فيه سبع{[3756]} مسائل :
الأولى : لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم : " إن الله فقير ونحن أغنياء " وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله : " لتبلون " [ آل عمران : 186 ] الآية - بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم ، فإن أمد الدنيا قريب ، ويوم القيامة يوم الجزاء . " ذائقة الموت " من الذوق ، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان ، ولا محيد عنه لحيوان . وقد قال أمية بن أبي الصلت :
من لم يمت عَبْطَةً{[3757]} يمت هَرَمًا *** للموت كأسٌ والمرءُ ذائقها
الموت باب وكل الناس داخله *** فليت شعري بعد الباب ما الدار
الثانية : قراءة العامة " ذائقة الموت " بالإضافة . وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق " ذائقة الموت " بالتنوين ونصب الموت . قالوا : لأنها لم تذق بعد . وذلك أن اسم الفاعل على ضربين : أحدهما أن يكون بمعنى المضي . والثاني بمعنى الاستقبال ، فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده ، كقولك : هذا ضارب زيد أمس ، وقاتل بكر أمس ؛ لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم ، نحو غلام زيد ، وصاحب بكر . قال الشاعر :
الحافظُ عورةِ العشيرة *** لا يأتيهم من ورائهم وَكَفُ{[3758]}
وإن أردت الثاني جاز الجر . والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل ؛ لأنه يجري مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد ، لم يتعد نحو قاتم زيد . وإن كان متعديا عديته ونصبت به ، فتقول . زيد ضارب عمروا بمعنى يضرب عمروا . ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفا ، كما قال المرار " :
سَلِ الهمومَ بكل معطي رأسِه *** ناجٍ مخالطٍ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ{[3759]}
مُغْتَالِ أحْبُلِهِ مُبينٍ عُنْقُه *** في مَنْكَبٍ زَبَنَ المَطِيَّ عَرَنْدَسِ{[3760]}
فحذف التنوين تخفيفا ، والأصل : معط رأسه بالتنوين والنصب ، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى " هل هن كاشفات ضره " [ الزمر : 38 ] وما كان مثله{[3761]} .
الثالثة : ثم اعلم أن للموت أسبابا وأمارات ، فمن علامات موت المؤمن عرق الجبين . أخرجه النسائي من حديث بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المؤمن يموت بعرق الجبين " . وقد بيناه في " التذكرة " فإذا احتضر لقن الشهادة ؛ لقوله عليه السلام : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة ، ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر . ويستحب قراءة " يس " ذلك الوقت ؛ لقوله عليه السلام : " اقرؤوا يس على موتاكم " أخرجه أبو داود . وذكر الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت ) . فإذا قضي وتبع البصر الروح كما أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وارتفعت العبادات وزال التكليف ، توجهت على الأحياء أحكام : منها تغميضه ، وإعلام إخوانه الصلحاء بموته ، وكرهه قوم وقالوا : هو من النعي . والأول أصح ، وقد بيناه في غير هذا الموضع . ومنها الأخذ في تجهيزه بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير ، قال صلى الله عليه وسلم لقوم أخروا دفن ميتهم : ( عجلوا بدفن جيفتكم ) وقال : ( أسرعوا بالجنازة ) الحديث ، وسيأتي .
فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم . قيل : غسله واجب قاله القاضي عبد الوهاب . والأول : مذهب الكتاب{[3762]} ، وعلى هذين القولين العلماء . وسبب الخلاف قوله عليه السلام لأم عطية في غسلها ابنته زينب ، على ما في كتاب مسلم . وقيل : هي أم كلثوم ، على ما في كتاب أبي داود : ( اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ) الحديث . وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى . فقيل : المراد بهذا الأمر بيان حكم الغسل فيكون واجبا . وقيل : المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب . قالوا ويدل عليه قوله : ( إن رأيتن ذلك ) وهذا يقتضي إخراج ظاهر الأمر عن الوجوب ؛ لأنه فوضه إلى نظرهن . قيل لهم : هذا فيه بعد ؛ لأن ردك ( إن رأيتن ) إلى الأمر ، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور ، وهو ( أكثر من ذلك ) أو إلى التخيير في الأعداد . وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك . وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف . ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع ؛ على ما حكاه أبو عمر . فإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده ، وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله . فإذا فرغ من غسله كفنه في ثيابه وهي :
الرابعة : والتكفين واجب عند عامة العلماء ، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء إلا ما حكي عن طاوس أنه قال : من الثلث كان المال قليلا أو كثيرا . فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد إن كان عبدا أو أب أو زوج أو ابن ، فعلى السيد باتفاق ، وعلى الزوج والأب والابن باختلاف . ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية . والذي يتعين منه بتعيين الفرض ستر العورة ، فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطى رأسه ووجهه إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغير محاسنه . والأصل في هذا قصة مصعب بن عمير ، فإنه ترك يوم أحد نمرة{[3763]} كان إذا غطى رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطي رجلاه خرج رأسه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر ){[3764]} أخرج الحديث مسلم .
والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن ، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد . والمستحب منه البياض قال صلى الله عليه وسلم : ( البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ) أخرجه أبو داود . وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف{[3765]} . والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريرا أو خزا . فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته وأعياده قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) أخرجه مسلم . إلا أن يوصي بأقل من ذلك . فإن أوصى بسرف قيل : يبطل الزائد . وقيل : يكون في الثلث . والأول أصح ؛ لقوله تعالى : " ولا تسرفوا " {[3766]} [ الأنعام : 141 ] . وقال أبو بكر : إنه للمهلة{[3767]} . فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم وهي :
الخامسة : فالحكم الإسراع في المشي ؛ لقوله عليه السلام : ( أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ) . لا كما يفعله اليوم الجهال في المشي رويدا والوقوف بها المرة بعد المرة ، وقراءة القرآن بالألحان إلى ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم . روى النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبد الرحمن قال حدثني أبي قال : شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير ، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون : رويدا رويدا ، بارك الله فيكم ! فكانوا يدبون دبيبا ، حتى إذا كنا ببعض طريق المريد{[3768]} لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال : خلوا ! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لنكاد نرمل بها رملا ، فانبسط القوم . وروى أبو ماجدة عن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه سلم عن المشي مع الجنازة فقال : ( دون الخَبَب إن يكن خيرا يعجل إليه ، وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار ) الحديث . قال أبو عمر : والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق السجية قليلا ، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء . ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفة الناس ممن يتبعها . وقال إبراهيم النخعي : بطئوا بها قليلا ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى . وقد تأول قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي ، وليس بشيء لما ذكرنا . وبالله التوفيق .
السادسة : وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية كالجهاد . هذا هو المشهور من مذاهب العلماء : مالك وغيره ؛ لقوله في النجاشي : ( قوموا فصلوا عليه ) . وقال أصبغ : إنها سنة . وروى عن مالك . وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في " براءة " {[3769]} .
السابعة : وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب ؛ لقوله تعالى : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " {[3770]} [ المائدة : 31 ] . وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما يستحب منه ، وكيفية جعل الميت فيه . ويأتي في " الكهف " حكم بناء المسجد{[3771]} عليه ، إن شاء الله تعالى .
فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الأحياء . وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) أخرجه مسلم . وفي سنن النسائي عنها أيضا قالت : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء فقال : ( لا تذكروا هلكاكم إلا بخير ) .
قوله تعالى : " وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " فأجر المؤمن ثواب ، وأجر الكافر عقاب ، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء ؛ لأنها عرصة الفناء . " فمن زحزح عن النار " أي أبعد . " وأدخل الجنة فقد فاز " ظفر بما يرجو ، ونجا مما يخاف . وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ) . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرؤوا إن شئتم " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " ) .
قوله تعالى : " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " أي تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية . والمتاع ما يتمتع به وينتفع ، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه ، قاله أكثر المفسرين . قال الحسن : كخضرة النبات ، ولعب البنات لا حاصل له . وقال قتادة : هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع . ولقد أحسن من قال :
هي الدار دار الأذى والقَذَى *** ودار الفناء ودار الغير{[3772]}
فلو نلتَها بحذافيرها *** لمُتَّ ولم تَقْضِ منها الوَطَر
أيا من يؤمل طول الخلود *** وطول الخلود عليه ضرر
إذا أنت شبت وبان الشباب *** فلا خير في العيش بعد الكبر
والغرور ( بفتح الغين ) الشيطان ، يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة . قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه ، وفيه باطن مكروه أو مجهول . والشيطان غرور ؛ لأنه يحمل على محاب النفس ، ووراء ذلك ما يسوء . قال : ومن هذا بيع الغرر ، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول .