اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

والمرادُ بهذه الآية - زيادة تأكيد التسليةِ والمبالغةِ في إزالة الحُزْنِ عن قلبه ؛ لأن مَنْ علم أن عاقبته الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان ، ولأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء ، [ والمُحِقُّ من المُبْطِل ]{[6254]} .

قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } مبتدأ وخبر ، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة .

والجمهور على " ذَائِقَةٌ المَوْتِ " - بخَفْض " الْمَوْتِ " - بالإضافة ، وهي إضافة غير محضة ؛ لأنها في نية الانفصالِ .

وقرأ اليزيديُّ " ذَائِقةٌ الْمَوْتَ " بالتنوين والنَّصْب في " الْمَوْتِ " على الأصل .

وقرأ الأعمشُ بعدم التنوين ونَصْب " الْمَوْت " وذلك على حَذْف التنوين ؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعرِ : [ المتقارب ]

فأَلْفيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ *** وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا{[6255]}

- بنصب الجلالة - وقراءة مَنْ قرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ } [ الإخلاص : 1 ، 2 ] - بحذف التنوين من " أحَدٌ " لالتقاء الساكنين .

[ ونقل ]{[6256]} أبو البقاء - فيها - قراءةً غريبةً ، وتخريجاً غريباً ، قال : " وتقرأ شاذاً - أيضاً - ذَائِقُهُ الْمَوْتُ{[6257]} على جعل الهاء ضمير " كل " على اللفظ ، وهو مبتدأ وخبرٌ ، وإذا صحت هذه قراءةً فتكون " كل " مبتدأ ، و " ذَائِقُهُ " خبر مقدَّم ، و " الْمَوْتُ " مبتدأ مؤخرٌ ، والجملة خبر " كُلّ " وأضيف " ذائق " إلى ضمير " كل " باعتبار لفظها ، ويكون هذا من باب القلب في الكلام ؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها ، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس ، قَلْباً للكلامِ ؛ لفهم المعنى ، كقولهم : عَرَضْتُ الناقة على الحوض ، ومنه قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ }

[ الأحقاف : 34 ] وقولك : أدخلت القلنسوة في رأسي .

وقول الشَّاعرِ : [ البسيط ]

مِثْلُ القَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ *** نَجْرَانَ ، أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجَرُ{[6258]}

الأصل : عرضت الحوض على الناقة ، ويوم تُعْرَض النار على الذين كفروا ، وأدخلت رأسي في القلنسوة ، وبلغت سوآتهم هَجَرَ ، فقلبت . وسيأتي خلافُ النّاسِ في القلب في موضعه إن شاء الله - تعالى - .

وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا أن التأنيث في " ذائقة " إنما هو باعتبار معنى " كلٍّ " قال : " لأن كل نفس نفوس ، فلو ذكر على لفظ " كل " جاز ، يعني أنه لو قيل : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ } جاز ، وقد تَقَدَّمَ أول البقرة أنه يجب [ اعتبار ] لفظ ما يُضافُ إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر " كل " وتحقيق هذه المسألةِ هناك .

فصل

قال ابنُ الخطيبِ : هذه الآية من تمام التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إما بأن غموم الدنيا يقطعها الموتُ ، وما كان كذلك لا ينبغي للعاقل أن يَلْتَفِتَ إليه .

وإما لأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء ، فلا يُلْتَفَت إلى غَمِّ الدنيا وبُؤْسِها .

فإن قيل : قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] يقتضي الاندراج ، وأيضاً فالنفس والذات واحد ، فتدخل الجمادات لأنهم ذوات ، ويقتضي موت أهلِ الجَنَّةِ ؛ لأنهم نفوس .

فالجوابُ : أنّ المُرَادَ : المكلَّفون في دار التكليف ، لقوله ، عقبيها : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } وذلك لا يتأتَّى إلا فيهم .

فصل

قالت الفلاسفةُ : الموت واجب للأجسامِ ؛ لأن الحياةَ الجسمانيةَ إنما تحصل بالرطوبةِ والحرارةِ الغريزيتين ، ثم إن الحرارةَ تستمد من الرطوبة إلى أن تفنى ، فيحصل الموتُ قالوا : والآية تدل على أن النفوس لا تموت ؛ لأنه جعلها ذائقة ، والذائق لا بد أن يبقى حال الذوق والمعنى : ذائقة موت البدنِ ، ويدل ذلك - أيضاً - على أنَّ النفسَ غير البدن .

قوله : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } " ما " كافة لِ " إن " عن العمل ، قال مكيٌّ : " ولا يحسبن أن تكون " ما " بمعنى الذي ، لأنه يلزم رفع " أجورُكم " ولم يقرأ به أحَدٌ ، ولأنه يصير التقدير : وأن الذي توفَّوْنَهُ أجوركم ، كقولك : إنّ الذي أكرمته عمرو ، وأيضاً فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء " .

يعني لو كانت " ما " موصولة لكانت اسم " إن " فيلزم - حينئذٍ - رفع " أجوركم " على أنه خبرها ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] ف " ما " - هنا - يجوز أن تكون بمعنى الذي ، أو مصدرية ، تقديره : إنَّ الذي صنعوه ، أو إن صُنْعَهم ، ولذلك رفع " كَيْدُ " ، خبرها . وقوله : وأيضاً فإنك تفرق . . . ، يعني أن " يَوْمَ الْقِيَامَة " متعلق ب " تُوَفَّوْنَ " فهو من تمام الصلة فلو كانت " ما " موصولة لفصلت بالخبر - الذي هو " أجُوركُم " - بين أبعاض الصلة - التي هي الفعل ومعموله - ولا يُخْبَر عن موصول إلا بعد تمام صلته ، وهذا وإن كان من الواضحات ، إلا أن فيه تنبيهاً على أصول العلم .

فصل

قال المفسّرون : أجر المؤمنِ الثوابُ ، وأجرُ الكافر العقابُ ، ولم يعتد بالنعمة في الدنيا - أجراً وجزاء - لأنها عُرْضَةٌ للفناء .

قوله : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ } أدغم أبو عمرو الحاء في العين ، قالوا : لطول الكلمة ، وتكرير الحاء ، دون قوله : { ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] وقوله : { الْمَسِيحُ عِيسَى }

[ آل عمران : 45 ] ونُقِل عنه الإدغامُ مطلقاً ، وعدمه مطلقاً والنحويون يمنعون ذلك ، ولا يُجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويُدْغِموا الحاء فيها ، قالوا : لأن الأقوى لا يُدْغَم في الأضْعَف ، وهذا عكس الإدغامِ ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين : إحداهما : هذه ، والثانية : الحاء في الهاء ، نحو : امدح حلالاً - بقلب الهاء حاء أيضاً - ولذلك طعن بعضهم على قراءةِ أبي عمرو ، ولا يُلْتَفَت إليه . . ومعنى الكلام ، { فَمَن زُحْزِحَ } أي : نُحِّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز .

قوله : { وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } المتاع : ما يتَمَتَّع به ، وينتفع [ به الناسُ - كالقِدْرِ ]{[6259]} والقصعة - ثم يزول ولا يبقى قاله أكثرُ المفسّرين .

وقال الحَسَن : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات ، ولا حاصل له{[6260]} .

وقال قتادة : هي متاع متروك : يوشك أن يضمحِلَّ{[6261]} ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله - تعالى - ما استطاع .

وقوله : " الْغُرور " يجوز أن يكون مصدراً من قولك : غَرَرْتَ فلاناً غُرُوراً ، شبه بالمتاع الذي يُدَلس به على المستام ، ويغر عليه حتى يشتريه ، ثم يظهر فَسَادُهُ لَهُ ، ومنه الحديث : " نهى عن بيع الغرر " ويجوز أن يكون جَمْعاً .

وقرأ عبد الله لفتح الغين{[6262]} وفسرها بالشيطان أن يكون فَعُولاً بمعنى مفعول ، أي : متاع الغُرُور ، أي : المخدوع : وأصل الغَرَر : الخدع .

قال سعيدُ بن جُبَيْرٍ : هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما مَنْ طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ .


[6254]:في أ: والحق من الباطل.
[6255]:البيت لأبي الأسود الدؤلي ينظر ديوانه ص 54، والأغاني 12/315، والأشباه والنظائر 6/206، وخزانة الأدب 11/374، 378، 379، والدرر 6/289، وشرح أبيات سيبويه 1/190، وشرح شواهد المغني 2/933، والكتاب 1/169، ولسان العرب (عتب)، والمقتضب 2/313، والمنصف 2/231، والإنصاف 2/659، ورصف المباني ص 49، 359، ومجالس ثعلب ص 149، وسر صناعة الإعراب 2/534، وشرح المفصل 2/6، 9/34، 35، ومغني اللبيب 2/555، وهمع الهوامع 2/199، والدر المصون 2/277.
[6256]:في أ: وقرأ.
[6257]:ونسبها ابن عطية في المحرر 1/550 إلى أبي حيوة والأعمش. وانظر: البحر المحيط 3/139، والدر المصون 2/276.
[6258]:تقدم.
[6259]:في أ: كالفأس والقدر.
[6260]:ينظر: البحر المحيط 3/136، والدر المصون 2/276.
[6261]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/189) وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.
[6262]:انظر: البحر المحيط 3/139، والدر المصون 2/278.