الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إنا هديناه السبيل} يعنى سبيل الضلالة والهدى {إما شاكرا} أن يكون {شاكرا} يعني موحدا في حسن خلقه لله تعالى {وإما كفورا} فلا يوحده، وأيضا إما شاكرا لله في حسن خلقه وإما كفورا، يجعل هذه النعم لغير الله.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ": إنا بينا له طريق الجنة، وعرّفناه سبيله، إن شكر، أو كفر. وإذا وُجّه الكلام إلى هذا المعنى، كانت إما وإما في معنى الجزاء.

وقد يجوز أن تكون إما وإما بمعنى واحد، كما قال: "إمّا يُعَذّبُهُمْ وَإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ" فيكون قوله: "إما شاكِرا وَإمّا كَفُورا" حالاً من الهاء التي في هديناه، فيكون معنى الكلام إذا وُجه ذلك إلى هذا التأويل: "إنا هديناه السبيل"، إما شقيا وإما سعيدا.

عن مجاهد، قوله: "إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ" قال: الشقوة والسّعادة.

عن قتادة، قوله: "إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ" إمّا شاكِرا للنعم وإمّا كَفُورا لها.

قال ابن زيد، في قوله: " إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ" قال: ننظر أيّ شيء يصنع، أيّ الطريقين يسلك، وأيّ الأمرين يأخذ، قال: وهذا الاختبار.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل قوله عز وجل {إنا هديناه السبيل} أوجها ثلاثة:

أحدها: هديناه السبيل لإصلاح بدنه ومعاشه.

والثاني: هديناه السبيل الذي يصل به إلى استبقاء النسل والتوالد إلى يوم التنادي.

والثالث: هديناه السبيل الذي يرجع إلى إصلاح دينه وأمر آخرته باكتساب المحامد والمحاسن.

وقوله تعالى: {إما شاكرا وإما كفورا} إنه قد بين لهم السبيل، وهداهم إليه، ثم منهم من يختار الشكر، ومنهم من يختار الكفران له.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{إنّا هَدَيْناه السّبيلَ} فيه أربعة تأويلات:

أحدها: سبيل الخير والشر، قاله عطية.

الثاني: الهدى من الضلالة، قاله عكرمة.

...

...

...

...

...

...

...

...

....

....

{إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً} فيه وجهان:

وجمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور -مع اجتماعهما في معنى المبالغة- نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر، لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره لكثرة النعم عليه، وكثر كفره وإن قل مع الإحسان إليه.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

أعذرنا إليه في بيان الطريق ببعث الرسول، آمن أو كفر.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

شاكراً وكفوراً: حالان من الهاء في هديناه، أي: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً. أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل «السمع» كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة.

ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أي: عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً كقوله: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.

وقرأ أبو السّمّال بفتح الهمزة في (أما) وهي قراءة حسنة والمعنى: أما شاكراً فبتوفيقنا، وأما كفوراً فبسوء اختياره.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل} يحتمل أن يريد {السبيل} العامة للمؤمن والكافر فذلك يختلق الحواس وموهبة الفطرة ونصب الصنعة الدالة على الصانع، ف {هديناه} على هذا بمعنى أرشدناه كما يرشد الإنسان إلى الطريق ويوقف عليه، ويحتمل أن يريد {السبيل} اسم الجنس، أي هدى المؤمن لإيمانه والكافر لكفره ف {هديناه} على هذا معناه أريناه وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{إنا} أي بما لنا من العظمة {هديناه} أي بينا له لأجل الابتلاء {السبيل} أي الطريق الواضح الذي لا طريق في الحقيقة غيره، وهو طريق الخير الذي من حاد عنه ضل، وذلك بما أنزلنا من الكتب وأرسلنا من الرسل ونصبنا من الدلائل في الأنفس والآفاق، وجعلنا له من البصيرة التي يميز بها بين الصادق والكاذب وكلام الخلق وكلام الخالق والحق والباطل وما أشبهه.

ولما كان الإنسان عند البيان قد كان منه قسمان، وكان السياق لبيان تعظيمه بأنه خلاصة الكون والمقصود من الخلق، قال بانياً حالاً من ضميره في "هديناه " مقسماً له مقدماً القسم الذي أتم عليه بالبيان نعمة الهداية بخلق الإيمان، لأن ذلك أنسب بذكر تشريفه للإنسان، بجعله خلاصة الوجود وبقوله: " إن رحمتي سبقت غضبي " في سياق ابتداء الخلق، معبراً باسم الفاعل الخالي عن المبالغة، لأنه لا يقدر أحد أن يشكر جميع النعم، فلا يسمى شكوراً إلا بتفضل من ربه عليه: {إما شاكراً} أي لإنعام ربه عليه.

ولما كان الإنسان، لما له من النقصان، لا ينفك غالباً عن كفر ما، أتى بصيغة المبالغة تنبيهاً له على ذلك معرفاً له أنه لا يأخذه إلاّ بالتوغل فيه ليعرف نعمة الحلم عنه فيحمله الخجل على الإقبال على من يرضى منه بقليل الشكر، ويحتمل أن يفهم ذلك أن من كفر نعمة واحدة فقد كفر الجميع فصار بليغ الكفر فقال: {وإما كفوراً} أي بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب وعبادة الغير والمعاندة فإحسانه غير موف وإساءته مفرطة، وبدأ بالشكر لأنه الأصل، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث، ورواه أحمد بن منيع عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه ولفظه: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً " رواه الإمام أحمد أيضاً وأبو يعلى عن الأسود بن سريع رضي الله عنه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنا هديناه السبيل: إما شاكرا وإما كفورا).. وعبر عن الهدى بالشكر. لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي، بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئا مذكورا، فأراد ربه له أن يكون شيئا مذكورا. ووهب له السمع والبصر. وزوده بالقدرة على المعرفة. ثم هداه السبيل. وتركه يختار.. الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة. فإذا لم يشكر فهو الكفور.. بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران. ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث. ويدرك أنه مخلوق لغاية. وانه مشدود إلى محور. وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها. وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء. فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض، لا في فترة لعب ولهو وإهمال! ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة، كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة، وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء! وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده، ومن شعوره بحقيقة وجوده، ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} الذي يؤدي به إلى الله من خلال ما يدركه عقله وما يتحرك فيه سمعه وبصره، وما يوحي به الله إليه، أو يلهمه معرفته بفطرته الصافية... ومنحناه حرية الاختيار بين الخير أو الشرّ، سواء في الالتزام بطاعة الله كتعبيرٍ حيٍّ عن شكره له من ناحيةٍ عمليةٍ، أو الالتزام بمعصيته كتجسيدٍ حيٍّ للكفر بالنعمة، من ناحيةٍ واقعيةٍ.

{إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} فهو بين هذين الخطين، وما ينفتح عليه من خيارات من دون أن يواجه أيّ ضغطٍ تكوينيٍّ في إبعاده عن عملية الاختيار.

وإذا أردنا أن نواجه مسألة الاختيار بين شكر النعمة باختيار الإيمان، وكفرها باختيار الكفر والعصيان، فإننا نلاحظ أن الناس بين مَنْ يستجيب لنداء فطرته التي تمثّل سرّ العمق في تكوينه، أو لإِرشاد عقله الذي يوازن بين الحسن والقبح في حقائق الأشياء، أو للاستماع إلى وحي الله وحديث الأنبياء اللذين يفتحان حياة الإنسان على معرفة الخير والشر، والصلاح والفساد، ليختار الصلاح بدلاً من الفساد، وليتبع الخير بدلاً من الشرّ، وبين من لا يستجيب لذلك كله من خلال العوامل الطارئة في حركة الغريزة لديه، أو في نوازع الذات في شخصه، أو في نقاط الضعف في حياته، أو في طبيعة الظروف الضاغطة المحيطة به.

وهكذا يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام مسألة الهداية، في عنصرها الإيجابي أو السلبي، ليواجه مصيره على أساس مسألة الاختيار لديه. فإن الله لم يضغط عليه ليحوّل إرادته إلى ما يحبه له بالضغط التكويني الذي يشلّ إرادته ويمنعها عن الحركة، ولكنه أثار أمامه النتائج الأخروية، في مسألة الثواب والعقاب، ليضغط عليه ضغطاً معنوياً في جانب الإحساس، ليكون اختياره خاضعاً للتفكير بالنتائج، كما هو خاضع للجانب الموضوعي الذي تتحرك فيه الأشياء.