ثم أرسل إليه الرسل ، وأنزل عليه الكتب ، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبه{[1304]} فيها ، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله .
ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ، ورهبه منها ، وأخبره بما له إذا سلكها ، وابتلاه بذلك ، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه ، قائم بما حمله الله من حقوقه ، وإلى كفور لنعمة الله عليه ، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية ، فردها ، وكفر بربه ، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك .
وقوله - سبحانه - { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } تعليل لقوله : { نَّبْتَلِيهِ } ، وتفصيل لقوله - تعالى - { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } ، والمراد بالهداية هنا : الدلالة إلى طريق الحق ، والإِرشاد إلى الصراط المستقيم .
أى : إنا بفضلنا وإحساننا - قد أرشدنا الإِنسان إلى ما يوصله إلى طريق الحق والصواب ، وأرشدناه إلى ما يسعده ، عن طريق إرسال الرسل وتزويده بالعقل المستعد للتفكر والتدبر فى آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا .
وقوله : { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } حالان من ضمير الغيبة فى " هديناه " وهو ضمير الإِنسان .
و " إما " للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات : أو للتقسيم للمهدى بحسب اختلاف الذوات والصفات .
أى : إنا هديناه ودللناه على ما يوصله إلى الصراط المستقيم ، فى حالتى شكره وكفره ، لأنه إن أخذ بهدايتنا كان شاكرا ، وإن أعرض عنها كان جاحدا وكافرا لنعمنا ، فالهداية موجودة فى كل الأحوال ، إلا أن المنتفعين بها هم الشاكرون وحدهم .
ومثل ذلك كمثل رجلين ، يرشدهما مرشد إلى طريق النجاة ، فأحدهما يسير فى هذا الطريق فينجو من العثرات والمتاعب والمخاطر . . والآخر يعرض عن ذلك فيهلك .
ولما كان الشكر قل من يتصف به ، كما قال - سبحانه - : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } جاء التعبير بقوله - سبحانه - { شَاكِراً } بصيغة اسم الفاعل . ولما كان الجحود والكفر يعم أكثر الناس ، جاء التعبير بقوله - تعالى - { كَفُوراً } بصيغة المبالغة .
والمقصود من الآية الكريمة : قفل الباب أمام الذين يفسقون عن أمر ربهم ، ويرتكبون ما يرتكبون من السيئات . . ثم بعد ذلك يعلقون أفعالهم هذه على قضاء الله وقدره ، ويقولون - كما حكى القرآن عن المشركين - : { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ }
ثم زوده إلى جانب المعرفة ، بالقدرة على اختيار الطريق ، وبين له الطريق الواصل . ثم تركه ليختاره ، أو ليضل ويشرد فيما وراءه من طرق لا تؤدي إلى الله :
( إنا هديناه السبيل : إما شاكرا وإما كفورا ) . .
وعبر عن الهدى بالشكر . لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي ، بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئا مذكورا ، فأراد ربه له أن يكون شيئا مذكورا . ووهب له السمع والبصر . وزوده بالقدرة على المعرفة . ثم هداه السبيل . وتركه يختار . . الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة . فإذا لم يشكر فهو الكفور . . بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران .
ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث . ويدرك أنه مخلوق لغاية . وانه مشدود إلى محور . وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها . وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء . فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض ، لا في فترة لعب ولهو وإهمال ! ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة ، كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة ، وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء ! وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده ، ومن شعوره بحقيقة وجوده ، ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً * إِنّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إنا بينا له طريق الجنة ، وعرّفناه سبيله ، إن شكر ، أو كفر . وإذا وُجّه الكلام إلى هذا المعنى ، كانت إما وإما في معنى الجزاء . وقد يجوز أن تكون إما وإما بمعنى واحد ، كما قال : إمّا يُعَذّبُهُمْ وَإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فيكون قوله : إما شاكِرا وَإمّا كَفُورا حالاً من الهاء التي في هديناه فيكون معنى الكلام إذا وُجه ذلك إلى هذا التأويل : إنا هديناه السبيل ، إما شقيا وإما سعيدا . وكان بعض نحويي البصرة يقول ذلك كما قال : «إما العذاب وإما الساعة » كأنك لم تذكر إما قال : وإن شئت ابتدأت ما بعدها فرفعته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ قال : الشقوة والسّعادة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إمّا شاكِرا للنعم وإمّا كَفُورا . لها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ . . . إلى إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ قال : ننظر أيّ شيء يصنع ، أيّ الطريقين يسلك ، وأيّ الأمرين يأخذ ، قال : وهذا الاختبار .
وقوله تعالى : { إنا هديناه السبيل } يحتمل أن يريد { السبيل } العامة للمؤمن والكافر فذلك يختلق الحواس وموهبة الفطرة ونصب الصنعة الدالة على الصانع ، ف { هديناه } على هذا بمعنى أرشدناه كما يرشد الإنسان إلى الطريق ويوقف عليه ، ويحتمل أن يريد { السبيل } اسم الجنس ، أي هدى المؤمن إيمانه والكافر لكفره ف { هديناه } على هذا معناه أريناه وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان ، وقوله تعالى : { إما شاكراً وإما كفوراً } حالان وقسمتهما { إما } قاله أبو عمرو الداني ، وقرأ أبو العاج «إما شاكراً وإما كفوراً »{[11497]} وأبو العاج كثير بن عبد الله السلمي شامي ولى البصرة لهشام بن عبد الملك .