اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (94)

قوله : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } أصل الصَّدع : الشَّقُّ ، صدعته فانصدع ، أي : شَقَقتهُ ، فانْشَقّ .

قال ابن السكِّيت : الصَّدعُ في اللغة : الشَّقٌّ ، والفصل ؛ وانشد لجرير : [ البسيط ]

هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ *** بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ{[19660]}

ومنه التفرقة أيضاً ؛ كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] وقال : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . *** كَأنَّ بَياضَ غُرَّتهِ صَدِيعُ{[19661]}

والصَّديعُ : ضوءُ الفجر لانشقاقِ الظُّلمةِ عنه ، يقال : انْصدعَ ، وانْفلقَ ، وانْفجرَ ، وانْفطرَ الصُّبحُ ، ومعنى " فَاصدَعْ " فرق بني الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما .

وقال الراغب{[19662]} : الصَّدعُ : الشقُّ في الأجسام الصَّلبةِ كالزجاج ، والحديد ، وصدّعته بالتشديد ، فتصدع وصَدعتهُ بالتخفيف ، فانْصَدعَ ، وصَدْعُ الرأس لتوهُّم الانشقاق فيه ، وصدع الفلاة ، أي : قطعها ، من ذلك ، كأنَّه توهم تفريقها .

ومعنى " فاصْدَعُ " قال ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- : أظهر{[19663]} .

وقال الضحاك : أعلم{[19664]} . وقال الأخفش : فرِّق بين الحقِّ والباطل ، وقال سيبويه : اقْضِ .

و " مَا " في قوله " بِمَا تُؤمَرُ " مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والأصل تؤمر به ، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه ، فحذف العائد فيصح ، وليس هو كقولك : جَاءَ الذي مررتُ ، ونحوه : [ البسيط ]

أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19665]}

والأصل : بالخَيْرِ .

وقال الزمخشريُّ : " ويجوز أن تكون " مَا " مصدرية ، أي : بأمرك مصدر مبنيّ للمفعول " انتهى .

وهو كلامٌ صحيحٌ ، والمعنى : فاصدع بأمرك ، وشأنك .

قالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية .

ونقل أبو حيَّان{[19666]} عنه أنه قال : ويجوز أن يكون المصدر يراد به " انْ " ، والفعل المبني للمفعول .

ثم قال أبو حيان : " والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز " . قال شهابُ الدين : الخلاف إنَّما هو في المصدر ، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري ، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز ؟ خلاف المشهور ، أمَّا أنَّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بفعلٍ مبني للمفعولٍ ، نحو : يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز ؟ فليس محل النِّزاع .

ثم قال تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } ، أي لا تبال عنهم ، ولا تلتفت إلى لومهم إيَّاك على إظهار الدَّعوة .

قال بعضهم : هذا منسوخٌ بآية القتال ، وهو ضعيف ؛ لأنَّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة ، فلا يكون منسوخاً .


[19660]:ينظر: الديوان 390، اللسان والتاج "صدع"، والمحتسب 1/141، الرازي 19/219، شواهد المغني للبغدادي 8/36، الكشاف 1/246، الضرائر لابن عصفور 87، 89.
[19661]:عجز بيت للشماخ وصدره: تـرى الســــرحان مفترشا يديه *** ......................... ينظر: ملحق ديوانه 447، ابن الشجري 2/240، البحر المحيط 5/454، اللسان "صدع" ، الدر المصون 4/309.
[19662]:ينظر: المفردات 276.
[19663]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/86).
[19664]:ينظر: المصدر السابق.
[19665]:تقدم.
[19666]:ينظر: البحر المحيط 5/455.