي بآخر فنقر في ركبته ، فقال : «ما صُورَتُه يا جِبْرِيلُ ؟ » قال : كفيته . ثُم أتي بآخر ، فسقاه مذقة ، فقال : «ما صُورَتُهُ يا جِبْرِيلُ ؟ » قال : كفيته يا نبيّ الله . وأتي بالخامس . فلما غدا من بيته مرّ بنبّال ، فتعلق مشقص بردائه فالتوى ، فقطع الأكحل من رجله . وأما الذي كحلت عيناه فأصبح وقد عمي وأما الذي سقي مذقة فأصبح وقد استسقى بطنه وأما الذي نقر فوق رأسه فأخذته النقدة والنقدة : قرحة عظيمة أخذته في رأسه وأما الذي طعن في ركبته ، فأصبح وقد أقعد . فذلك قول الله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُون ويَمْكُرُ اللّهُ واللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ : أي فمكرت لهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا قال : هذه مكية . قال ابن جريج : قال مجاهد : هذه مكية .
فتأويل الكلام إذن : واذكر يا محمد نعمتي عندك بمكري بمن حاول المكر بك من مشركي قومك ، بإثباتك ، أو قتلك ، أو إخراجك من وطنك ، حتى استنفذتك منهم وأهلكتهم ، فامْضِ لأمري في حرب من حاربك من المشركين ، وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم ، ولا يرعبنك كثرة عددهم ، فإن ربك خير الماكرين بمن كفر به وعبد غيره وخالف أمره ونهيه . وقد بيّنا معنى المكر فيما مضى بما أغني عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } الآية ، يشبه أن يكون قوله { وإذ } معطوفاً على قوله { إذ أنتم قليل } [ الأنفال : 26 ] وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام ، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب ، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية ، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله ورسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم ، الحديث المشهور{[5299]} ، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية ، والمكر المخاتلة والتداهي{[5300]} ، تقول : فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلاً وتستراً بما يريد ، ويقال أصل المكر الفتل ، قاله ابن فورك ، فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه ، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم : ممكورة{[5301]} ، فمكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره ، وتدبير قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديماً من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكراً وما استسروا به هو المكر ، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ماذا يدبر فيك قومك ، قال : يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج ، قال أبو طالب من أعلمك هذا ؟ قال : ربي ، قال : إن ربك لرب صدق فاستوص به خيراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل هو يا عم يستوصي بي خيراً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره ، الحديث بطوله ، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بسببه ، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب ، ففي القصة أن أبا جهل قال : الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قوياً جلداً فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفاً ويأتون محمداً في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد ، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها ، فيأخذون العقل ونستريح منه ، فقال النجدي : صدق الفتى ، هذا الرأي لا أرى غيره ، فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته ، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء ، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيصورون به ، فلما قام رأوا علياً فقالوا له أين صاحبك ؟ قال : لا أدري .
وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه ، وجعل على رأس كل واحد منهم تراباً ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون ، قالوا محمداً ، قال إني رأيته الآن جائياً من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم ، فمد كل واحد يده إلى رأسه ، وجاؤوا إلى مضجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا علياً فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول{[5302]} وهو بالغار{[5303]} ، ومعنى { ليثبتوك } ليسجنوك فتثبت ، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير ، وقال ابن عباس ومجاهد : معناه ليوثقوك ، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك .
وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني «ليثبّتوك » وهذه أيضاً بالتضعيف ، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «ليبيتوك » من البيات ، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة ، وقال أبو حاتم معنى { ليثبتوك } أي بالجراحة ، كما يقال أثبتته الجراحة{[5304]} ، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحداً ، وقوله تعالى : { ويمكر الله } معناه يفعل أفعالاً منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع ، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله ، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال ، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه ، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب ، وقوله { خير الماكرين } أي أقدرهم وأعزهم جانباً .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما ، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها ، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح ، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو من واحد .
يجوز أن يكون عطف قصة على قصة من قصص تأييد الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين فيكون { إذْ } متعلقاً بفعل محذوف تقديره واذْكر إذ يمكر بك الذين كفروا ، على طريقة نظائِره الكثيرة في القرآن .
ويجوز أن يكون عطفاً على قوله : { إذْ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } [ الأنفال : 26 ] فهو متعلق بفعل ( اذكروا ) من قوله { واذكروا إذ أنتم قليل } [ الأنفال : 26 ] ، فإن المكر بالرسول عليه الصلاة والسلام مكر بالمسلمين ويكون ما بينهما اعتراضاً . فهذا تعداد لنعم النصر ، التي أنعم الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، في أحوال ما كان يظن الناس أن سيجدوا منها مخلصاً ، وهذه نعمة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإنعام بحياته وسلامته نعمة تشمل المسلمين كلهم ، وهذا تذكير بأيام مُقامهم بمكة ، وما لاقاه المسلمون عموماً وما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً وأن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم سلامة لأمته .
والمكر إيقاع الضر خُفية ، وتقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } في [ آل عمران : 54 ] ، وعند قوله تعالى : { أفأمنوا مكرَ الله } في سورة [ الأعراف : 99 ] .
والإتيان بالمضارع في موضع الماضي الذي هو الغالب مع { إذ } استحضار للحالة التي دبروا فيها المكر ، كما في قوله تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتُثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] .
ومعنى : { ليُثبتوك } ليحبسوك يقال أثبته إذا حبَسه ومنعه من الحركة وأوثقه ، والتعبير بالمضارع في { يثبتوك } ، و{ يقتلوك } ، و{ يخرجوك } ، لأن تلك الأفعال مستقبلة بالنسبة لفعل المكر إذ غاية مكرهم تحصيل واحد من هذه الأفعال .
وأشارت الآية إلى تردد قريش في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا للتشاور في ذلك بدار الندوة في الأيام الأخيرة قُبيل هجرته ، فقال أبو البختري : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق وسُدوا عليه باب بيت غير كَوة تُلْقون إليه منها الطعام ، وقال أبو جهل : أرى أن نأخذ من كل بَطن في قريش فتىً جَلْداً فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفاً ويأتون محمداً في بيته فيضربونه ضربة رجل واحد فلا تقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها فيأخذون العقل ونستريح منه ، وقال هشام بن عَمرو : الرأي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظْهُرِكُم فلا يضركم ما صنع .
وموقع الواو في قوله { ويمكرون } لم أر أحداً من المفسرين عرج على بيانه وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون واو الحال ، والجملة حال من { الذين كفروا } وهي حال مؤسسة غيرُ مؤكدة ، باعتبار ما اتصل بها من الجملة المعطوفة عليها ، وهي جملة : { ويمكرُ الله } فقوله : { ويمكر الله } هو مناط الفائِدة من الحال ومَا قبله تمهيد له وتنصيص على أن مكرهم يقارنه مكر الله بهم ، والمضارع في { يمكرون } و { يمكر } الله لاستحضار حالة المكر .
وثانيهما : أن تكون وَاو الاعتراض أي العطف الصوري ، ويكون المراد بالفعل المعطوف الدوامَ أي هم مكروا بك لثبِتوك أو يقتلوك أو يخرجوك وهم لا يزالون يمكرون كقول كعب بن الأشرف لمحمد بن مَسلمة « وأيضاً لتَمَلّنَه » يعني النبي ، فتكون جملة { ويمكرون } معترضة ويكون جملة : { ويمكر الله } معطوفة على جملة : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } والمضارع في جملة : { ويمكرون } للاستقبال والمضارع في { ويَمكر الله } لاستحضار حالة مكر الله في وقت مكرهم مثل المضارع المعطوف هو عليه .
وبيان معنى إسناد المكر إلى الله تقدم : في آية سورة آل عمران [ 54 ] وآية سورة الأعراف [ 99 ] وكذلك قوله : { والله خير الماكرين } .
والذين تولوا المكر هم سادة المشركين وكبراؤهم وأعوان أولئك الذين كان دأبهم الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي نزول القرآن عليه ، وإنما أسند إلى جميع الكافرين لأن البقية كانوا أتباعاً للزعماء يأتمرون بأمرهم ، ومن هؤلاء أبو جهل ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية بن خلف ، وأضرابهم .