معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

قوله تعالى : { كل نفس } . منفوسة .

قوله تعالى : { ذائقة الموت } . وفي الحديث : " لما خلق الله تعالى آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها ، فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها ، فما من أحد إلا ويدفن في التربة التي خلق منها .

قوله تعالى : { وإنما توفون أجوركم } . توفون جزاء أعمالكم .

قوله تعالى : { يوم القيامة } . إن خيرا فخير وإن شراً فشر .

قوله تعالى : { فمن زحزح } . نحي وأزيل .

قوله تعالى : { عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } . ظفر بالنجاة ونجا من الخوف .

قوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } . يعني منفعة ومتعة كالفأس والقدر والقصعة ، ثم يزول ولا يبقى . وقال الحسن : كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له . قال قتادة : هي متاع متروكة يوشك أن تضمحل بأهلها ، فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم ، " والغرور " الباطل .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن يحيى ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " . واقرؤوا إن شئتم ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون ) . وأن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، واقرؤوا إن شئتم ( وظل ممدود ) ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما عليها ، واقرؤوا إن شئتم ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

ثم قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }

هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها ، وأنها متاع الغرور ، تفتن بزخرفها ، وتخدع بغرورها ، وتغر بمحاسنها ، ثم هي منتقلة ، ومنتقل عنها إلى دار القرار ، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار ، من خير وشر .

{ فمن زحزح } أي : أخرج ، { عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } أي : حصل له الفوز العظيم من العذاب الأليم ، والوصول إلى جنات النعيم ، التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .

ومفهوم الآية ، أن من لم يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فإنه لم يفز ، بل قد شقي الشقاء الأبدي ، وابتلي بالعذاب السرمدي .

وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه ، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه ، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه ، يفهم هذا من قوله : { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } أي : توفية الأعمال التامة ، إنما يكون يوم القيامة ، وأما ما دون ذلك فيكون في البرزخ ، بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله تعالى : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

ثم بين - سبحانه - أن مرد الخلق جميعا إلى الله ، وأن كل نفس مهما طال عمرها لا بد أن يصيبها الموت ، وأن الدار الباقية إنما هى الدار الآخرة التى سيحاسب الناس فيها على أعمالهم فقال - تعالى - : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } .

قال ابن كثير : " يخبر - تعالى - إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله - تعالى - :

{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } فهو - تعالى - وحده الحى الذى لا يموت والجن والإنس يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخرا كما كان أولا ، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت . . " .

وقوله { ذَآئِقَةُ الموت } من الذوق وحقيقته إدراك الطعوم ، والمراد به هنا حدوث الموت لكل نفس .

وعبر عن حدوث الموت لكل نفس بذوقه ، للإشارة إلى أنه عند ذوق المذاق إما مرا لما يستتبعه من عذاب ، وإما حلوا هنيئا بسبب ما يكون بعده من أجر وثواب .

وأسند ذوق الموت إلى النفس ولم يسنده إلى الشخص : لأن النفس روح ، والشخص جزءان : جسم ونفس ، والنفس هى التى تبقى بعد مفارقتها للجسد ، فهى التى تذوق الموت كما ذاقت الحياة الدنيا .

وقوله { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } أى : وإنما تعطون جزاء أعمالكم وافيا تاما يوم القيامة . يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحاسبهم على أعمالهم ، فيجازى الذين أساءوا بما عملوا . ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف اتصل قوله - تعالى - : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } بما قبله ؟ قلتك اتصاله به على معنى أن كلكم تموتون ، ولا بد لكم من الموت ولا توفون أجوركم على طاعتكم ومعصيتكم عقيب موتكم ، وإنما توفونها يوم قيامكم من القبور .

فإن قلت : فهذا يوهم نفى ما يروى من أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة نم حفر النار ؟ قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون فى ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور " .

وقال الفخر الرازى : " بين - سبحانه - أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف فى الدنيا فهى مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ، لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم ، والسعادة بلا خوف الانقطاع .

وكذا القول فى العقاب ، فإنه لا يحصل فى الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقى هو الذى يكون يوم القيامة " .

ثم قال - تعالى - { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } .

الزحزحة عن النار : هى التنحية عنها ، وعدم الاقتراب منها والفعل زحزح مضاعف الفعل زحه عن المكان إذا جذبه وأبعده عنه بعجلة وسرعة .

والمعنى أن كل نفس سيدركها الموت لا محالة . وأن الناس سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة ، فمن كانت نتيجة حسابه الإبعاد عن النار ، والنجاةن من سعيرها ، فقد فاز فوزاً عظيما ، وأدرك البغية التى ليس بعدها بغية .

والفاء فو قوله { فَمَن زُحْزِحَ } للتفريع على قوله { تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } .

وجمع - سبحانه - بين { زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة } مع أن فى الثانى غنية عن الأول ، للإشعار بأن دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين وهما : النجاة من النار ، والتلذذ بنعيم الجنة .

وفى الحديث الشريف عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } " .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .

ثم ختم - الآية بقوله : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } .

والمتاع : هو ما يتمتع به الإنسان وينتفع به مما يباع ويشترى .

والغرور - بضم الغين - مصدر غره أى خدعه وأطعمه بالباطل .

أى : ليست هذه الحياة الدنيا التى نعيش فيها . ونستمتع بلذاتها ومنافعها ، إلا متاعا يستمتع به المغتر بها ، الذى لا يفكر فى أى شىء سواها ، ثم يحاسب على ذلك حسابا عسيراً يوم القيامة ، أما الذى يأخذ من متاعها بالطريقة التى أمر الله - تعالى - بها ، فإنه يكون من السعداء فى دنياهم وآخرتهم .

قال صاحب الكشاف : شبه - سبحانه - الدنيا بالمتاع الذى يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور . وعن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فاما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ " .

فالآية الكريمة ترغيب للمؤمنين فى الطاعة ، وتحذير للعصاة من المعصية ، وتذكير للجميع بأن مرجعهم إلى الله إن عاجلا أو آجلا ، وسيلقى كل إنسان جزاءه على عمله ، وأن السعادة الحقة لمن نال رضا الله يوم يلقاه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

180

بعد ذلك يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة ؛ يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها ، وتضحي من أجلها ؛ ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها ، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال :

( كل نفس ذائقة الموت ، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .

إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس : حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة ، محدودة بأجل ؛ ثم تأتي نهايتها حتما . . يموت الصالحون يموت الطالحون . يموت المجاهدون ويموت القاعدون . يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد . يموت الشجعان الذين يأبون الضيم ، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن . . يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية ، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص .

الكل يموت . . ( كل نفس ذائقة الموت ) . . كل نفس تذوق هذه الجرعة ، وتفارق هذه الحياة . . لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع . إنما الفارق في شيء آخر . الفارق في قيمة أخرى . الفارق في المصير الأخير :

( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) . .

هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق . وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان . القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد . والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب :

( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) . .

ولفظ " زحزح " بذاته يصور معناه بجرسه ، ويرسم هيئته ، ويلقي ظله ! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها ، ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة ! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها ، ويستنقذ من جاذبيتها ، ويدخل الجنة . . فقد فاز . .

صورة قوية . بل مشهد حي . فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته . فللنار جاذبية ! أليست للمعصية جاذبية ؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية ؟ بلى ! وهذه هي زحزحتها عن النار ! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل . . إلا أن يدركه فضل الله ؟ بلى ! وهذه هي الزحزحة عن النار ؛ حين يدرك الإنسان فضل الله ، فيزحزحه عن النار ! ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . .

إنها متاع . ولكنه ليس متاع الحقيقة ، ولا متاع الصحو واليقظة . . إنها متاع الغرور . المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا . أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق . المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله . . فهو ذاك . . هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } .

يعني بذلك تعالى ذكره : أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود المكذبين برسوله ، الذين وصف صفتهم ، وأخبر عن جراءتهم على ربهم ، ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره ، ومرجع جميعهم إليه ، لأنه قد حتم الموت على جميعهم ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك تكذيب من كذّبك يا محمد من هؤلاء اليهود وغيرهم ، وافتراء من افترى عليّ ، فقد كذّب قبلك رسل جاءوا من الاَيات والحجج من أرسلوا إليه بمثل الذي جئت من أرسلت إليه ، فلك فيهم أسوة تتعزّى بهم ، ومصير من كذّبك ، وافترى عليّ وغيرهم ، ومرجعهم إليّ ، فأوفي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة ، كما قال جلّ ثناؤه : { وإنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ } يعني أجور أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ . { فمنْ زُحزِحَ عن النارِ } ، يقول : فمن نحي عن النار وأبعد منها ، { فقَدْ فازَ } يقول : فقد نجا وظفر بحاجته ، يقال منه : فاز فلان بطلبته يفوز فوزا ومفازا ومفازة : إذا ظفر بها .

وإنما معنى ذلك : فمن نُحّي عن النار فأبعد منها ، وأدخل الجنة ، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة . { وَما الحَياةُ الدّنْيا إلاّ مَتاعُ الغُرُورِ } يقول : وما لذات الدنيا وشهواتها ، وما فيها من زينتها وزخارفها ، إلا متاع الغرور ، يقول : إلا متعة يمتعكموها الغرور والخداع المضمحل ، الذي لا حقيقة له عند الامتحان ، ولا صحة له عند الاختبار ، فأنتم تلتذّون بما متعكم الغرور من دنياكم ، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره ، يقول تعالى ذكره : لا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها ، فإنما أنتم منها في غرور تمتعون ، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون . وقد رُوي في تأويل ذلك ما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله : { وَما الحَياةُ الدّنيْا إلاّ مَتاعٌ الغُرُورِ } قال : كزاد الراعي ، تزوده الكف من التمر ، أو الشيء من الدقيق ، أو الشيء يشرب عليه اللبن .

فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا إلى أن معنى الاَية : وما الحياة الدنيا إلا متاع قليل ، لا يبلغ من تمتعه ولا يكفيه لسفره .

وهذا التأويل وإن كان وجها من وجوه التأويل ، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا ، لأن الغرور إنما هو الخداع في كلام العرب ، وإذ كان ذلك كذلك فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة ، لأن الشيء قد يكون قليلاً وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور¹ وأما الذي هو في غرور فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور . والغرور مصدر من قول القائل : غرني فلان ، فهو يغرني غرورا بضم الغين¹ وأما إذا فتحت الغين من الغرور فهو صفة للشيطان الغرور الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته . وقد :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبدة وعبد الرحيم ، قالا : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو وسلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَوْضعُ سَوْطٍ فِي الجَنّة خَيْرٌ مِنَ الدّنْيا وَما فِيها ، وَاقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { وَما الحَياةُ الدّنيْا إلاّ مَتاعُ الغرُورِ } » .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

هذا خبر واعظ فيه تسلية للنبي عليه السلام ولأمته عن أمر الدنيا وأهلها ، ووعد في الآخرة ، فبالفكرة في الموت يهون أمر الكفار وتكذيبهم ، والمعنى : كل نفس مخلوقة حية ، والذوق هنا : استعارة { وإنما } حاصرة على التوفية التي هي على الكمال ، لأن من قضي له بالجنة فهو ما لم يدخلها غير موفى ، وخص تعالى ذكر «الأجور » لشرفها وإشارة مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، ولا محالة أن المعنى : أن يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب ، و { زحزح } معناه : أبعد ، والمكان الزحزح : البعيد ، وفاز معناه : نجا من خطره وخوفه ، و { الغرور } ، الخدع والترجية بالباطل ، والحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع المرء وتمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور من المفسرين ، قال عبد الرحمن بن سابط : { متاع الغرور } كزاد الراعي يزود الكف من التمر أو الشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن ، قال الطبري : ذهب إلى أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : و { الغرور } في هذا المعنى مستعمل في كلام العرب ، ومنه قولهم في المثل : عش ولا تغتر{[3758]} ، أي لا تجتزىء بما لا يكفيك ، وقال عكرمة : { متاع الغرور } ، القوارير أي لا بد لها من الانكسار والفساد ، فكذلك أمر الحياة الدنيا كله .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه :

وهذا تشبيه من عكرمة ، وقرأ عبد الله بن عمير{[3759]} «الغَرور » بفتح الغين ، وقرأ أبو حيوة والأعمش : { ذائقة } بالتنوين { الموت } بالنصب ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ، «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها »{[3760]} ، ثم تلا هذه الآية .


[3758]:- هذا مثل يضرب للاحتياط؛ والأخذ بالثقة في الأمور، وكأنما يقال للراعي: عش إبلك من هذا العشب الحاضر ولا تغتر بالغائب فيفوتك، (جمهرة العسكري2/46، والميداني 1/311، والمستقصى: 242، واللسان: عشا).
[3759]:- الذي في القرطبي، والبحر، والنهاية لابن الجزري هو عبد الله بن عمر، ولعله هو عبد الله بن عمر بن أحمد بن شوذب الواسطي مقرئ متصدر. "النهاية لابن الجزري 1/437.
[3760]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن حبان، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه-عن أبي هريرة، كما أخرجه ابن مردويه- عن سهل بن سعد مرفوعا. "فتح القدير للشوكاني2/ 374". "والدر المنثور 2/107". وذكر له ابن كثير عدة طرق غير هذه 1/435.