قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } أي : بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر .
وقال مجاهد : السبيل هنا خروجه من الرحم{[58814]} .
وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله .
فصل في أن العقل متأخر عن الحواس
قال ابن الخطيب{[58815]} : أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال ، قال : والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس ، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل .
قال الفراء : هذا يتعدى بنفسه وباللام .
قوله : { إِمَّا شَاكِراً } . نصب على الحال ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من مفعول «هَدَيْنَاهُ » أي : هديناه مبيناً له كلتا حالتيه .
قال أبو البقاء : وقيل : وهي حال مقدرة .
قال شهاب الدين{[58816]} : لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين .
والثاني : أنه حال من «السبيل » على المجاز .
قال الزمخشري : «ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل ، إما سبيلاً شاكراً ، وإما سبيلاً كفوراً ، كقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً » .
والعامة على كسر همزة «إما » ، وهي المرادفة ل «أو » وقد تقدم خلاف النحويين فيها .
ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا : «إن » الشرطية زيدت بعدها «ما » ثم قال : «وهذا لا يجيزه البصريون ؛ لأن » إن «الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 6 ] ، ولا يصح إضمار الفعل ، ويمكن أن يضمر فعل ينصب «شاكر » ، وأيضاً لا دليل على الفعل » انتهى .
قال شهاب الدين{[58817]} : لا نسلم أنه يلزم رفع «شاكراً » مع إضمار الفعل ، ويمكن أن يضمر فعل ينصب «شاكراً » تقديره : إنا خلقناه شاكراً فشكوراً ، وإنا حلقناه كافراً فكفوراً .
وقرأ أبو السمال{[58818]} ، وأبو العجاج : بفتحها ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنها العاطفة وأنها لغة ، وبعضهم فتح الهمزة ؛ وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]
5026- تُنفِّخُهَا أمَّا شِمالٌ عَرِيَّةٌ *** وأمَّا صَبَا جُنحِ العَشِيِّ هَبُوبُ{[58819]}
ويجوز مع فتح الهمزة إبدال ميمها الأولى ياء ؛ قال [ البسيط ]
5027- *** أيْمَا إلَى جَنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ{[58820]}***
والثاني : أنها «إما » التفصيلية وجوابها مقدر .
قال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكراً فبتوفيقنا ، وإما كفوراً فبسوء اختياره انتهى ، ولم يذكر غيره .
قال ابن الخطيب بعد حكايته أن «شاكراً وكفوراً » حالان : إنّ المعنى : كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان .
وقيل : وانتصب «شاكراً وكفوراً » بإضمار «كان » والتقدير : سواء كان شاكراً أو كان كفوراً .
وقيل : معناه إنا هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً ، أي يتميز شكره من كفره ، وطاعته من معصيته كقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] قال القفال : ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك : «قد نصحت لك إن شئت فاقبل ، وإن شئت قاترك » فتحذف الفاء ، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد ، أي : إنا هديناه السبيل ، فإن شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] .
وقيل : حالان من السبيل ، فإن شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر .
وقيل : حالان من السبيل ، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز .
قال ابن الخطيب{[58821]} {[58822]} : وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة .
وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون «إما » في هذه الآية كما في قوله تعالى : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] والتقدير : إنا هديناه السبيل ، ثم جعلناه تارة شاكراً ، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة ، قالت المعتزلة : هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } ، ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه ، ولما بطل هذا التأويل الأول ، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين ، سواء آمن أو كفر ، وبهذا بطل قول المجبرة .
وأجيب : بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان ، وهذا تكليف بالجمع بين متنافيين ، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضا أن يخلق الكفر فيه ، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد ، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هو الحق ، وبطل تأويل المعتزلة .
فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور
قال القرطبي{[58823]} : «جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر ، وإثباتاً لها في الكفر ؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة ، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه ، حكاه الماوردي » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.