أي : من هو الذي يبدأ الخلق وينشئ المخلوقات ويبتدئ خلقها ، ثم يعيد الخلق يوم البعث والنشور ؟ ومن يرزقكم من السماء والأرض بالمطر والنبات ؟ .
{ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } يفعل ذلك ويقدر عليه ؟ { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي : حجتكم ودليلكم على ما قلتم { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وإلا فبتقدير أنكم تقولون : إن الأصنام لها مشاركة له في شيء من ذلك فذلك مجرد دعوى صدقوها بالبرهان ، وإلا فاعرفوا أنكم مبطلون لا حجة لكم ، فارجعوا إلى الأدلة اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن الله هو المتفرد بجميع التصرفات وأنه المستحق أن تصرف له جميع أنواع العبادات .
ثم انتقلت السورة الكريمة - للمرة الخامسة - إلى لفت أنظارهم إلى نعمة أخروية ، بعد أن ساقت ما ساقت من النعم الدنيوية ، فقال - تعالى - : { أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ } أى : قولوا لنا - أيها المشركون - من الذى قى قدرته أن يوجد الخلق فى الأرحام من نطفة ، ثم يحولها إلى علقة ، ثم إلى مضغة . . . ثم يعيد هذه المخلوقات جميعها بعد موتها ، إلى الحياة مرة أخرى ؟ لا شك أنه لا يقدر على ذلك أحد سوى الله - تعالى - .
ثم قولوا لنا { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض } بالمطر والنبات والأموال ، وبغير ذلك من ألوان النعم التى لا تحصى ؟
{ أإله مَّعَ الله } هو الذى فعل ذلك ؟ كلا ، لم يفعل ذلك سوى الله - تعالى - وحده ثم لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنتهم عند المعارضة أو المجادلة فقال : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - عند معارضتهم لك ، أحضروا حجتكم وهاتوا برهانا عقليا أو نقليا ، على أن الله - تعالى - شريكا فى ملكه ، إن كنتم صادقين فيما انغمستم فيه من جهل وشرك وكفر به - عز وجل - .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : اعلم أنه - تعالى - لما عدد نعم الدنيا ، أتبع ذلك بنعم الآخرة فقال : { أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ } ، لأن نعم الله بالثواب لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء . فإن قيل : كيف قيل لهم : { أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ } وهم منكرون للإعادة ؟
فالجواب : أنهم كانوا معترفين بالابتداء ، ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية ، فلما كان الكلام مقرونا بالدلالة الظاهرة ، صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر فى الإنكار . .
وبذلك ترى هذه الآيات الكريمة . قد أقامت أوضح الأدلة وأقواها ، على وحدانية الله - تعالى - . وعلى كمال قدرته ، وشمول علمه ، وانفراده بالخلق والتدبير . .
ويختم هذه الإيقاعات بسؤال عن خلقتهم وإعادتهم ورزقهم من السماء والأرض ، مع التحدي والإفحام :
( أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، ومن يرزقكم من السماء والأرض ? أإله مع الله ? قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . .
وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد إنكارها ، ولا يمكن أحدا تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته . وجوده لأن وجود هذا الكون ملجىء للإقرار بوجوده ؛ وقد باءت بالفشل المنطقي كل محاولة لتعليل وجود هذا الكون على هذا النحو الذي يظهر فيه التدبير والقصد بغير الإقرار بوجود الله . ووحدانيته لأن آثار صنعته ملجئة للإقرار بوحدانيته ؛ فعليها آثار التقدير الواحد ، والتدبير الواحد ؛ وفيها من التناسق المطلق ما يجزم بالإرادة الواحدة المنشئة للناموس الواحد .
فأما إعادة الخلق فهذه التي كانوا يجادلون فيها ويمارون . ولكن الإقرار ببدء الخلق على هذا النحو الذي يظهر فيه التقدير والتدبير والقصد والتنسيق ملجىء كذلك للتصديق بإعادة الخلق ، ليلقوا جزاءهم الحق على أعمالهم في دار الفناء ، التي لا يتم فيها الجزاء الحق على الأعمال وإن كان يتم فيها أحيانا بعض الجزاء . فهذا التنسيق الواضح في خلقة الكون يقتضي أن يتم تمامه بالتنسيق المطلق بين العمل والجزاء . وهذا لا يتم في الحياة الدنيا . فلا بد إذن من التصديق بحياة أخرى يتحقق فيها التناسق والكمال . . أما لماذا لم يتم في هذه الأرض ذلك التنسيق المطلق بين العمل والجزاء ? فذلك متروك لحكمة صاحب الخلق والتدبير . وهو سؤال لا يجوز توجيهه لأن الصانع أعلم بصنعته . وسر الصنعة عند الصانع . وهو غيب من غيبه الذي لم يطلع عليه أحدا !
ومن هذا التلازم بين الإقرار بمبدىء الحياة والإقرار بمعيدها يسألهم ذلك السؤال : أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? . . ( أإله مع الله ? ) . .
والرزق من السماء والأرض متصل بالبدء والإعادة سواء . ورزق العباد من الأرض يتمثل في صور شتى أظهرها النبات والحيوان ، والماء والهواء ، للطعام والشراب والاستنشاق ؛ ومنها كنوز الأرض من معادن وفلزات ؛ وكنوز البحر من طعام وزينة . ومنها القوى العجيبة من مغناطيسة وكهرباء ، وقوى أخرى لا يعلهما بعد إلا الله ؛ ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن .
وأما رزقهم من السماء فلهم منه في الحياة الدنيا : الضوء والحرارة والمطر وسائر ما ييسره الله لهم من القوى والطاقات . ولهم منه في الآخرة عطاء الله الذي يقسمه لهم - وهو من السماء بمدلولها المعنوي ، الذي يتردد كثيرا في القرآن والسنة ؛ وهو معنى الارتفاع والاستعلاء .
وقد ذكر رزقهم من السماء والأرض بعد ذكر البدء والإعادة ، لأن رزق السماء والأرض له علاقة بالبدء والإعادة فعلاقة رزق الأرض بالبدء معروفة فهو الذي يعيش عليه العباد . وعلاقته بالإعادة أن الناس يجزون في الآخرة على عملهم وتصرفهم في هذا الرزق الذي أعطوه في الدنيا . . وعلاقة رزق السماء بالبدء واضحة . فهو في الدنيا للحياة ، وهو في الآخرة للجزاء . . وهكذا تبدو دقة التناسق في السياق القرآني العجيب .
والبدء والإعادة حقيقة والرزق من السماء والأرض حقيقة . ولكنهم يغفلون عن هذه الحقائق ، فيردهم القرآن إليها في تحد وإفحام :
( أإله مع الله ? ) . . ( قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . .
وإنهم ليعجزون عن البرهان ، كما يعجز عنه من يحاوله حتى الأن . وهذه طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة . يستخدم مشاهد الكون وحقائق النفس ؛ فيجعل الكون كله إطارا للمنطق الذي يأخذ به القلوب ؛ ويوقظ به الفظرة ويجلوها لتحكم منطقها الواضح الواصل البسيط ؛ ويستجيش به المشاعر والوجدانات بما هو مركوز فيها من الحقائق التي تغشيها الغفلة والنسيان ، ويحجبها الجحود والكفران . . ويصل بهذا المنطق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تصميم الكون وأغوار النفس ؛ والتي لا تقبل المراء الذي يقود إليه المنطق الذهني البارد ، الذي انتقلت عدواه إلينا من المنطق الإغريقي ، وفشا فيما يسمى علم التوحيد ، أو علم الكلام !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ والأرْضِ أَإِلََهٌ مّعَ اللّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : أم ما تشركون أيها القوم خير ، أم الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، فينشئه من غير أصل ، ويبتدعه ثم يفنيه إذا شاء ، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه ، والذي يرزقكم من السماء والأرض فينزل من هذه الغيث ، وينبت من هذه النبات لأقواتكم ، وأقوات أنعامكم أءِلَهٌ مَعَ اللّهِ سوى الله يفعل ذلك ؟ وإن زعموا أن إلها غير الله يفعل ذلك أو شيئا منه فَقُلْ لهم يا محمد هاتُوا بَرْهانَكُمْ : أي حجتكم على أن شيئا سوى الله يفعل ذلك إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في دعواكم . و«من » التي في «أمّنْ » و«ما » مبتدأ في قوله : أما يشركون ، والاَيات بعدها إلى قوله : { وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّماءِ والأرْضِ } بمعنى «الذي » ، لا بمعنى الاستفهام ، وذلك أن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام .
و «بدء الخلق » اختراعه وإيجاده ، و { الخلق } هنا المخلوق من جميع الأشياء لكن المقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة ، و «الإعادة » البعث من القبور ويحتمل أن يريد ب { الخلق } مصدر خلق يخلق ويكون في { يبدأ } { ويعيد } استعارة للإتقان والإحسان كما تقول فلان يبدي ويعيد في أمر كذا وكذا إذا كان يتقنه ، والرزق { من السماء } بالمطر ومن { الأرض } بالنبات ، هذا مشهور ما يحسه البشر ، وكم لله من لطف خفي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده} يقول: من بدأ الخلق فخلقهم، ولم يكونوا شيئا، ثم يعيده في الآخرة، {ومن يرزقكم من السماء} يعني: المطر {والأرض} يعني: النبت. {أإله مع الله} يعينه على صنعه عز وجل، {قل} لكفار مكة: {هاتوا برهانكم} يعني: هلموا بحجتكم بأنه صنع شيئا من هذا غير الله عز وجل من الآلهة، فتكون لكم الحجة على الله تعالى {إن كنتم صادقين} بأن مع الله آلهة كما زعمتم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون أيها القوم خير، أم الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، فينشئه من غير أصل، ويبتدعه ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه، والذي يرزقكم من السماء والأرض فينزل من هذه الغيث، وينبت من هذه النبات لأقواتكم، وأقوات أنعامكم.
" أإلَهٌ مَعَ اللّهِ "سوى الله يفعل ذلك؟ وإن زعموا أن إلها غير الله يفعل ذلك أو شيئا منه فَ" قُلْ" لهم يا محمد "هاتُوا بَرْهانَكُمْ": أي حجتكم على أن شيئا سوى الله يفعل ذلك "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" في دعواكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض} أي من يقدر على ما تقدم ذكره يملك البعث بعد الموت والإحياء. ومن يقدر أن يرزق الخلق كله؟ يلزمهم البعث بهذا، أي من يقدر هذا يقدر ما ذكر {أإله مع الله} أي لا إله مع الله، بل الله المتفرد بذلك دون من يعبدون ويشركون.
وقوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} أي من لج في هذا، أو أنكر ذلك، ادعى الشرك فيه لغيره {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} في مقالتكم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف قيل لهم: {أَمَّن يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهم منكرون للإعادة؟ قلت: قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار {مّنَ السمآء} الماء {و} من {الأرض} النبات {إِن كُنتُمْ صادقين} أنّ مع الله إلهاً، فأين دليلكم عليه؟
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «بدء الخلق» اختراعه وإيجاده، و {الخلق} هنا المخلوق من جميع الأشياء لكن المقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، و «الإعادة» البعث من القبور ويحتمل أن يريد ب {الخلق} مصدر خلق يخلق ويكون في {يبدأ} {ويعيد} استعارة للإتقان والإحسان كما تقول فلان يبدي ويعيد في أمر كذا وكذا إذا كان يتقنه.
{قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [أي] لا برهان لكم فإذن هم مبطلون، وهذا يدل على أنه لابد في الدعوى من [برهان]، وعلى فساد التقليد، فإن قيل كيف قيل لهم: {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده} وهم منكرون للإعادة؟ جوابه: كانوا معترفين بالابتداء، ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية، فلما كان الكلام مقرونا بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار، وههنا آخر الدلائل المذكورة على كمال قدرة الله تعالى.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{قل هاتوا برهانكم}: أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره {إن كنتم صادقين} في أن مع الله إلهاً آخر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما رتب سبحانه هذه الأدلة على هذا الوجه ترقياً من أعم إلى أخص، ومن أرض إلى سماء، ختمها بما يعمها وغيرها، إرشاداً إلى قياس ما غاب منها على ما شوهد، فلزم من ذلك قطعاً القدرة على الإعادة، فساقها لذلك سياق المشاهد المسلَّم، وعد من أنكره في عداد من لا يلتفت إليه فقال: {أمن يبدأ الخلق} أي كله: ما علمتم منه وما لم تعلموا، ثم يبيده لأن كل شيء هالك إلا وجهه، له هذا الوصف باعترافكم يتجدد أبداً تعلقه. ولما كان من اللازم البين لهم الإقرار بالإعادة لاعترافهم بأن كل من أبدى شيئاً قادر على إعادته، لأن الإعادة أهون، قال: {ثم يعيده} أي بعد ما يبيده. ولما كان الإمطار والإنبات من أدل ما يكون على الإعادة، قال مشيراً إليهما على وجه عم جميع ما مضى: {ومن يرزقكم من السماء} أي بالمطر والحر والبرد وغيرهما مما له سبب في التكوين أو التلوين {والأرض} أي بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله، وعبر عنهما بالرزق لأن به تمام النعمة {أإله مع الله} أي الذي له صفات الجلال والإكرام، كائن، أو يفعل شيئاً من ذلك. ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة، ودلائل قاطعة، وأنواراً لامعة، وحججاً باهرة، وبينات ظاهرة، وسلاطين قاهرة، على التوحيد المستلزم للقدرة على البعث وغيره من كل ممكن، أمره صلى الله عليه وسلم إعراضاً عنهم، إيذاناً بالغضب في آخرها بأمرهم بالإتيان ببرهان واحد على صحة معتقدهم فقال: {قل} أي هؤلاء المدعين للعقول {هاتوا برهانكم} أي على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى، أو على إثبات شيء منه لغيره، لتثبت دعوى الشركة في الخلق فتسمع دعوى الشركة في الألوهية، وليكن إتيانكم بذلك ناجزاً من غير مهلة، لأن من يدعي العقل لا يقدر على شيء إلا ببرهان حاضر {إن كنتم صادقين} أي في أنكم على حق في أن مع الله غيره. وأضاف البرهان إليهم إضافة ما كأنه [عَنَى]: لا كلام في وجوده وتحققه، وإنما المراد الإتيان به كل ذلك تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال، وأعرقوا في المحال، حيث رضوا لأنفسهم بتدين لا يصير إليه عاقل إلا بعد تحقق القطع بصحته، ولا شبهة في أنه لا شبهة لهم على شيء منه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم هذه الإيقاعات بسؤال عن خلقتهم وإعادتهم ورزقهم من السماء والأرض، مع التحدي والإفحام: (أم من يبدأ الخلق ثم يعيده، ومن يرزقكم من السماء والأرض؟ أإله مع الله؟ قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).. وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد إنكارها، ولا يمكن أحدا تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته. وجوده لأن وجود هذا الكون ملجئ للإقرار بوجوده؛ وقد باءت بالفشل المنطقي كل محاولة لتعليل وجود هذا الكون على هذا النحو الذي يظهر فيه التدبير والقصد بغير الإقرار بوجود الله. ووحدانيته لأن آثار صنعته ملجئة للإقرار بوحدانيته؛ فعليها آثار التقدير الواحد، والتدبير الواحد؛ وفيها من التناسق المطلق ما يجزم بالإرادة الواحدة المنشئة للناموس الواحد. فأما إعادة الخلق فهذه التي كانوا يجادلون فيها ويمارون. ولكن الإقرار ببدء الخلق على هذا النحو الذي يظهر فيه التقدير والتدبير والقصد والتنسيق ملجئ كذلك للتصديق بإعادة الخلق، ليلقوا جزاءهم الحق على أعمالهم في دار الفناء، التي لا يتم فيها الجزاء الحق على الأعمال وإن كان يتم فيها أحيانا بعض الجزاء. فهذا التنسيق الواضح في خلقة الكون يقتضي أن يتم تمامه بالتنسيق المطلق بين العمل والجزاء. وهذا لا يتم في الحياة الدنيا. فلا بد إذن من التصديق بحياة أخرى يتحقق فيها التناسق والكمال.. أما لماذا لم يتم في هذه الأرض ذلك التنسيق المطلق بين العمل والجزاء؟ فذلك متروك لحكمة صاحب الخلق والتدبير. وهو سؤال لا يجوز توجيهه لأن الصانع أعلم بصنعته. وسر الصنعة عند الصانع. وهو غيب من غيبه الذي لم يطلع عليه أحدا! ومن هذا التلازم بين الإقرار بمبدأ الحياة والإقرار بمعيدها يسألهم ذلك السؤال: أم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟.. (أإله مع الله؟).. والرزق من السماء والأرض متصل بالبدء والإعادة سواء. ورزق العباد من الأرض يتمثل في صور شتى أظهرها النبات والحيوان، والماء والهواء، للطعام والشراب والاستنشاق؛ ومنها كنوز الأرض من معادن وفلزات؛ وكنوز البحر من طعام وزينة. ومنها القوى العجيبة من مغناطيس وكهرباء، وقوى أخرى لا يعلهما بعد إلا الله؛ ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن. وأما رزقهم من السماء فلهم منه في الحياة الدنيا: الضوء والحرارة والمطر وسائر ما ييسره الله لهم من القوى والطاقات. ولهم منه في الآخرة عطاء الله الذي يقسمه لهم -وهو من السماء بمدلولها المعنوي، الذي يتردد كثيرا في القرآن والسنة؛ وهو معنى الارتفاع والاستعلاء. وقد ذكر رزقهم من السماء والأرض بعد ذكر البدء والإعادة، لأن رزق السماء والأرض له علاقة بالبدء والإعادة فعلاقة رزق الأرض بالبدء معروفة فهو الذي يعيش عليه العباد. وعلاقته بالإعادة أن الناس يجزون في الآخرة على عملهم وتصرفهم في هذا الرزق الذي أعطوه في الدنيا.. وعلاقة رزق السماء بالبدء واضحة. فهو في الدنيا للحياة، وهو في الآخرة للجزاء.. وهكذا تبدو دقة التناسق في السياق القرآني العجيب. والبدء والإعادة حقيقة والرزق من السماء والأرض حقيقة. ولكنهم يغفلون عن هذه الحقائق، فيردهم القرآن إليها في تحد وإفحام: (أإله مع الله؟).. (قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).. وإنهم ليعجزون عن البرهان، كما يعجز عنه من يحاوله حتى الآن. وهذه طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة. يستخدم مشاهد الكون وحقائق النفس؛ فيجعل الكون كله إطارا للمنطق الذي يأخذ به القلوب؛ ويوقظ به الفطرة ويجلوها لتحكم منطقها الواضح الواصل البسيط؛ ويستجيش به المشاعر والوجدانات بما هو مركوز فيها من الحقائق التي تغشيها الغفلة والنسيان، ويحجبها الجحود والكفران.. ويصل بهذا المنطق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تصميم الكون وأغوار النفس...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والبرهان: الحجة. وتقدم عند قوله تعالى {يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربّكم} في آخر سورة النساء (174). وإضافة البرهان إلى ضمير المخاطبين وهم المشركون مشير إلى أن البرهان المُعَجّزين عليه هو برهان عدم البعث، أي إن كنتم صادقين فهاتوه لأن الصادق هو الذي قوله مطابق للواقع. والشيء الواقع لا يعدم دليلاً عليه. وجُماع ما تقدم في هذه الآيات من قوله {آلله خير أما تشركون} [النمل: 59] أنها أجملت الاستدلال على أحقية الله تعالى بالإلهية وحده ثم فصّلت ذلك بآيات {أمن خلق السموات والأرض... إلى قوله: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [النمل: 60 -64] فابتدأت بدليل قريب من برهان المشاهدة وهو خلق السموات والأرض وما يأتي منهما من خير للناس. ودليل كيفية خلق الكرة الأرضية وما على وجهها منها، وهذا ملحق بالمشاهدات. وانتقلت إلى استدلال من قبيل الأصول الموضوعة وهو ما تمالأ عليه الناس من اللجأ إلى الله تعالى عند الاضطرار. وانتقلت إلى الاستدلال عليهم بما مكّنهم من التصرف في الأرض إذ جعل البشر خلفاء في الأرض، وسخر لهم التصرّف بوجوه التصاريف المعينة على هذه الخلافة، وهي تكوين هدايتهم في البر والبحر. وذلك جامع لأصول تصرفات الخلافة المذكورة في الارتحال والتجارة والغزو. وختم ذلك بكلمة جامعة لنعمتي الإيجاد والإمداد وفي مطاويها جوامع التمكن في الأرض...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وعبر سبحانه عن بدء الخلق بقوله {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ}، مع أنه بدأه وخلقه في الماضي، فهو قد ذكر المضارع دون الماضي لأمرين: أولهما. تصوير البدء واستمراره، فالمضارع يدل على ذلك، والثاني أن البدء في الخلق مستمر فهو في الحاضر والقابل كما كان في الماضي، وقوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} التعبير بثم في موضعه؛ لأن بين الإعادة والبدء أعمار الناس، وليس ذلك زمنا قصيرا، وذكر البدء في هذا المقام إنذار لهم وتذكير، والحياة عابثة إذ لم يكن بها تذكير باليوم الآخر، وإنما مستمر، وسبحانه وتعالى يذكره دائما لكي لا ينسوه، وفيه إنذار لهم وتبشير...
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} البرهان هو الدليل العقلي المنطقي، أي هاتوا دليلا فعليا منطقيا يسوغ لكم عبادتها إن كنتم صادقين في استحقاقهم للعبادة. طالبهم القرآن الكريم بالبرهان العقلي، ولكنهم لا يمكن أن يأتوا به، لأنه لا يمكن أن يكون هناك ثمة دليل علمي منطقي يسوغ عبادة أحجار لا تملك نفعا، ولا ضررا، وهي في ذاتها أقل في وجودها ممن يعبدونها، ولكنه ضلال الأوهام.
ما مناسبة الكلام عن الرزق من السماء والأرض بعد مسألة الإعادة؟ لا بد أن تكون هناك علاقة بينهما، فللرزق الذي يأتي عن طريق التقاء ماء السماء بتربة الأرض وهو النبات دورة مثل دورة الإنسان وإعادة كإعادته، حيث يتغذى الإنسان على نبات الأرض، ويأخذ منه حاجته من الطاقة والغذاء، وما تبقى منه يخرج على صورة فضلات تتحلل في الأرض، حتى ما تبقى منها في جسم الإنسان يتحلل بعد موته إلى عناصر الأرض. فالوردة مثلا بعد نضارتها وطراوتها وجمالها حين تقطف تجف ويتبخر ماؤها، وكذلك اللون والرائحة في الأثير الجوي، وما تبقى منها من مادة جافة تتحلل في التربة، فإذا ما زرعنا وردة أخرى، فإنها تتغذى على ما في التربة من عناصر، وما في الأثير الجوي من لون ورائحة. إذن: فعناصر التكوين في الكون لم تزد ولم تنقص منذ خلق الله الخلق، ولدورة النبات في الطبيعة بدء ونهاية وإعادة أشبه ما تكون بخلق الإنسان، ثم موته، ثم إعادته يوم القيامة. وكأن الحق – تبارك وتعالى- يعطينا الدليل على الإعادة بما نراه من دورة النبات، دليلا بما نراه على الغيب الذي لا نراه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم الشرك. فإن مسألة الصدق والكذب في قضايا العقيدة تنطلق من الأدلة والبراهين التي يقيمها كل فريق على صحة دعواه، في ما توحي به من عناصر الحقيقة الكامنة فيها. وهكذا ترون مما قدمناه لكم من الأدلة على وحدانية الله في قدرته وفي عظمته، وفي خضوع كل شيء في الوجود له، وفي ارتباط كل موجود به من خلال حاجته المطلقة إليه، واستغنائه عنهم جميعاً، ما يدل على أنه الله الواحد الذي لا شريك له. فإذا كنتم تنكرون ذلك وتلتزمون الشرك، فقدّموا لنا البرهان عليه لنناقشه من موقع الفكر، لتكون الحقيقة بنت الحوار، وليكون الحوار الهادئ العميق أساس الوصول إلى النتائج الحاسمة في المعرفة، فبذلك يحترم الإنسان نفسه، ويحترم حركة الحياة من حوله. الأسلوب القرآني العقلاني في حركة الصراع وهذا هو الأسلوب القرآني الذي يحرّك مواقع الصراع الفكري في ساحات العلم والمعرفة، لتكون الحجة التي يقدمها كل فريق على قناعاته، هي القوّة التي يملكها في ذاته ليقنع بها نفسه ويقدمها إلى غيره ليحصل على قناعاته الإيمانية من خلال المناقشة الفكرية العميقة التي تواجه عمق الأشياء بكل صفاءٍ وقوّة. وذلك هو سبيل الإيمان في ما يريد الإسلام أن يبلغه من إيمان الناس بحقائقه، فلا يريد منهم الإيمان الأعمى القائم على إثارة الانفعالات، لأن الانفعال قد يثير الفكرة في الوجدان في بعض الحالات، ولكنه يطردها عند تبدل الانفعال وتحوّله إلى جانب آخر في حالةٍ أخرى، بينما يركز العقل الإيمان على الحجة القاطعة ويتابع تأكيدها فيزيدها وضوحاً وعمقاً وإشراقاً وثباتاً. وذلك هو سرّ قوة الإسلام في حركة إيمانه من موقع عقلانيته في مواجهة قضايا الإنسان المؤمن العقلاني، بدلاً من الإنسان المؤمن الانفعالي الساذج. وهكذا نستوحي من ذلك، أن على الداعية إلى الله، أن يأخذ بأسباب المعرفة في حركته الرسالية في ساحة الصراع الفكري والعقيدي، ليملك الحجة القوية التي يستطيع أن يقنع بها الناس، ويتحدى بها الشبهات التي يثيرها الكافرون حول عقيدته، وليواجه الحجة بالحجة، ليكون الحوار منطلقاً من قاعدةٍ في الفكر لا من حالةٍ في الانفعال...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
خلاصة عامّة... في الآيات السابقة كان اهتمام القرآن منصباً لإثبات «توحيد المعبود» على «توحيد الخالق»، و«توحيد الرب» اي (توحيد الخلق وتوحيد التدبير) وتحدّث عن اثتني عشرة آية وعلامة لله العظيم في عالم الوجود:
ـ الحاجز بين البحرين (العذب والمالح).
ـ هدايتهم في ظلمات البر والبحر.
ـ إرسال الرياح بشراً بين يدي رحمته.
ـ رزق الإنسان «وسائر الخلق» من السماء والأرض.
هذه المواهب «والنعم» الاثنتا عشرة بيّنتْ في خمس آيات وضمن خمسة أسئلة!. وكانت تعالج الأُمور الخمسة التالية على التوالي:
وقد عقّب ذيل كل واحد من الأسئلة الخمسة، بقوله تعالى: (أإله مع الله)؟! وقد أوضح القرآن في نهاية كل سؤال أموراً، فأشار في نهاية الآية الأُولى إلى انحراف المخالفين عن الحق. وأشار في الآية الثّانية إلى جهلهم. وأشار في الآية الثّالثة إلى عدم تفكيرهم! وأشار في الآية الرابعة إلى انحطاط أفكارهم. وطالبهم في نهاية الآية الخامسة بالاستدلال! وقد أبدى القرآن بشكل عام مجموعة من الأسئلة الجامعة والمنسجمة بعضها مع بعض.