قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر } ، قال ابن عباس : أظهره . ويروى عنه : أمضه . وقال الضحاك : أعلم . وقال الأخفش : افرق ، أي : افرق بالقرآن بين الحق والباطل . وقال سيبويه : اقض بما تؤمر ، وأصل الصدع : الفصل ، والفرق : أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة . وروي عن عبد الله بن عبيده قال كان مستخفيا حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه . { وأعرض عن المشركين } ، نسختها آية القتال .
ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يمضى في طريقه ، وأن يجهر بدعوته وأن يعرض عن المشركين ، فقد كفاه - سبحانه - شرهم فقال - تعالى - : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .
وقوله { فاصدع . . } من الصدع بمعنى الإِظهار والإعلان . ومنه قولهم : انصدع الصبح ، إذا ظهر بعد ظلام الليل والصديع الفجر لانصداعه أى ظهوره . ويقال : صدع فلان بحجته ، إذا تكلم بها جهارًا .
أى : فاجهر - أيها الرسول الكريم - بدعوتك ، وبلغ ما أمرناك بتبليغه علانية ، وأعرض عن سفاهات المشركين وسوء أدبهم .
قال عبد الله بن مسعود : ما زال النبى صلى الله عليه وسلم مستخفيا بدعوته حتى نزلت هذه الآية . فخرج هو وأصحابه ،
وحين يصل السياق إلى هذا الحد ، يتجه بالخطاب إلى الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه . يجهر بما أمره الله أن يبلغه . ويسمى هذا الجهر صدعا - أي شقا - دلالة على القوة والنفاذ . لا يقعده عن الجهر والمضي شرك مشرك فسوف يعلم المشركون عاقبة أمرهم . ولا استهزاء مستهزيء فقد كفاه الله شر المستهزئين :
( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ؛ إنا كفيناك المستهزئين ، الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ) . .
ويعني بقوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ : فأمض وافرُق ، كما قال أبو ذُؤَيب :
وكأنّهُنّ رِبابَةٌ وكأنّهُ *** يَسَرٌ يُفيضُ على القِداح ويَصْدَعُ
يعني بقوله : «يَصْدَع » يُفَرّق بالقداح .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ يقول : فامْضِهْ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ يقول : افعل ما تؤمر .
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : بالقرآن .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : هو القرآن .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : بالقرآن .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : الجهر بالقرآن في الصلاة .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : بالقرآن في الصلاة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : اجهر بالقرآن في الصلاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال : ما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ فخرج هو وأصحابه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : بالقرآن الذي يوحى إليه أن يبلغهم إياه .
وقال تعالى ذكره : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ولم يقل : بما تؤمر به ، والأمر يقتضي الباء لأن معنى الكلام : فاصدع بأمرنا ، فقد أمرناك أن تدعو إلى ما بعثناك به من الدين خَلقي وأذنّا لك في إظهاره .
ومعنى «ما » التي في قوله بِمَا تُؤْمَرُ معنى المصدر ، كما قال تعالى ذكره يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ معناه : افعل الأمر الذي تؤمر به . وكان بعض نحويّي أهل الكوفة يقول في ذلك : حذفت الباء التي يوصل بها تؤمر من قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ على لغة الذين يقولون : أمرتك أمرا . وكان يقول : للعرب في ذلك لغتان : إحداهما أمرتك أمرا ، والأخرى أمرتك بأمر ، فكان يقول : إدخال الباء في ذلك وإسقاطها سواء . واستشهد لقولك ذلك بقول حصين بن المنذر الرقاشي ليزيد بن المهلّب :
أمَرْتُكَ أمْرا جازِما فَعَصَيْتَنِي *** فأصْبَحْتَ مَسلُوبَ الإمارَةِ نادِما
فقال : أمرتك أمرا ، ولم يقل : أمرتك بأمر ، وذلك كما قال تعالى ذكره : ألا إنّ عادا كَفَرُوا رَبّهُمْ .
ولم يقل : بربهم ، وكما قالوا : مددت الزمام ، ومددت بالزمام ، وما أشبه ذلك من الكلام .
وأما قوله : وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ويقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : بلغ قومك ما أرسلتَ به ، واكفف عن حرب المشركين بالله وقتالهم . وذلك قيل أن يفرض عليه جهادهم ، ثم نَسَخَ ذلك بقوله : فَاقْتُلُو المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ وهو من المنسوخ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : اخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغْفروا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ وهذا النحو كله في القرآن أمر الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك منه ، ثم أمره بالقتال ، فنَسَخَ ذلك كله ، فقال : خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ . . . الاَية .
{ فاصدع } معناه فانفد وصرح بما بعثت به ، والصدع التفريق بين ملتئم كصدع الزجاجة ونحوه ، فكأن المصرح بقول يرجع إليه ، يصدع به ما سواه مما يضاده ، والصديع الصبح{[7230]} لأنه يصدع الليل ، وقال مجاهد : نزلت في أن يجهر بالقرآن في الصلاة ، وفي { تؤمر } ضمير عائد على { ما } ، تقديره ما تؤمر به أو تؤمره وفي هذين تنازع ، وقوله { وأعرض عن المشركين } من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف .