فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور158

( كل نفس ذائقة الموت ) من الذوق وهذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين ان الله فقير ونحن أغنياء ، وقرئ ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت ، وقرأ الجمهور بالإضافة .

والمعنى ذائقة موت أجسادها إذ النفس لا تموت ، ولو ماتت لما ذاقت الموت في حال موتها . لأن الحياة شرط في الذوق وسائر الإدراكات ، وقوله تعالى : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) معناه حين موت أجسادها ، قاله الكرخي .

وهذا يقتضي ان المراد بالنفس هنا الروح ، والحامل له على تفسيرها بذلك التأنيت في قوله ذائقة لأنها بمعنى الروح مؤنثة وتطلق أيضا على مجموع الجسد والروح الذي هو الحيوان ، وهي بهذا المعنى مذكر ، وهذا المعنى الثاني تصح إرادته هنا أيضا بل هو الأقرب المتبادر إلى الفهم .

( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) أجر المؤمن الثواب وأجر الكافر العقاب أي أن توفية الأجور وتكميلها على التمام إنما يكون في ذلك اليوم ، وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم :القبر روضة من رياض الجنة أو الحفرة من حفر النيران{[392]} .

( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) الزحزحة التنحية والإبعاد تكرير الزح وهو الجدب بعجلة ، قاله في الكشاف ، وقد سبق الكلام عليه أي فمن بعد عن النار يومئذ ونحى فقد ظفر بما يريد ونجا مما يخاف ، ونال غاية مطلبه .

وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه . فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشئ بالنسبة إليها إلا رؤية الله سبحانه وتعالى فهو أفضل نعيم الآخرة في الجنة ، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ولا عيش إلا عيشها ولا نعيم إلا نعيمها فاغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وارض عنا لا سخط بعده ، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة .

عن أب هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرؤوا إن شئتم ( فمن زحزح عن النار إلى قوله الغرور ) أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه وغيرهما{[393]} .

( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) المتاع كل ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ثم يزول ولا يبقى كذا قال أكثر المفسرين ، وقيل المتاع كالفارس والقدر والقصعة ونحوها ، والأول أولى ، والغرور إما مصدر أو جمع غار ، وقيل ما يغر الإنسان مما لا يدوم وقيل الباطل ، والغرور الشيطان يغر الناس بالأماني الباطلة والمواعيد الكاذبة .

شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده وله ظاهر محبوب ، وباطن مكروه ، قيل متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم ، قال سعيد بن جبير : هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من اشتغل بطلبها فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منها .


[392]:الترمذي كتاب القيامة الباب 26.
[393]:روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"موضع سوط الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئتم: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة، فقد فاز) ورواه أحمد في "المسند" والترمذي، والحاكم في "المستدرك"وصححه على شرط مسلم/ووافقه الذهبي.وروى الامام أحمد في "المسند"رقم6807، عن عبد الله بن عمرو، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه".ورواه الامام مسلم بأطول منه.