تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا} (3)

وقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } أي : بيناه له ووضحناه وبصرناه به ، كقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] ، وكقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، أي : بينا له طريق الخير وطريق الشر . وهذا قول عكرمة ، وعطية ، وابن زيد ، ومجاهد - في المشهور عنه - والجمهور .

ورُوي عن مجاهد ، وأبي صالح ، والضحاك ، والسدي أنهم قالوا في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } يعني خروجه من الرحم . وهذا قول غريب ، والصحيح المشهور الأول .

وقوله : { إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } منصوب على الحال من " الهاء " في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } تقديره : فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل الناس يَغْدو ، فبائع نفسه فموبقها أو مُعْتقها " {[29584]} . وتقدم في سورة " الروم " عند قوله : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] من رواية جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعربَ عنه لسانه ، فإذا أعرب عنه لسانه ، فإما شاكرًا وإما كفورًا " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبري ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان : رايةٌ بيد مَلَك ، وراية بيد شَيطان ، فإن خرج لما يُحِبّ اللهُ اتبعَه المَلَك برايته ، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته . وإن خرج لما يُسخط الله اتبعه الشيطان برايته ، فلم يزل تحت راية الشيطان ، حتى يرجع إلى بيته " {[29585]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن ابن خُثَيم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجرَة : " أعاذك الله من إمارة السفهاء " . قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : " أمراء يكونون من بعدي ، لا يهتدون بهداي ، ولا يستَنّونَ بسنتي ، فمن صَدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يَردُون على حوضي . ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يُعِنهم على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم ، وسيردون على حوضي . يا كعب بن عُجرَة ، الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، والصلاة قربان - أو قال : برهان - يا كعبَ بنَ عجرَة ، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحْت ، النار أولى به . يا كعب ، الناس غَاديان ، فمبتاعُ نفسَه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها " .

ورواه عن عَفّان ، عن وُهَيب{[29586]} ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، به{[29587]} .


[29584]:- (1) صحيح مسلم برقم (223).
[29585]:- (2) المسند (2/323).
[29586]:- (3) في أ: "عن وهب".
[29587]:- (4) المسند (3/321).