قوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ، قل إن هدى الله هو الهدى } . وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ، ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه . فأنزل الله تعالى هذه الآية ، معناه وإنك إن هادنتهم فلا يرجون بها وإنما يطلبون ذلك تعللا ، ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا في القبلة ، وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة آيسوا في أن يوافقهم على دينهم ، فأنزل الله تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ) إلا باليهودية ( ولا النصارى ) إلا بالنصرانية والملة الطريقة .
قوله تعالى : { ولئن اتبعت أهواءهم } . قيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة . كقوله :{ لئن أشركت ليحبطن عملك } .
قوله تعالى : { بعد الذي جاءك من الحق } . البيان بأن دين الله هو الإسلام والقبلة قبلة إبراهيم عليه السلام وهي الكعبة .
{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * }
يخبر تعالى رسوله ، أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى ، إلا باتباعه دينهم ، لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه ، ويزعمون أنه الهدى ، فقل لهم : { إِنَّ هُدَى اللَّهِ } الذي أرسلت به { هُوَ الْهُدَى }
وأما ما أنتم عليه ، فهو الهوى بدليل قوله { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }
فهذا فيه النهي العظيم ، عن اتباع أهواء اليهود والنصارى ، والتشبه بهم فيما يختص به دينهم ، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك ، لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب ، كما أن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
ثم بين القرآن موقف أهل الكتاب من الدعوة الإِسلامية فقال : { وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } .
الملة : الطريقة المسلوكة ، ثم جعلت اسما لما شرعه الله لعباده على لسان نبيه ليتوصلوا إلى السعادة الدائمة ، وقد تطلق على ما ليس حقاً من الأديان المنحرفة أو الباطلة ، كما حكى القرآن عن يوسف عليه السلام - أنه قال :
{ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } وأفرد القرآن الملة فقال - تعالى - ملتهم - " مع أن لكل من اليهود والنصارى ملة خاصة ، لأن الملتين بالنظر لأى مخالفتهما لدين الإِسلام وما طرأ عليهما من التحريف بمنزلة واحدة ، فاتباع إحداهما كاتباع الأخرى في قلة الانتفاع به .
ومعنى الغاية في قوله : " حتى تتبع ملتهم الكناية عن اليأس من اتباع أهل الكتاب لشريعة الإِسلام ، لأنهم لما كانوا لا يرضون إلا باتباعه صلى الله عليه وسلم ملتهم وكان اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لملتهم مستحيلا ، فقد صار رضاهم عنه كذلك مستحيلا ، فالجملة الكريمة مبالغة في الإِقناط من إسلامهم ، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه .
ثم لقن الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم الجواب فقال : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } .
وهدى الله : دينه والهدى ، بمعنى الهادي إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة . أي : ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي لا ما يدعيه هؤلاء من الأهواء .
وإيراد الهدى معرفاً بأل مع اقترانه بضمير الفصل " هو " يفيد قصر الهداية على دين الله ، وينفي أن يكون في دين غير دين الله هدى . وإذا كانت الهداية مقصورة على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يطمع أهل الكتاب في أن يتبع ملتهم ؟
ثم حذر القرآن من اتباع أهل الكتاب فقال . { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
اللام في قوله : { وَلَئِنِ } تشعر بأن في الجملة قسماً مقدراً روعى في صدرها ليفيد تأكيد ما تضمنته من أن متبع أهواء أهل الكتاب لا يجد من الله ولياً ولا نصيراً .
والأهواء : جمع هوى ، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق الصادرة من شهوات في أنفسهم . والعلم : الدين : وسمى علماً لأنه يعلم بالأدلة القاطعة .
والولي : القريب والحليف . والنضير : كل من يعين غيره على من يناوئه ويبسط إليه يده بسوء .
والمعنى : ولئن اتبعت - يا محمد - آراءهم الزائفة ، بعد الذي جاءك من العلم بأن دين الله هو الإِسلام ، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة ، مالك من الله من ولى يلي أمرك ولا نصير يدفع عنك عقابه .
وإنما أوثر خطابه صلى الله عليه وسلم بذلك ليدخل دخولاً أولياً من اتبع أهواءهم بعد الإِسلام من المنافقين تمسكاً بولايتهم ، وطمعاً في نصرتهم .
{ وَلَنْ تَرْضَىَ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَىَ حَتّىَ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ قُلْ إِنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ }
يعني بقوله جل ثناؤه : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النّصَارَى حتى تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ : وليست اليهودُ يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحقّ فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم . ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم لأن اليهودية ضد النصرانية ، والنصرانية ضد اليهودية ، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة ، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك ، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا ، وذلك مما لا يكون منك أبدا ، لأنك شخص واحد ، ولن يجتمع فيك دينان متضادّان في حال واحدة . وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل ، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل . وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل ، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل ، وأما الملة فإنها الدين وجمعها الملل .
ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أو نَصَارَى } : إنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى ، يعني أن بيان الله هو البيان المقنع والقضاء الفاصل بيننا ، فهلمّوا إلى كتاب الله وبيانه الذي بيّن فيه لعباده ما اختلفوا فيه ، وهو التوراة التي تقرّون جميعا بأنها من عند الله ، يتضح لكم فيها المحقّ منا من المبطل ، وأيّنا أهل الجنة ، وأينا أهل النار ، وأينا على الصواب ، وأينا على الخطأ ، وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه ، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن المكذّب به من أهل النار دون المصدّق به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَلَئِنْ اتّبَعْتَ } يا محمد هوى هؤلاء اليهود والنصارى ، فيما يرضيهم عنك من تهوّد وتنصّر ، فصرت من ذلك إلى إرضائهم ، ووافقت فيه محبتهم { من بعد الذي جاءك من العلم } بضلالتهم وكفرهم بربهم ، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة ، { ما لك من الله من وليّ } . يعني بذلك : ليس لك يا محمد من وليّ يلي أمرك ، وقَيّم يقوم به ، ولا نصير ينصرك من الله ، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته ، ويمنعك من ذلك إن أحلّ بك ذلك ربك . وقد بينا معنى الوليّ والنصير فيما مضى قبل .
وقد قيل إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها ، وقال كل حزب منهم : إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه غيرنا من سائر الملل . فوعظه الله أن يفعل ذلك ، وعلّمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادّعى كل فريق منهم .
عطف على قوله : { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } [ البقرة : 119 ] أو على { إنا أرسلناك } [ البقرة : 119 ] وقد جاء هذا الكلام المؤيس من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] وهذا من كرامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
والنفي بلن مبالغة في التأييس لأنها لنفي المستقبل وتأبيده .
والملة بكسر الميم الدين والشريعة وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس يتفقون عليها وتكون جامعة لهم كطريقة يتبعونها ، ويحتمل أنها مشتقة من أملَّ الكتاب فسميت الشريعة ملة لأن الرسول أو واضع الدين يعلمها للناس ويمللها عليهم كما سميت ديناً باعتبار قبول الأمة لها وطاعتهم وانقيادهم .
ومعنى الغاية في { حتى تتبع ملتهم } الكناية عن اليأس من اتباع اليهود والنصارى لشريعة الإسلام يومئذ لأنهم إذا كانوا لا يرضون إلا باتباعه ملتهم فهم لا يتبعون ملته ، ولما كان اتباع النبيء ملتهم مستحيلاً كان رضاهم عنه كذلك على حد { حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف : 40 ] وقوله : { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : 2 ، 3 ] والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله : { ولا النصارى } للتنصيص على استقلالهم بالنفي وعدم الاقتناع باتباع حرف العطف لأنهم كانوا يظن بهم خلاف ذلك لإظهارهم شيئاً من المودة للمسلمين كما في قوله تعالى : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } [ المائدة : 82 ] وقد تضمنتْ هذه الآية أنهم لا يؤمنون بالنبيء لأنه غير متبع ملتهم وأنهم لا يصدقون القرآن لأنه جاء بنسخ كتابيْهم .
وقوله : { قل إن هدى الله هو الهدى } أمر بالجواب عما تضمنه قوله : { ولن ترضى } من خلاصة أقوال لهم يقتضي مضمونها أنهم لا يُرضيهم شيء مما يدعوهم النبيء إليه إلا أن يتبع ملتهم وأنهم يقولون إن ملتهم هدى فلا ضير عليه إن اتبعها مثل قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هُوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] وغير ذلك من التلون في الإعراض عن الدعوة ولذلك جيء في جوابهم بما هو الأسلوب في المجاوبة من فِعل القول بدون حرف العطف .
ويجوز أن يكونوا قد قالوا ما تضمنته الآية من قوله : { حتى تتبع ملتهم } . و { هدى الله } ما يقدره للشخص من التوفيق أي قل لهم لا أملك لكم هدى إلا أن يهديكم الله ، فالقصر حقيقي .
ويجوز أن يكون المراد بهُدى الله الذي أنزله إليَّ هو الهدى يعني أن القرآن هو الهدى إبطالاً لغرورهم بأنَّ ما هم عليه من الملة هو الهدى وأن ما خالفه ضلال . والمعنى أن القرآن هو الهدى وما أنتم عليه ليس من الهدى لأن أكثره من الباطل .
فإضافة الهدى إلى الله تشريف ، والقصر إضافي . وفيه تعريض بأن ما هم عليه يومئذ شيء حرفوه ووضعوه ، فيكون القصر إما حقيقياً ادعائياً بأن يراد هو الهدى الكامل في الهداية فهدى غيره من الكتب السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن كلاَ هدى لأن هدى القرآن أعم وأكمل فلا ينافي إثبات الهداية لكتابهم كما في قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] وقوله : { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة } [ المائدة : 46 ] وإما قصراً إضافياً أي هو الهدى دون ما أنتم عليه من ملة مبدلة مشوبة بضلالات وبذلك أيضاً لا ينتفي الهدى عن كثير من التعاليم والنصايح الصالحة الصادرة عن الحكماء وأهل العقول الراجحة والتجربة لكنه هدى ناقص .
وقوله : { هو الهدى } الضمير ضمير فصل . والتعريف في الهدى تعريف الجنس الدال على الاستغراق ففيه طريقان من طرق الحصر هما ضمير الفصل وتعريف الجزأين وفي الجمع بينهما إفادة تحقيق معنى القصر وتأكيده للعناية به فأيهما اعتبرته طريق قصر كان الآخر تأكيداً للقصر وللخبر أيضاً .
والتوكيد بإن لتحقيق الخبر وتحقيق نسبته وإبطال تردد المتردد لأن القصر الإضافي لما كان المقصود منه رد اعتقاد المخاطب قد لا يتفطن المخاطب إلى ما يقتضيه من التأكيد فزيد هنا مؤكد آخر وهو حرف ( إن ) اهتماماً بتأكيد هذا الحكم . فقد اجتمع في هذه الجملة عدة مؤكدات هي : حرف إن والقصر ، إذ القصر تأكيد على تأكيد ما في « المفتاح » فهو في قوة مؤكدين ، مع تأكيد القصر بضمير الفصل وهي تنحل إلى أربعة مؤكدات لأن القصر بمنزلة تأكيدين وقد انضم إليهما تأكيد القصر بضمير الفصل وتأكيد الجملة بحرف ( إن ) .
ولعل الآية تشير إلى أن استقبال النبيء صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود لقطع معذرة اليهود كما سيأتي في قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } [ البقرة : 143 ] ، فأعلم رسوله بقوله : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم فتكون إيماء إلى تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس .
وقوله : { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } . اللام موطئة للقسم وذلك توكيد للخبر وتحقيق له . وعبر عن طريقتهم هنالك بالملة نظراً لاعتقادهم وشهرة ذلك عند العرب ، وعبر عنها هنا بالأهواء بعد أن مهد له بقوله : { إن هدى الله هو الهدى } فإن الهوى رأي ناشىء عن شهوة لا عن دليل ، ولهذا لم يؤت بالضمير الراجع للملة وعبر عنها بالاسم الظاهر فشملت أهواؤهم التكذيبَ بالنبيء وبالقرآن واعتقادَهم أن ملتهم لا ينقضها شرع آخر .
وقوله : { مالك من الله من ولي ولا نصير } تحذير لكل من تلقى الإسلام أن لا يتبع بعد الإسلام أهواء الأمم الأخرى ، جاء على طريقة تحذير النبيء صلى الله عليه وسلم مثل :
{ لَئن أشركتَ ليحبَطنَّ عملك } [ الزمر : 65 ] وهو جواب القسم ودليل جواب الشرط لأن اللام موطئة للقسم فالجواب لها . وجيء بإن الشرطية التي تأتي في مواقع عدم القطع بوقوع شرطها لأن هذا فرض ضعيف في شأن النبيء والمسلمين .
والولي القريب والحليف . والنصير كل من يعين أحداً على من يريد به ضراً وكلاهما فعيل بمعنى فاعل .
و ( من ) في قوله { من الله } متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مِثله بعد { ولا نصير } أي نصير من الله .
و ( مِن ) في قوله : { من ولي } مؤكدة للنفي . وعطف النصير على الولي احتراس لأن نفي الولي لا يقتضي نفي كل نصير إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلاً في قبيلة ويكون أنصاره من جيرته . وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه فنفى ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثم نفى الأعم منه وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعم .
وقد اشتملت جملة { ولئن اتبعت أهواءهم } إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو النصارى بشيء من استرضائهم طمعاً في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم . وتأكيد جملة الجزاء بإنَّ وبلام الابتداء في خبرها . واسميةُ جملة الجزاء وهي { مَالَك من الله من ولي ولا نصير } . وتأكيدُ النفي بِمنْ في قوله { من ولي } . والاجمالُ ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله { من العِلم } . وجعل الذي جاء ( أي أنزل إليه ) هو العلم كله لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه . وتأكيدُ { من ولي } بعطف { لا نصير } الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه ، فهو كالتأكيد بالمرادف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النّصَارَى حتى تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ}: وليست اليهودُ يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحقّ فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا، وذلك مما لا يكون منك أبدا، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادّان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل، وأما الملة فإنها الدين وجمعها الملل.
ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أو نَصَارَى}: إنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى، يعني أن بيان الله هو البيان المقنع والقضاء الفاصل بيننا، فهلمّوا إلى كتاب الله وبيانه الذي بيّن فيه لعباده ما اختلفوا فيه، وهو التوراة التي تقرّون جميعا بأنها من عند الله، يتضح لكم فيها المحقّ منا من المبطل، وأيّنا أهل الجنة، وأينا أهل النار، وأينا على الصواب، وأينا على الخطأ، وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المكذّب به من أهل النار دون المصدّق به.
{وَلَئِنْ اتّبَعْتَ} يا محمد هوى هؤلاء اليهود والنصارى، فيما يرضيهم عنك من تهوّد وتنصّر، فصرت من ذلك إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم {من بعد الذي جاءك من العلم} بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة،
{ما لك من الله من وليّ}: ليس لك يا محمد من وليّ يلي أمرك، وقَيّم يقوم به، "ولا نصير "ينصرك من الله، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويمنعك من ذلك إن أحلّ بك ذلك ربك...
وقد قيل إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه غيرنا من سائر الملل، فوعظه الله أن يفعل ذلك، وعلّمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادّعى كل فريق منهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} أخبر عز وجل رسوله أن ليس في وسعك إرضاء هؤلاء لاختلافهم في الدعاوى في الملل...
{قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم} قيل: إن دين الله الذي اختاره أهل الإسلام بالأمر واتباع الآيات والحجج، هو الدين لا كما اختار أولئك بهوى أنفسهم واستقبال الآيات والحجج بالرد والإنكار والمعاندة،
ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم} [له] والبيان لأصحابه ومن دخل في دينه، وصدقه، لا هو. وذلك كثير في القرآن؛ يخاطب هو، والمراد غيره...
وقوله: {ما لك من الله من ولي ولا نصير} ظاهره {من ولي} يتولى الدفاع عنك {ولا نصير} يمنعك من العذاب، ويحتمل: ينصرك، فتغلب به سلطان الله في ما يريد تعذيبك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا تبالِ برضاء الأعداء بعد ما حصل لك رضانا، فإنهم لا يرضون عنك إلا بمتابعة أديانهم، ودون ذلك لهم حظ القتال فَأَعْلِنْ التبري منهم، وأظهر الخلاف معهم، وانصب العداوة لهم، واعلم أن مساكنتهم إلى ما يرضون سبب الشقاوة المؤبدة، فاحرص ألا يخطر ذلك بِبالِك، وادعُ -إلى البراءةِ عنهم وعن طريقتهم- أُمَّتَكَ، وكُنْ بِنا لَنَا، مٌتَبرِّياً عمن سوانا، واثقاً بنصرتنا، فإنَّكَ بِنَا وَلَنَا...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
ولن ترضى عنك اليهود إلا باليهودية، ولا النصارى إلا بالنصرانية. {حتى تتبع ملتهم} والملة: الطريقة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كأنهم قالوا: لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا، إقناطاً منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخولهم في الإسلام، فحكى الله عزّ وجلّ كلامهم، ولذلك قال: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} على طريقة إجابتهم عن قولهم، يعني أن هدى الله الذي هو الإسلام وهو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى. ألا ترى إلى قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع
{بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم} أي من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة...
(ثانيها): أن قوله: {بعد الذي جاءك من العلم} يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة...
(وثالثها): فيها دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلا، فمن هذا الوجه يدل على بطلان التقليد.
(ورابعها): فيها دلالة على أنه لا شفيع لمستحق العقاب لأن غير الرسول إذا اتبع هواه لو كان يجد شفيعا ونصيرا لكان الرسول أحق بذلك وهذا ضعيف، لأن اتباع أهوائهم كفر، وعندنا لا شفاعة في الكفر...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
المعنى: ليس غرضهم يا محمد بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا، بل لو أتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإسلام واتباعهم...
والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله. فكانت الملة والشريعة سواء، فأما الدين فقد فرق بينه وبين الملة والشريعة، فإن الملة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله، والدين ما فعله العباد عن أمره.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
والملة: ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه، من أمللت الكتاب إذا أمليته، والهوى: رأي يتبع الشهوة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والأهواء: جمع هوى، وكان الجمع دليلاً على كثرة اختلافهم، إذ لو كانوا على حق لكان طريقاً واحداً،
{بعد الذي جاءك من العلم}: أي من الدين وجعله علماً، لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الذي جَاءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120]... والأدب أن يقال: خُوطِبَ به صلى الله عليه وسلم، والمراد أُمَّتُهُ لوجودِ عصمته صلى الله عليه وسلم، وكذلك الجواب في سائر ما أشبه هذا المعنى من الآيِ...
وقد أجاب عِيَاضٌ عن الآيِ الواردةِ في القرآن ممَّا يوهمُ ظاهره إِشكالاً، فقال -رحمه اللَّه -: اعلم، وفَّقنا اللَّه وإياك، أنه- عليه السلام -لا يصحُّ ولا يجوز علَيْه ألاَّ يبلغ، وأن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك ولا أن يتقوَّل على اللَّه ما لا يجبُ أو يفتري عليه، أو يضل، أو يختم على قلبه، أو يطيع الكافرين، لكن اللَّه أمره بالمكاشفةِ والبيان في البلاغ للمخالِفِينَ، وإن إِبلاغه، إِنْ لم يكُنْ بهذا البيان فكأنه ما بلَّغ، وطيَّب نفسه، وقوَّى قلبه بقوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] كما قال لموسى وهارون- عليهما السلام: {لاَ تَخَافَا} [طه: 46] لتشتد بصائرهم في الإِبلاغ، وإِظهار دين اللَّهِ، ويذهب عنهمْ خَوْفُ العدوِّ المضعف لليقين، وأما قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل...} [الحاقة: 44] الآية، وقوله {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة} [الإسراء: 75] فمعناه: أنَّ هذا هو جزاء من فعل هذا، وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو صلى الله عليه وسلم لا يفعله، وكذلك قوله تعالَى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض} [الأنعام: 116] فالمراد غيره، كما قال: {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ...} [آل عمران: 149] الآية وقوله: {فَإِن يَشَأ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وَ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وما أشبهه، فالمراد غيره، وأن هذا حال مَنْ أشرك، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَجُوزُ عليه هذا، وقوله تعالَى {اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الأحزاب: 1] فليس فيه أنه أطاعهم، واللَّه يَنْهَاهُ عما يشاء، ويأمره بما يشاء، كما قال تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} [الأنعام: 52] الآية، وما كان طَرَدَهُمْ -عليه السلام- ولا كَانَ من الظالمين. انتهى من «الشِّفَا»...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
بيانٌ لكمال شدةِ شكيمةِ هاتين الطائفتين خاصة إثْرَ بيانِ ما يعُمُّهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت، وإيرادُ لا النافية بين المعطوفَيْن لتأكيد النفي لما مر من أن تصلُّبُ اليهودِ في أمثال هذه العظائم أشدُّ من النصارى، والإشعارِ بأن رضى كلَ منهما مباينٌ لرضى الأخرى أي لن ترضى عنك اليهودُ ولو خلَّيتَهم وشأنَهم حتى تتبعَ ملّتهم ولا النصارى ولو تركتهم ودينَهم حتى تتبع مِلَّتَهم فأُوجِزَ النظمُ ثقةً بظهور المراد...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب، وتتصدع منه الأفئدة، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه، والقائمين ببيان شرائعه، ترك الدِّهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء، التاركين للعمل بالكتاب والسنة، المؤثرين لمحض الرأي عليهما؛ فإن غالب هؤلاء، وإن أظهر قبولاً، وأبان من أخلاقه ليناً لا يرضيه إلا اتباع بدعته، والدخول في مداخله، والوقوع في حبائله، فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه، وسنّة رسوله، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة، وجهالة بينة، ورأي منهار، وتقليد على شفا جرف هار، فهو إذ ذاك ما له من الله من وليّ، ولا نصير، ومن كان كذلك، فهو مخذول لا محالة، وهالك بلا شك، ولا شبهة...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم}: أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل بالملة وكان الظاهر ولئن اتبعتها إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذاناً بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييراً أخرجوه به عن موضوعه...
{بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم} أي المعلوم... ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
تنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم قال عز وجل {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} فعاد إلى ذكر أهل الكتاب على ما عهدنا في أساليب القرآن من ضروب الانتقال بالمناسبات الدقيقة... وقال في معنى الآية: من شأن الإنسان أن يتألم من القبيح أشد التألم إذا وقع ممن لا يتوقع منه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به وأن لا يرى منهم المكابرة والمجاحدة والعناد، ولهذا كبر عليه أن رأى من إعراض اليهود والنصارى عن إجابة دعوته، وإسرافهم في مجاحدته أشد مما رأى من مشركي العرب الذين جاء لمحو دينهم من الأرض، مع موافقته لأهل الكتاب في أصل دينهم ومقصدهم من توحيد الله والإخلاص له وتقويم عوج الفطرة الإنسانية الذي طرأ عليها بسبب التقاليد، وترقية المعارف الدينية إلى أعلى ما استعد له الإنسان من الارتقاء العقلي والأدبي، ولذلك كان يخاطبهم بمثل قوله تعالى {3: 23 قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} الآية وغيرها من الآيات.
ولقد كان من الصعب لولا إعلام الله تعالى أن تعرف درجة فتك التقليد بعقول أهل الكتاب وإفساد الأهواء لقلوبهم، لذلك سلى الله تعالى نبيه عما كان يجده من عنادهم وإيذائهم بآيات كثيرة عرفه فيها حقيقة حالهم، منها هذه الآية الناطقة بأن كلا من اليهود والنصارى على اتحادهم في أصل الدين قد تعصب لتقاليده واتخذ الدين جنسية لا يرضيه من أحد شيء إلا الدخول فيها وقبول لقبها
فقوله تعالى {حتى تتبع ملتهم} مراد به ما هم عليه من التقاليد والأهواء التي غيروا بها وجه الدين الواحد حتى صار بعضهم يحكم بكفر بعض كما تقدم في الآيات السابقة...
ثم أمره تعالى في مقابلة ذلك بقوله {قل إن هدى الله هو الهدى} أي اجهر بقول الحق وهو أن الهدى الصحيح هو هدى الله الذي أنزله على أنبيائه دون ما أضافه إليه اليهود والنصارى بآرائهم وأهوائهم ففرقوا دينهم وكانوا شيعا كل شيعة تكفر الأخرى وتقول إنها ليست على شيء...
{بعد الذي جاءك من العلم} اليقين؛ بالوحي الإلهي المبين، الذي بين ما كان منهم من تحويل القول عن معناه بالتأويل، وتحريفهم الكلم عن مواضعه، ونسيانهم حظا مما ذكروا به...
{ما لك من الله ولي ولا نصير} أي فإنك لن تنجح ولن تصل إلى حقك بمجاراتهم على باطلهم، لأن الله لا ينصرك على ذلك إذ لا يرضيه أن يكون اتباع الهوى؛ طريقا إلى الهدى، والضال لا يرضيه إلا موافقته على ضلاله، ومجاراته على فساده، وإذا لم يكن الله هو الذي يتولى شئونك وينصرك بمعونته فمن ذا الذي ينصرك و يتولاك من بعده؟...
(أقول) ومفهوم هذا المصرح به في آيات أخرى أن ثباته على هدى الله المؤيد بالعلم هو الذي يكون سببا لتوليه تعالى له ونصره إياه عليهم... وفيه أن من سنن الله تأييد متبعي الهدى على علم صحيح وأنهم هم الغالبون المنصورون، وهو ما يعبر عنه علماء الاجتماع ببقاء الأمثل في كل تنازع بينه وبين ما دونه...
(الأستاذ الإمام): من تدبر هذا الإنذار الشديد الموجه من الله تعالى إلى نبي الرحمة، المؤيد منه بالكرامة والعصمة، علم أن المراد به الوعيد والتشديد على الأمة، على حد "إياك أعني واسمعي يا جارة "فإن الله تعالى يخاطب الناس كافة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم كما جرى عرف التخاطب مع الرؤساء والزعماء فقد يقال للملك: إذا فعلت هذا كانت عاقبته كذا، والمراد إذا فعلته دولتك أو أمتك. وقد تقدم غير مرة إسناد عمل بعض الأفراد إلى الأمة كلها ولكن قوله {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم} وهو يعلم جل شأنه أنه لا يتبع أهواءهم في حال من الأحوال، وقد عصمه من الزيغ والضلال، إنما جاء على هذا الأسلوب ليرشد من يأتي بعده ممن يتبع سنته ويأخذ بهديه. فهو يرشدنا بهذا التهديد العظيم إلى الصدع بالحق والانتصار له، وعدم المبالاة بمن يخالفه، مهما قوي حزبهم، واشتد أمرهم، وإنه لتهديد ترتعد منه فرائص الذين يخشون ربهم، ولا سيما إذا أنسوا من أنفسهم ضعفا في الحق كأن تركوا الجهر به أو الدفاع عنه خوفا من إنكار العامة عليهم، ولغط الناس بهم، فمن عرف الحق وعرف أن الله تعالى ولي أهله وناصرهم، لا يخاف في تأييده لومة لائم، ولا يغترن أحد بمن يسميهم الناس علماء وعارفين في سكوتهم عن الحق، ومجاراتهم لأهل الباطل فإنهم ليسوا على شيء من العلم الحقيقي؟ وإن هي إلا كلمات يتلقفونها، أو عادات يتقلدونها، لا حجة للأحياء فيها، سوى قولهم إن الميتين درجوا عليها
(قال): وليس هذا هو العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو شيء كان يلقب بالعلم عند الضالين من أهل الكتاب والمشركين كذلك، وقد نفى عنه كونه علما على الحقيقة بمثل قوله {إن يتبعون إلا الظن} وبقوله {لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} فمن أخذ بقول القائلين، واتبع ما وجد عليه السابقين، بدون بينة يعرف بها وجه الحق من ذلك- وكتاب الله بين يديه لا ينظر فيه ولا يرجع إليه فقد اتبع الهوى بعد الذي جاء من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وباء بالخزي في الدنيا وبالنكال في الآخرة، ولم يكن ولن يكون له من الله ولي ولا نصير.
اللهم أعنا على الجهر بالحق بعد ما عرفناه، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وسيظل اليهود والنصارى يحاربونك، ويكيدون لك، ولا يسالمونك ولا يرضون عنك، إلا أن تحيد عن هذا الأمر، وإلا أن تترك هذا الحق، وإلا أن تتخلى عن هذا اليقين، تتخلى عنه إلى ما هم فيه من ضلال وشرك وسوء تصور كالذي سبق بيانه منذ قليل: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).. فتلك هي العلة الأصيلة، ليس الذي ينقصهم هو البرهان؛ وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق، ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت.. لن يرضيهم من هذا كله شيء، إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق.
إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان.. إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة.. إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما؛ وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} [البقرة: 119] أو على {إنا أرسلناك} [البقرة: 119] وقد جاء هذا الكلام المؤيس من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] وهذا من كرامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم...
و {هدى الله}: ما يقدره للشخص من التوفيق، أي قل لهم لا أملك لكم هدى إلا أن يهديكم الله...
فإضافة الهدى إلى الله تشريف... وقوله: {هو الهدى} الضمير ضمير فصل. والتعريف في الهدى تعريف الجنس الدال على الاستغراق...
ولعل الآية تشير إلى أن استقبال النبيء صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود لقطع معذرة اليهود كما سيأتي في قوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143]، فأعلم رسوله بقوله: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى} بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم فتكون إيماء إلى تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس...
وقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم}. اللام موطئة للقسم وذلك توكيد للخبر وتحقيق له...
والولي: القريب والحليف. والنصير كل من يعين أحداً على من يريد به ضراً وكلاهما فعيل بمعنى فاعل...
و (من) في قوله {من الله} متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مِثله بعد {ولا نصير} أي نصير من الله... وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه فنفى ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثم نفى الأعم منه وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعم...
وقد اشتملت جملة {ولئن اتبعت أهواءهم} إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو النصارى بشيء من استرضائهم طمعاً في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم. وتأكيد جملة الجزاء بإنَّ وبلام الابتداء في خبرها. وإسميةُ جملة الجزاء وهي {مَالَك من الله من ولي ولا نصير}. وتأكيدُ النفي بِمنْ في قوله {من ولي}. والإجمالُ ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله {من العِلم}. وجعل الذي جاء (أي أنزل إليه) هو العلم كله لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه. وتأكيدُ {من ولي} بعطف {لا نصير} الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه، فهو كالتأكيد بالمرادف...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن الذين يثيرون القول في الآيات البينات وخاصة معجزة القرآن هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين غلفت دون الهداية قلوبهم، وتعصبوا لأوهام باطلة سيطرت على نفوسهم، وحسبوا ألا يكون دين فوق دينهم يجب اتباعه، وجهلوا ما عندهم، وضلوا فيه ضلالا مبينا، وغاضبوا محمدا صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} في هذا النص إشارة إلى أنهم هم الذين يعارضون، ويتعنتون؛ لأنه سبق إليهم ما يحسبون به أنهم فوق أن يتبعوا غيرهم، بل غيرهم عليه هو أن يتبعهم، وقد أكد الله تعالى أن ذلك المعنى في نفوسهم، فنفى عنهم الرضا على النبي صلى الله عليه وسلم نفيا مؤكدا للحال التي كانوا عليها عند المبعث المحمدي؛ لأن رسالته عليه الصلاة والسلام، واجهت في نفوسهم شعورا مملوءا بالضلال والهوى والانحراف عن الجادة المستقيمة، ولكي يدخل الحق إليها لا بد من تفريغ ما فيها من ضلال وفساد، وهداية النفس الخالية من فساد المنكر أقرب من النفس الممتلئة بالباطل...
فهم يريدون أن يكونوا متبوعين لا تابعين، وتلك توجد فيهم جحودا، وقسوة في قبول الحق لا يقل عن المشركين، في تمسكهم برياستهم، وشرف قبائلهم وعشائرهم، والمنافسات بينهم...
[و] تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد به شخصه أولا بالذات، إنما يقصد به أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وأن عليهم أن يحرصوا على مجانبتهم، وألا يغتروا بهم، وإنه في وقت ضعف النفوس المؤمنة يكون كيد هؤلاء مستمرا، دائما ومذهبا يصلون به إلى قلوب ضعاف الإيمان، فقد يميلون – وإن لم يكفروا – فيستحسنوا ما عندهم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ويواصل الخطاب الإلهي تحذيره للمسلمين من الوقوع في أشراك وحبائل الملل الأخرى، ومن السير في ركاب أهلها، مؤكدا بأقوى وجوه التأكيد أن الرضى التام من غير المسلمين عن المسلمين مرهون مسبقا وقبل كل شيء بالاندماج فيهم وبالتنكر للإسلام، وهكذا يخاطب الله رسوله، وعن طريقه يخاطب كافة المؤمنين: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ثم يلقن الله لرسوله والمؤمنين الجواب الفاصل للدفاع في هذا الموقف {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى} وإذن فلا هدى في سواه، وإنما في سواه الضلال والخبال، على حد ما جاء في الأثر في وصف القرآن (من ابتغى الهدى في غيره أضله الله)...
.. نلاحظ هنا تكرار النفي وذلك حتى نفهم أن رضا اليهود غير رضا النصارى.. ولو قال الحق تبارك وتعالى، ولن ترضى عنك اليهود والنصارى بدون لا.. لكان معنى ذلك أنهم مجتمعون على رضا واحد أو متفقون.. ولكنهم مختلفون بدليل أن الله تعالى قال: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} (من الآية 113 سورة البقرة). إذن فلا يصح أن يقال فلن ترضى عنك اليهود والنصارى.. والله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لن ترضى عنك اليهود ولن ترضى عنك النصارى.. وإنك لو صادفت رضا اليهود فلن ترضى عنك النصارى.. وإن صادفت رضا النصارى فلن ترضى عنك اليهود..
ثم يقول الحق سبحانه: {حتى تتبع ملتهم}.. والملة هي الدين وسميت بالملة لأنك تميل إليها حتى ولو كانت باطلا.. والله سبحانه وتعالى يقول: {ولا أنتم عابدون ما أعبد "3 "ولا أنا عابد ما عبدتم "4" ولا أنتم عابدون ما أعبد "5" لكم دينكم ولي دين "6 "} (سورة الكافرون). فجعل لهم دينا وهم كافرون ومشركون..
ولكن ما الذي يعصمنا من أن نتبع ملة اليهود أو ملة النصارى.. الحق جل جلاله يقول: {قل إن الهدى هدى الله} (من الآية 73 سورة آل عمران)
فاليهود حرفوا في ملتهم والنصارى حرفوا فيها.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه هدى الله.. والهدى هو ما يوصلك إلى الغاية من أقصر طريق.. أو هو الطريق المستقيم باعتباره أقصر الطرق إلى الغاية.. وهدى الله طريق واحد، أما هدى البشر فكل واحد له هدى ينبع من هواه. ومن هنا فإنها طرق متشبعة ومتعددة توصلك إلى الضلال.. ولكن الهدى الذي يوصل للحق هو هدى واحد.. هدى الله عز وجل.
وقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم} إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أن ملة اليهود وملة النصارى أهواء بشرية.. والأهواء جمع هوى.. والهوى هو ما تريده النفس باطلا بعيدا عن الحق.. لذلك يقول الله جل جلاله: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير}...
إن ضرب المثل هنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقصود به أن اتباع ملة اليهود أو النصارى مرفوض تماما تحت أي ظرف من الظروف، لقد ضرب الله سبحانه المثل برسوله حتى يقطع على المغرضين أي طريق للعبث بهذا الدين بحجة التقارب مع اليهود والنصارى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إننا نعتقد أنَّ ما يذكره هؤلاء المفسرون هو نوع من أنواع الاجتهاد في استيحاء القصة التي يفرضون وجودها في كلّ آية من الآيات التي يخاطب اللّه فيها نبيَّه في كلّ قضية من القضايا المتعلّقة بموقف النبيّ من العلاقات المتصلة بالآخرين، ولكنَّنا لا نرى ضرورة في ذلك، بل الظاهر هو أنَّ اللّه كان يريد أن يقدّم للمسلمين من خلال النبيّ الوعي العميق للواقع الذي يحيط بهم، سواء في ذلك الواقع المتمثّل بالأشخاص الذين يخالفونهم في الدِّين، أو المتمثّل بالأحداث والأوضاع المحيطة بهم، ليكونوا على معرفة عميقة شاملة لما حولهم، ما يجنّبهم خطر الوقوع في تجربة المعرفة التي قد تعرّضهم للهلاك، وتدفعهم إلى السير في وضوح الرؤية بعيداً عن الانفعالات السريعة والأوهام الطائرة.
وقد يكون الأساس في اختيار النبيّ للخطاب، ثُمَّ اتباع أقسى الأساليب شدّةً في خطاب اللّه له، هو الإيحاء بأنَّ هذه القضية هي من القضايا التي تبلغ مرحلة كبيرة من الأهمية والخطورة، بالمستوى الذي لا يمكن فيها مراعاة جانب أي شخص، وإن كان في مستوى عظمة النبيّ محمَّد (صلى الله عليه وسلم)، لأنَّ عظمة الأشخاص وقداستهم مستمدة من طاعتهم للّه في ما يريد وفي ما لا يريد، فإذا انحرفوا عن الخطّ -ولن ينحرفوا عنه- سقطت عظمتهم وتحوّلوا إلى أشخاص عاديين خاطئين، لا يملكون لأنفسهم من دون اللّه ولياً ولا نصيراً.
ويعتبر هذا الأسلوب من الأساليب البارزة في القرآن في القضية التي تتخذ جانب الخطورة على أساس العقيدة وصدقها وسلامتها من الانحراف، وذلك كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 4447]. أمّا هذه الآية، فقد عالجت قضية من أخطر القضايا التي قد تواجه العاملين في سبيل اللّه في علاقتهم بالكافرين والمنافقين والفاسقين، فقد يستسلم العاملون لحالة نفسية طاهرة يعيشون فيها الأمل الكبير بهداية هؤلاء المعادين للإسلام من خلال الأساليب التي يتبعونها إزاء المسلمين في ما يقدّمونه من تبريرات، وفي ما يثيرونه من انفعالات وعواطف، وفي ما يوحون به من أفكار حميمة توحي بقربهم إلى الحقّ، وذلك من خلال بعض المواقف التي يتقدّمون بها في بعض مراحل الطريق، مما يخلق انطباعاً بأنهم يتقدّمون إلى الحقّ، وقد تخلق هذه الحالة حالة أخرى، وهي الرغبة في إرضاء هؤلاء ببعض الكلمات والمواقف طمعاً في الحصول على صداقتهم أو رضاهم، مما يستدعي من المسلمين تقديم تنازلات فكرية أو عملية في حالات معينة. وقد وقع الكثيرون من العاملين في هذا الشرك الشيطاني الذي ينصبه أعداء اللّه، فاستطاعوا أن يجروهم إلى تقديم بعض التنازلات على حساب سلامة الإسلام في عقيدته وشريعته ومواقعه، ما أعطاهم في نظر البسطاء من المسلمين صفة الشرعية لمبادئهم، وأغراهم بالتالي بالمطالبة بتنازلات جديدة تبعاً لحاجة الظروف الموضوعية لذلك، وكانت النتيجة هي إعطاء أعداء الدِّين فرصة للتقدّم وللحصول على الشرعية، وخسارة المسلمين لكثير من المواقع الفكرية والعملية، من خلال الفكرة التي أوحت بها هذه التنازلات، وهي أنَّ من الممكن للمسلم المحافظة على إسلامه، مع التنازل عن بعض جوانب عقيدته وشريعته...