اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا} (3)

قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } أي : بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر .

وقال مجاهد : السبيل هنا خروجه من الرحم{[58814]} .

وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله .

فصل في أن العقل متأخر عن الحواس

قال ابن الخطيب{[58815]} : أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال ، قال : والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس ، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل .

قال الفراء : هذا يتعدى بنفسه وباللام .

قوله : { إِمَّا شَاكِراً } . نصب على الحال ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه حال من مفعول «هَدَيْنَاهُ » أي : هديناه مبيناً له كلتا حالتيه .

قال أبو البقاء : وقيل : وهي حال مقدرة .

قال شهاب الدين{[58816]} : لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين .

والثاني : أنه حال من «السبيل » على المجاز .

قال الزمخشري : «ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل ، إما سبيلاً شاكراً ، وإما سبيلاً كفوراً ، كقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً » .

والعامة على كسر همزة «إما » ، وهي المرادفة ل «أو » وقد تقدم خلاف النحويين فيها .

ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا : «إن » الشرطية زيدت بعدها «ما » ثم قال : «وهذا لا يجيزه البصريون ؛ لأن » إن «الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 6 ] ، ولا يصح إضمار الفعل ، ويمكن أن يضمر فعل ينصب «شاكر » ، وأيضاً لا دليل على الفعل » انتهى .

قال شهاب الدين{[58817]} : لا نسلم أنه يلزم رفع «شاكراً » مع إضمار الفعل ، ويمكن أن يضمر فعل ينصب «شاكراً » تقديره : إنا خلقناه شاكراً فشكوراً ، وإنا حلقناه كافراً فكفوراً .

وقرأ أبو السمال{[58818]} ، وأبو العجاج : بفتحها ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنها العاطفة وأنها لغة ، وبعضهم فتح الهمزة ؛ وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]

5026- تُنفِّخُهَا أمَّا شِمالٌ عَرِيَّةٌ *** وأمَّا صَبَا جُنحِ العَشِيِّ هَبُوبُ{[58819]}

بفتح الهمزة .

ويجوز مع فتح الهمزة إبدال ميمها الأولى ياء ؛ قال [ البسيط ]

5027- *** أيْمَا إلَى جَنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ{[58820]}***

وحذف الواو بينهما .

والثاني : أنها «إما » التفصيلية وجوابها مقدر .

قال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكراً فبتوفيقنا ، وإما كفوراً فبسوء اختياره انتهى ، ولم يذكر غيره .

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب بعد حكايته أن «شاكراً وكفوراً » حالان : إنّ المعنى : كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان .

وقيل : وانتصب «شاكراً وكفوراً » بإضمار «كان » والتقدير : سواء كان شاكراً أو كان كفوراً .

وقيل : معناه إنا هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً ، أي يتميز شكره من كفره ، وطاعته من معصيته كقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] قال القفال : ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك : «قد نصحت لك إن شئت فاقبل ، وإن شئت قاترك » فتحذف الفاء ، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد ، أي : إنا هديناه السبيل ، فإن شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] .

وقيل : حالان من السبيل ، فإن شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر .

وقيل : حالان من السبيل ، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز .

قال ابن الخطيب{[58821]} {[58822]} : وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة .

وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون «إما » في هذه الآية كما في قوله تعالى : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] والتقدير : إنا هديناه السبيل ، ثم جعلناه تارة شاكراً ، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة ، قالت المعتزلة : هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } ، ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه ، ولما بطل هذا التأويل الأول ، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين ، سواء آمن أو كفر ، وبهذا بطل قول المجبرة .

وأجيب : بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان ، وهذا تكليف بالجمع بين متنافيين ، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضا أن يخلق الكفر فيه ، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد ، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هو الحق ، وبطل تأويل المعتزلة .

فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور

قال القرطبي{[58823]} : «جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر ، وإثباتاً لها في الكفر ؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة ، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه ، حكاه الماوردي » .


[58814]:ذكره الماوردي (6/164) والقرطبي (19/80) عن أبي صالح والضحاك والسدي.
[58815]:الفخر الرازي 30/210.
[58816]:الدر المصون 6/438.
[58817]:السابق.
[58818]:ينظر المحرر الوجيز 5/409، والبحر المحيط 8/386.
[58819]:البيت لأبي القمقام الأسدي ينظر خزانة الأدب 11/87، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور 1/232، والبحر 8/387، والدر المصون 6/439.
[58820]:تقدم.
[58821]:الفخر الرازي 30/211.
[58822]:السابق.
[58823]:الجامع لأحكام القرآن 19/80.