قوله تعالى : { وقيل للذين اتقوا } وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه ، فيقولون : ساحر ، كاهن ، شاعر ، كذاب ، مجنون ، ولو لم تلقه خير ، فيقول السائل : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة فألقاه ، فيدخل مكة فيرى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث . فذلك قوله : { وقيل للذين اتقوا } { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } يعني : أنزل خيراً . ثم ابتدأ فقال : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } ، كرامة من الله . قال ابن عباس :هي تضعيف الأجر إلى العشر . وقال الضحاك : هي النصر والفتح . وقال مجاهد : هي الرزق الحسن . { ولدار الآخرة } ، أي ولدار الحال الآخرة ، { خير ولنعم دار المتقين } ، قال الحسن : هي الدنيا ، لأن أهل التقوى يتزودون فيها للآخرة . وقال أكثر المفسرين : هي الجنة ، ثم فسرها فقال { جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين } .
{ 30 - 32 ْ } { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ }
لما ذكر الله قيل المكذبين بما أنزل الله ، ذكر ما قاله المتقون ، وأنهم اعترفوا وأقروا بأن ما أنزله الله نعمة عظيمة ، وخير عظيم امتن الله به على العباد ، فقبلوا تلك النعمة ، وتلقوها بالقبول والانقياد ، وشكروا الله عليها ، فعلموها وعملوا لها { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ْ } في عبادة الله تعالى ، وأحسنوا إلى عباد الله فلهم { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ْ } رزق واسع ، وعيشه هنية ، وطمأنينة قلب ، وأمن وسرور .
{ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ْ } من هذه الدار وما فيها من أنواع اللذات والمشتهيات ، فإن هذه نعيمها قليل محشو بالآفات منقطع ، بخلاف نعيم الآخرة ولهذا قال : { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ْ }
فقوله - سبحانه - : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً . . } بيان لما رد به المؤمنون الصادقون ، على من سألهم عما أنزله الله - تعالى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو معطوف على ما قبله ، للمقابلة بين ما قاله المتقون ، وما قاله المستكبرون .
ووصفهم بالتقوى ، للاشعار بأن صيانتهم لأنفسهم عن ارتكاب ما نهى الله - تعالى - عنه ، وخوفهم منه - سبحانه - ومراقبتهم له ، كل ذلك حملهم على أن يقولوا هذا القول السديد . وكلمة { خيرا } مفعول لفعل محذوف أى : أنزل خيرا . أى : رحمة وبركة ونورا وهداية ، إذ لفظ { خيرا } من الألفاظ الجامعة لكل فضيلة .
قال صاحب الكشاف : فان قلت لم نصب هذا ورفع الأول ؟ .
قلت : فَصْلاً بين جواب المقر وجواب الجاحد ، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإِنزال ، فقالوا خيرا . أى أنزل خيرا . وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس من الإِنزال فى شئ .
وقوله - سبحانه - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } جملة مستأنفة لبيان ماوعدهم به - تعالى - على أعمالهم الصالحة من أجر وثواب .
أى : هذه سنتنا فى خلقنا أننا نجازى الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن الكريم ، دون أن نضيع من أعمالهم شيئا .
وقوله { حسنة } صفة لموصوف محذوف أى : مجازاة حسنة بسبب أعمالهم الصالحة .
كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ثم بين - سبحانه - جزاءهم فى الآخرة فقال : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } . والمراد بدار المتقين : الجنة ونعيمها .
و { خير } صيغة تفضيل ، حذفت همزتها لكثرة الاستعمال على سبيل التخفيف ، كما قال ابن مالك :
وغالبا أغناهم خير وشر . . . عن قولهم أخير منه وأشر
ونعم : فعل ماض لإِنشاء المدح ، وهو ضد بئس .
والمعنى : ولدار الآخرة ومافيها من عطاء غير مقطوع ، خير لهؤلاء المتقين مما أعطيناهم فى الدنيا ، ولنعم دارهم هذه الدار . قال - تعالى - : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى } ووصفها - سبحانه - بالآخرة ، لأنها آخر المنازل ، فلا انتقال عنها إلى دار أخرى ، كما قال - تعالى - : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ما يدل عليه ، والتقدير : ولنعم دار المتقين ، دار الآخرة .
وعلى الجانب الآخر . . الذين اتقوا . . يقابلون المتكبرين المستكبرين في المبدأ والمصير :
( وقيل للذين اتقوا : ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا : خيرا . للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ، ولدار الآخرة خير ، ولنعم دار المتقين . جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار ، لهم فيها ما يشاءون ، كذلك يجزي الله المتقين . الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، يقولون : سلام عليكم ، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) . .
إن المتقين يدركون أن الخير هو قوام هذه الدعوة ، وقوام ما أنزل ربهم من أمر ونهي وتوجيه وتشريع . فيلخصون الأمر كله في كلمة : قالوا : خيرا ثم يفصلون هذا الخير حسبما علموا مما أنزل الله : ( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) حياة حسنة ومتعة حسنة ، ومكانة حسنة . ( ولدار الآخرة خير ) من هذه الدار الدنيا ( ولنعم دار المتقين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِيلَ لِلّذِينَ اتّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وقيل للفريق الاَخر الذين هم أهل إيمان وتقوى لله : ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ قالُوا خَيْرا يقول : قالوا : أنزل خيرا . وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يقول : إنما اختلف الأعراب في قوله : قالُوا أساطِيرُ الأوّلِينَ ، وقوله : خَيْرا ، والمسئلة قبل الجوابين كليهما واحدة ، وهي قوله : ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ لأن الكفار جحدوا التنزيل ، فقالوا حين سمعوه : أساطير الأوّلين ، أي هذا الذي جئت به أساطير الأوّلين ولم ينزل الله منه شيئا . وأما المؤمنون فصدّقوا التنزيل ، فقالوا خيرا بمعنى أنه أنزل خيرا ، فانتصب بوقوع الفعل من الله على الخير ، فلهذا افترقا ثم ابتدأ الخبر فقال : لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةٌ . وقد بيّنا
القول في ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
وقوله : لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةٌ يقول تعالى ذكره : للذين آمنوا بالله في هذه الدنيا ورسوله وأطاعوه فيها ودعوا عباد الله إلى الإيمان والعمل بما أمر الله به حَسَنَةٌ يقول : كرامة من الله ، وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ يقول : ولدار الاَخرة خير لَهُمْ مِنْ دَارِ الدّنْيا ، وكرامة الله التي أعدّها لهم فيها أعظم من كرامته التي عجلها لهم في الدنيا وَلَنِعْمَ دَارُ المُتّقينَ يقول : ولنعم دار الذين خافوا الله في الدنيا فاتقوا عقابه بأداء فرائضه وتجنب معاصيه دار الاَخرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقِيلَ لِلّذِينَ اتّقُوا ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ قالُوا خَيْرا لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةٌ وهؤلاء مؤمنون ، فيقال لهم : ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ فيقولون خَيْرا لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةٌ : أي آمنوا بالله وأمروا بطاعة الله ، وحثوا أهل طاعة الله على الخير ودعوهم إليه .
{ وقيل للذين اتقوا } يعني المؤمنين . { ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا } أي أنزل خيرا ، وفي نصبه دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب ، وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة . روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء الوافد المقتسمين قالوا له ما قالوا وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك . { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } مكافأة في الدنيا . { ولدار الآخرة خير } أي ولثوابهم في الآخرة خير منها ، وهو عدة للذين اتقوا على قولهم ، ويجوز أن يكون بما بعده حكاية لقولهم بدلا وتفسيرا ل { خيرا } على أنه منتصب ب { قالوا } . { ولنعم دار المتقين } دار الآخرة فحذفت لتقدم ذكرها .
وقوله { وقيل للذين اتقوا } الآية ، لما وصف تعالى مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين ، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأوجب لكل فريق ما يستحق لتتباين المنازل بين الكفر والإيمان ، و { ماذا } تحتمل ما ذكر في التي قبلها{[7286]} ، وقولهم { خيراً } جواب بحسب السؤال ، واختلف المتأولون في قوله تعالى { للذين أحسنوا } إلى آخر الآية ، فقالت فرقة : هو ابتداء كلام من الله مقطوع مما قبله ، لكنه بالمعنى وعد متصل بذكر إحسان المتقين في مقالتهم ، وقالت فرقة : هو من كلام الذين { قالوا خيراً } وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي على نبينا{[7287]} خبراً أن من أحسن في الدنيا بطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة ، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة »{[7288]} وقد تقدم القول في إضافة «الدار » إلى الآخرة وباقي الآية بين .
{ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا }
لمّا افتتحت صفة سيّئات الكافرين وعواقبها بأنّهم إذا قيل لهم { ماذا أنزل ربكم } [ سورة النحل : 24 ] قالوا : { أساطير الأولين } [ سورة النحل : 24 ] ، جاءت هنا مقابلة حالهم بحال حسنات المؤمنين وحسن عواقبها ، فافتتح ذلك بمقابل ما افتتحت به قصّة الكافرين ، فجاء التنظير بين القصّتين في أبدع نظم .
وهذه الجملة معطوفة على الجمل التي قبلها ، وهي معترضة في خلال أحوال المشركين استطراداً . ولم تقترن هذه الجملة بأداة الشرط كما قرنت مقابلتها بها وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم } ، لأن قولهم : { أساطير الأولين } لما كان كذبا اختلقوه كان مظنة أن يقلع عنه قائلهُ وأن يرعوي إلى الحقّ وأن لا يجمع عليه القائلون ، قرن بأداة الشرط المقتضية تكرّر ذلك للدّلالة على إصْرارهم على الكفر ، بخلاف ما هنا فإن الصّدق مظنّة استمرار قائله عليه فليْس بحاجة إلى التّنبيه على تكرّره منه .
والذين اتّقوا : هم المؤمنون لأن الإيمان تقوى الله وخشية غضبه . والمراد بهم المؤمنون المعهودون في مكّة ، فالموصول للعهد .
والمعنى أنّ المؤمنين سئُلوا عن القرآن ، ومن جاء به ، فأرشدوا السائلين ولم يتردّدوا في الكشف عن حقيقة القرآن بأوجز بيان وأجمعه ، وهو كلمة { خيراً } المنصوبة ، فإن لفظها شامل لكلّ خير في الدّنيا وكلّ خير في الآخرة ، ونصبَها دال على أنّهم جعلوها معمولة ل { أنزل } الواقع في سؤال السائلين ، فدل النّصب على أنّهم مصدّقون بأنّ القرآن منزل من عند الله ، وهذا وجه المخالفة بين الرفع في جواب المشركين حين قيل لهم : { ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } [ سورة النحل : 24 ] بالرّفع وبين النصب في كلام المؤمنين حين قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } بالنّصب . وقد تقدم ذلك آنفاً عند قوله تعالى : { قالوا أساطير الأولين } .
{ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين } .
مستأنفة ابتدائية ، وهي كلامٌ من الله تعالى مثل نظيرها في آية { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة } في سورة الزمر ( 10 ) ، وليست من حكاية قول الذين اتّقوا .
والّذين أحسنوا : هم المتقون فهو من الإظهار في مقام الإضمار توصّلا بالإتيان بالموصول إلى الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، أي جزاؤهم حسنة لأنهم أحسنوا .
وقوله تعالى : { في هذه الدنيا } يجوز أن يتعلق بفعل { أحسنوا } . ويجوز أن يكون ظرفاً مستقرّاً حالاً من { حسنة } . وانظر ما يأتي في نظر هذه الآية من سورة الزمر من نكتة هذا التوسيط .
ومعنى { ولدار الآخرة خير } أنّها خير لهم من الدّنيا فإذا كانت لهم في الدنيا حسنة فلهم في الآخرة أحسن ، فكما كان للّذين كفروا عذاب الدّنيا وعذاب جهنّم كان للّذين اتّقوا خيرُ الدّنيا وخير الآخرة .
فهذا مقابل قوله تعالى في حقّ المشركين { ليحملوا أوزارهم كاملة } [ سورة النحل : 25 ] وقوله تعالى : { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } [ سورة النحل : 26 ] .
وحسنة الدّنيا هي الحياة الطيّبة وما فتح الله لهم من زهرة الدنيا مع نعمة الإيمان . وخير الآخرة هو النّعيم الدّائم ، قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ولنجزيّنهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 97 ] .
وقوله تعالى : { ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها } مقابل قوله تعالى في ضدّهم { فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } [ سورة النحل : 29 ] .
وقد تقدّم آنفاً وجه تسمية جهنّم مثوى والجنّة داراً .
و ( نِعم ) فعل مدح غير متصرّف ، ومرفوعُهُ فاعل دالّ على جنس الممدوح ، ويذكر بعده مرفوع آخر يسمّى المخصوص بالمدح ، وهو مبتدأ محذوف الخبر ، أو خبر محذوفُ المبتدإ . فإذا تقدّم ما يدلّ على المخصوص بالمدح لم يذكر بعد ذلك كما هنا ، فإنّ تقدم { ولدار الآخرة } دلّ على أنّ المخصوص بالمدح هو دار الآخرة . والمعنى : ولنعم دار المتّقين دار الآخرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقيل للذين اتقوا}، يعني: الذين عبدوا ربهم: {ماذا أنزل ربكم قالوا} أنزل {خيرا}، وذلك أن الرجل كان يبعثه قومه وافدا إلى مكة ليأتيهم بخبر محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتي الموسم، فيمر على هؤلاء الرهط من قريش الذين على طرق مكة، فيسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيصدونه عنه لئلا يلقاه، فيقول: بئس الرجل الوافد أنا لقومي أن أرجع قبل أن ألقى محمدا صلى الله عليه وسلم وأنا منه على مسيرة ليلة أو ليلتين، وأسمع منه، فيسير حتى يدخل مكة، فيلقي المؤمنين، فيسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن قولهم، فيقولون للوافد: أنزل الله عز وجل خيرا، بعث رسولا صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتابا يأمر فيه بالخير، وينهي عن الشر، ففيهم نزلت: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا}، ثم انقطع الكلام، يقول الله سبحانه: {للذين أحسنوا} العمل {في هذه الدنيا} لهم {حسنة} في الآخرة، يعني الجنة، {ولدار الآخرة خير}، يعني: الجنة أفضل من ثواب المشركين في الدنيا الذي ذكر في هذه الآية الأولى، يقول الله تعالى: {ولنعم دار المتقين}... يثني على الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقيل للفريق الآخر الذين هم أهل إيمان وتقوى لله:"ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ قالُوا خَيْرا" يقول: قالوا: أنزل خيرا. وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يقول: إنما اختلف الأعراب في قوله: "قالُوا أساطِيرُ الأوّلِينَ"، وقوله: "خَيْرا"، والمسألة قبل الجوابين كليهما واحدة، وهي قوله: "ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ"، لأن الكفار جحدوا التنزيل، فقالوا حين سمعوه: "أساطير الأوّلين"، أي هذا الذي جئت به أساطير الأوّلين ولم ينزل الله منه شيئا. وأما المؤمنون فصدّقوا التنزيل، فقالوا: "خيرا "بمعنى: أنه أنزل خيرا... ثم ابتدأ الخبر فقال: "لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةٌ"...
وقوله: "لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةٌ" يقول تعالى ذكره: للذين آمنوا بالله في هذه الدنيا ورسوله وأطاعوه فيها ودعوا عباد الله إلى الإيمان والعمل بما أمر الله به "حَسَنَةٌ" يقول: كرامة من الله،
"وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ" يقول: ولدار الآخرة خير لَهُمْ مِنْ دَارِ الدّنْيا، وكرامة الله التي أعدّها لهم فيها أعظم من كرامته التي عجلها لهم في الدنيا، "وَلَنِعْمَ دَارُ المُتّقينَ" يقول: ولنعم دار الذين خافوا الله في الدنيا فاتقوا عقابه بأداء فرائضه وتجنب معاصيه دار الآخرة...
عن قتادة، قوله: "وَقِيلَ لِلّذِينَ اتّقُوا ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ قالُوا خَيْرا لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةٌ" وهؤلاء مؤمنون، فيقال لهم: "ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ فيقولون خَيْرا لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةٌ": أي آمنوا بالله وأمروا بطاعة الله، وحثوا أهل طاعة الله على الخير ودعوهم إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم اختلف في قوله: {خيرا}: قال بعضهم: قوله: {قالوا خيرا} أي قولهم الذي قالوا: إنه أرسل بحق، وإنه خير.
وقال بعضهم: قوله: {قالوا خيرا} حكاية عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا، أي أنزل عليه ربنا خيرا، وإذا سألوا الكفرة قالوا {أساطير الأولين}.
وجائز أن يكون اتباع المؤمنين سألوا كبراءهم: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} مقابل ما كان من كبراء الكفرة لأتباعهم {أساطير الأولين}.
{للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} من النصر لهم والظفر على عدوهم
{ولدار الآخرة خير} لهم مما كان أعطاهم في الدنيا، أي الجنة خير وأفضل للمؤمنين مما أوتوا في الدنيا
{ولنعم دار المتقين}، قال هذا للمؤمنين: مكان ما قال للكافرين {فلبئس مثوى المتكبرين} ثم نعت الدار التي وعد للمتقين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{خَيْرًا} أنزل خيراً فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال، فقالوا خيراً: أي أنزل خيراً، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين، وليس من الإنزال في شيء.
{لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} وما بعده بدل من خيراً، حكاية لقوله: {لّلَّذِينَ اتقوا} أي: قالوا هذا القول، فقدّم عليه تسميته خيراً ثم حكاه. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ عدة للقائلين، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم ويحمدوه عليه
كقوله {فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} [آل عمران: 148]. {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تم الخبر عن المنكر لما أنزل الله على ألسنة الملائكة من الروح من أمره على الأنبياء عليهم السلام، إنكاراً لفضلهم وتكبراً بما ليس لهم، بالاعتراض على خالقهم، ابتدأ الخبر عن المقرين تصديقاً لهداتهم واعترافاً بفضلهم وتسليماً لمن هم عبيده في تفضيل من يشاء، منبهاً على الوصف الذي أوجب لهم الاعتراف بالحق، فقال حاذفاً ل "إذا "دلالة على الرضى بأيسر شيء من الخير والمدح عليه ولو لم يتكرر: {وقيل للذين اتقوا} أي خافوا عقاب الله {ماذا} أي أي شيء {أنزل ربكم} أي المحسن إليكم من روحه المحيي للأرواح، على رسوله {قالوا} معترفين بالإنزال، غير متوقفين في المقال، فاهمين أن ذا مؤكدة للاستفهام لا بمعنى الذي: أنزل {خيراً} وإنما أطبق القراء على نصب هذا ورفع الأول فرقاً بين جوابي المقر والجاحد بمطابقة المقر بين الجواب والسؤال، وعدول الجاحد بجوابه عن السؤال؛ ثم أخذ يرغب بما لهم من حسن المآل على وجه الجواب لسؤال من كأنه قال: ما لهم على ذلك؟ فقيل مظهراً موضع الإضمار مدحاً لهم وتعميماً لمن اتصف بوصفهم: {للذين أحسنوا} فبين أن اعترافهم بذلك إحسان؛ ثم أخبر عنه بقوله: {في هذه الدنيا حسنة} أي جزاء لهم على إحسانهم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60].
ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال، أخبر عن حالهم في الآخرة فقال: {ولدار الآخرة خير} أي جزاء ومصيراً؛ ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} أي هي، مرغباً في الوصف الذي كان سبب حيازتهم لها، وهو الخوف المنافي لما وصف به الأشرار من الاستكبار، بإظهاره موضع الإضمار وحذف المخصوص بالمدح لتقدم ما يدل عليه، وهو صالح لتقدير الدنيا -أي لمن عمل فيها بالتقوى- ولتقدير الآخرة، وهو واضح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن المتقين يدركون أن الخير هو قوام هذه الدعوة، وقوام ما أنزل ربهم من أمر ونهي وتوجيه وتشريع. فيلخصون الأمر كله في كلمة: قالوا: خيرا ثم يفصلون هذا الخير حسبما علموا مما أنزل الله: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) حياة حسنة ومتعة حسنة، ومكانة حسنة. (ولدار الآخرة خير) من هذه الدار الدنيا (ولنعم دار المتقين).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه مقابلة بين الإيمان والتقوى، والكفر والاستكبار، قيل للمستكبرين ماذا أنزل ربكم قالوا: أساطير الأولين ولنتل الآية السابقة: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} وسئل هذا السؤال نفسه للمتقين، فقال تعالى: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} وهذا فرق ما بين التقوى والفجور، الفاجر لا يهمه أن يقول أو يفحصه، والمتقي الطيب محب للحق، ويتحراه، فإن وجده اطمأن إليه واستقام على طريقه.
{للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} [الزمر 10]...أي خصلة حسنة، وأثر حسن، فالثمرة من جنس العمل، فإذا كان العمل حسنا كانت الثمرة حسنة، وهل ينتج الخير إلا خيرا، وهل ينتج الإحسان إلا إحسانا. والعمل الصالح ينال به الشخص الخير الحسن؛ لأنه يكون بنية خالصة، والإخلاص في ذاته أمر حسن لا يذوقه إلا الذين أخلصوا دينهم لله ولم يدنسوا قلوبهم بفساد، والإخلاص يدفع إلى الكلم الطيب، والكلم الطيب يدفع إلى العمل المستقيم والسلوك القويم، وكل هذا خير، وإذا كانت متاعب من عمل الخير، فإن الصبر عليها نعمة وحسنة يشعر بها الأبرار الذين يفتدون الحق بأنفسهم وبالبلاء ينزل بهم.
وقال تعالى: {ولدار الآخرة خير}، أي ثواب دار الآخرة، وإنما أضيف الخير إلى ذات الدار، لأنها كلها خير، فلا ينال الطيبون فيه إلا طيبا
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
منطق المتقين ومصيرهم في الآخرة:
ما هو منطق المتقين الذين عاشوا الحياة إيماناً في الفكر والروح، والتزاماً في العمل، وما هو مصيرهم في الآخرة؟ جزاء المتقين في الدنيا حسنة {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً}، بكل ما تحمله هذه الكلمة من عمقٍ في الروح، وامتدادٍ في الحياة، وغنىً في النتائج، وسعادةٍ في المصير. إنها تمثل كل ما يربط الإنسان بالمعنى الإنسانيّ لفكره وخطّه العملي في الحياة، وطريقة إدارة علاقته بالناس وبالحياة، مقابل معنى الشرّ الذي يمثل انتفاء تلك الإنسانية في خلفيات فكره، وحركات عمله، ونتائج خطواته. وذلك كله من موقع الاختيار الحرّ الذي يحدّد فيه لنفسه ما يريد {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ} هل هي من كلمات المتقين، أو هي كلمة مستأنفة مما أراد الله أن يقرره كنتيجة لهذا الخير الذي أعلنوه واجهة للعمل، وساروا عليه من مواقع الالتزام؟ كل ذلك محتملٌ، وإن كان الأقرب إلى الجو السياقي في الحديث عنهم بصفة الغائب، هو المعنى الثاني، وتلك هي النتيجة الطيبة، فللمحسنين في مواقفهم وكلماتهم وأفعالهم وتطلعاتهم في الحياة حسنةٌ قد تكبر أو تصغر تبعاً لحجم الإحسان العملي، في ما يتقرب به الإنسان إلى الله، وينفع به الناس من أعمال، طلباً لما عند الله. فالآية تقرّر المبدأ، ولا تدخل في التفاصيل، لأن المسألة في هذا الموقف، هي تحديد النتيجة التي تشير إلى طبيعة المصير الذي ينتظر هؤلاء بعد ذلك. دار الآخرة للمتقين {وَلَدَارُ الآخرةِ خَيْرٌ}، في ما يتمثل فيها من رحمةٍ ولطفٍ ورضوانٍ، جزاءً على ما قدمه المتقون من عمل. وهكذا التقى الخير في العمل بالخير في النتيجة {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} التي يستريح فيها الإنسان إلى حياته الجديدة في نعمة من الله ورضوان، بالإضافة إلى الجانب الحسي من المتع التي تنتظرهم في هذه الدار
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل اللّه عليه الخير والهدى. ما أجمل هذا التعبير وأكمله «خيراً» خير مطلق يشمل كل: صلاح، سعادة، رفاه، تقدم مادي ومعنوي، خير للدنيا والآخرة، خير للإِنسان الفرد والمجتمع، وخير في: التربية والتعليم، السياسة والاقتصاد، الأمن والحرية... والخلاصة: خير في كل شيء (لأنّ حذف المتعلق يوجب عموم المفهوم). وقد وصفت الآيات القرآنية القرآن الكريم بأوصاف كثيرة مثل: النّور، الشفاء، الهداية، الفرقان (يفرق الحق عن الباطل)، الحق، التذكرة، وما شابه ذلك.. ولكن في هذه الآية وردت صفة «الخير» التي يمكن أن تكون مفهوماً عاماً جامعاً لكل تلك المفاهيم الخاصة.
وتبيّن الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد، كما عرضت الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي، ومادي ومعنوي مضاعف: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة). وقد أطلق الجزاء بال «حسنة» كما أطلقوا القول «خيراً»، ليشمل كل أنواع الحسنات والنعم في الحياة الدنيا، بالإِضافة إلى: (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين). وتشارك عبارة «نعم دار المتقين» الإِطلاق مرّة أُخرى وكلمة «خيراً»، لأنّ الجزاء بمقدار العمل كمّاً وكيفاً.
فيتّضح لنا ممّا قلنا إنّ الآية (للدين أحسنوا) إلى آخرها تعبر عن كلام اللّه عزَّ وجلّ، ويقوى هذا المعنى عند مقابلتها مع الآيات السابقة.