قوله تعالى : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك ، ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم : إني والله أعلم إنكم لتعلمون أني رسول الله ، فقالوا : ما نعلم ذلك ، فأنزل الله عز وجل : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } إن جحدوك وكذبوك .
قوله تعالى : { أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً } .
{ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين ، أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به ، وأنه { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتملا على علمه ، أي : فيه من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية والأخبار الغيبية ما هو من علم الله تعالى الذي علم به عباده .
ويحتمل أن يكون المراد : أنزله صادرا عن علمه ، ويكون في ذلك إشارة وتنبيه على وجه شهادته ، وأن المعنى : إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي ، وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله عليه ، وأنه دعا الناس إليه ، فمن أجابه وصدقه كان وليه ، ومن كذبه وعاداه كان عدوه واستباح ماله ودمه ، والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب دعواته ، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه ، فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر ؟ " ولا يمكن القدح في هذه الشهادة إلا بعد القدح بعلم الله وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله ، لكمال إيمانهم ولجلالة هذا المشهود عليه .
فإن الأمور العظيمة لا يستشهد عليها إلا الخواص ، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وكفى بالله شهيدا .
وقوله - سبحانه - : { لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وكفى بالله شَهِيداً } استدراك قصد به الرد على جحود أهل الكتاب للحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال :
" دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقال لهم : " إنى والله أعلم أنكم لتعلمون أنى رسول الله . فقالوا : ما نعلم ذلك " فأنزل الله قوله : { لكن الله يَشْهَدُ } . الآية .
والمقصود من الآية الكريمة تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عن تذيب كثير من الناس له ، وإدخال الطمأنينة على قلبه ، فكأنه - سبحانه - يقول له :
لم يشهد أهل الكتاب بأنك رسول من عند الله وصادق فيما تبلغه عنه { لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } أى : لكن الله يشهد بأن الذى أنزله إليك من قرآن هو الحق الذى لا ريب فيه .
وقوله : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أى : أنزله بعلم تام ، وحكمة بالغة ، أو بما علمه من مصالح عباده فى إنزاله عليك .
وقوله : { والملائكة يَشْهَدُونَ } أى : والملائكة يشهدون بأنك صادق فى رسالتك ، وبأن ما أنزله الله عليك هو الحق الذى لا تحوم حوله شبهة .
وقوله . { وكفى بالله شَهِيداً } أى : وكفى بشهادة الله شهادة بأنك على الحق وإن لم يشهد غيره لك . فإنه لا عبرة لإِنكار المنكرين لنبوتك ، ولا قيمة لجحود الجاحدين لما نزل عليك بعد شهادة الله لك بأنك نبيه ورسوله ، لتخرج الناس بإذنه من ظلمات الجاهلية إلى نور الإِسلام .
وقد أجاد صاحب الكشاف فى توضيح تلك المعانى حيث قال : فإن قلت الاستدارك لا بد له من مستدرك فما هو فى قوله : { لكن الله يَشْهَدُ } .
قلت : لما سأل أهل الكتاب إنزال كتاب من السماء ، واحتج عليهم بقوله { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } قال : لكن الله يشهد . بمعنى : أنهم لا يشهدون لكن الله يشهد . .
ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه ، إثباته لصحته بإظهار المعجزات ، كما تثبت الدعاوى بالبينات وشهادة الملائكة : شهادة بأنه حق وصدق .
فإن قلت : ما معنى قوله : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } قلت : معناه أنزله متلبسا بعلمه الخاص الذى لا يعلمه غيره . وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة ، لأن بيان للشهادة . وقيل : أنزله وهو عالم بأنك أهل لإِنزاله إليك وأنك مبلغه . ويحتمل : أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشيطان برصد من الملائكة ، والملائكة يشهدون بذلك .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها قد أثبتت صدق النبى صلى الله عليه وسلم فى رسالته بالأدلة الساطعة . والحجج الواضحة ؛ وبينت وظيفة الرسل - عليهم السلام - وحكمة الله فى إرسالهم ، وزادت للنبى صلى الله عليه وسلم طمأنينة بأنه على الحق ، لأن الله قد شهد له بذلك ، وكفى بشهادة الله شهادة مهما خالفها المخالفون ، وأعرض عنها المعرضون .
ونقف عند هذا الحد - المناسب لسياق الظلال - في الحديث عن الإيحاءات القوية العميقة ، التي يثيرها في النفس قول الله تعالى :
( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) . .
لنمضي بعدها مع السياق القرآني :
( لكن الله يشهد بما أنزل إليك . أنزله بعلمه . والملائكة يشهدون . وكفى بالله شهيدًا ) .
فإذا أنكر أهل الكتاب هذه الرسالة الأخيرة - وهي جارية على سنة الله في إرسال الرسل لعباده ( مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) وأهل الكتاب يعترفون بالرسل قبل محمد [ ص ] اليهود يعترفون بمن قبل عيسى - عليه السلام - والنصارى يعترفون بهم ، وبعيسى الذي ألهوه كما سيجيء . . فإذا أنكروا رسالتك - يا محمد - فلا عليك منهم . فلينكروا :
لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه . والملائكة يشهدون . وكفى بالله شهيدًا . .
وفي هذا الشهادة من الله . . ثم من ملائكته ومنهم من حملها إلى رسوله . . إسقاط لكل ما يقوله أهل الكتاب . فمن هم والله يشهد ؟ والملائكة تشهد ؟ وشهادة الله وحدها فيها الكفاية ؟ !
وفي هذه الشهادة تسرية عن الرسول [ ص ] وما يلقاه من كيد اليهود وعنتهم .
وفيها كذلك تصديق وتثبيت وتطمين للمسلمين - في أول عهدهم بالإسلام بالمدينة - أمام حملة يهود التي يدل على ضخامتها هذه الحملة القرآنية المنوعة الأساليب والإيحاءات في ردها والقضاء عليها .
{ لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن يكفر بالذي أوحينا إليك يا محمد اليهود الذين سألوك أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، وقالوا لك : ما أنزل الله على بشر من شيء فكذّبوك ، فقد كذّبوا ما الأمر ، كما قالوا : لكن الله يشهد بتنزيله إليك ما أنزله من كتابه ووحيه ، أنزل ذلك إليك بعلم منه بأنك خيرته من خلقه وصفيه من عباده ، ويشهد لك بذلك ملائكته ، فلا يحزنك تكذيب من كذّبك ، وخلاف من خالفك . وكَفَى باللّهِ شَهِيدا يقول : وحسبك بالله شاهدا على صدقك دون ما سواه من خلقه ، فإنه إذا شهد لك بالصدق ربك لم يضرّك تكذيب من كذّبك . وقد قيل : إن هذه الاَية نزلت في قوم من اليهود دعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أتباعه ، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوّته ، فجحدوا نبوّته وأنكروا معرفته . ذكر الخبر بذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من يهود ، فقال لهم : «إنّى والله أعْلَمُ أنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ الله » فقالوا : ما نعلم ذلك . فأنزل الله : لَكِنِ اللّهِ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وكَفَى باللّهِ شَهِيدا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : دخلتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عصابة من اليهود ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لَكِنِ اللّهِ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وكَفَى باللّهِ شَهِيدا شهود والله غير متهمة .