قوله تعالى : { يسألك أهل الكتاب } الآية ، وذلك أن كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء ، كما أتى به موسى عليه السلام ، فأنزل الله عليه : { يسألك أهل الكتاب } .
قوله تعالى : { أن تنزل عليهم كتابا من السماء } . وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكم واقتراح ، لا سؤال انقياد ، والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد .
قوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } أي : أعظم من ذلك ، يعني : السبعين الذين خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل .
قوله تعالى : { فقالوا أرنا الله جهرة } أي : عياناً ، قال أبو عبيدة معناه : قالوا جهرة أرنا الله .
قوله تعالى : { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل } . يعني إلهاً .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك } ، ولم نستأصلهم ، قيل : هذا استدعاء إلى التوبة معناه : أن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم ، فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم .
قوله تعالى : { وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } أي : حجةً بينةً من المعجزات ، وهي الآيات التسع .
هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح ، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم . وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل ، وهذا غاية الظلم منهم والجهل ، فإن الرسول بشر عبد مدبر ، ليس في يده من الأمر شيء ، بل الأمر كله لله ، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول ، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم ، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا }
وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا ، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة ، بل ولا شبهة ، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه ؟
بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }
فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم ، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به . من سؤالهم له رؤية الله عيانا ، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه ، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من الأسئلة المتعنتة التى كان اليهود يوجهونها إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومن النعم التى أنعم - سبحانه - بها عليهم ومن المنكرات التى قالوها وفعلوها ، ومن العقوبات التى عاقبهم الله بها بسب ظلمهم وفسوقهم . . استمع إلى القرآن وهو يحكى كل ذلك فيقول : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب . . . أَجْراً عَظِيماً } .
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ( 153 ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 154 ) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( 155 ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( 156 ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( 157 ) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 158 ) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( 159 ) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ( 160 ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 161 ) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ( 162 )
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } . . الخ ذكروا روايات منها : ما أخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب القرطى قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله فقالوا : يا محمد ، إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا أنت بالألواح من عند الله حتى نصدقك . فأنزل الله - تعالى - { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } . إلى قوله { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } وعن السدى : قالت اليهود : يا محمد ، إن كنت صادقا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى .
وعن قتادة : أنهم سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا ، تأمر بتصديقه واتباعه .
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، بدليل سياق الأيات الكريمة التى ذكرت أوصافا تنطبق عليهم ، وبدليل ما ذكرناه فى سبب نزول الآيات .
والمعنى يسألك اليهود يا محمد على سبيل التعنت والعناد ، أن تنزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا جملة كما جاء موسى لآبائهم بالتوراة مكتوبة فى الألواح جملة . أو يسألونك أن تنزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا من السماء تأمرهم بتصديقك ، وسؤالهم هذا مقصدهم من ورائه التعنت والجحود ، ولو كانوا يريدون الإِيمان حقا لما وجهوا إليك هذه الأسئلة المتعنتة ؛ لأن الأدلة القاطعة قد قامت على صدقك .
وعبر بالمضارع فى قوله { يَسْأَلُكَ } لقصد استحضار حالتهم العجيبة فى هذا السؤال ، حتى لكأن السامع يراهم ، وللدلالة على تكرار أسئلتهم وتجددها المرة تلو الأخرى بدون حياء أو خجل .
وقوله : { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً } بيان للون من رذائلهم وقبائحهم ، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى وسوء أدب .
والفاء فى قوله { فَقَدْ سَأَلُواْ } معطوفة على جملة محذوفة والتقدير : لا تبتئس يا محمد من أقوال هؤلاء اليهود ، ولا تهتهم بأسئلتهم ، فتلك سنشنة قديمة معروفة عن آبائهم ، فقد سأل آباؤهم موسى أسئلة أكبر من ذلك فقالوا له : أرنا الله جهرة أى رؤية ظاهرة بحيث نعاينه ونشاهده بأبصارنا ويطلب إلينا الإِيمان بك . ويصح أن تكون الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر ، وإليه أشار صاحب الكشاف بقوله : { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك } ، جواب لشرط مقدر معناه ( إن استكبرت ما سألوك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ) وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم فى أيام مموسى وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم ، وراضين بسؤالهم . ومضاهين لهم فى التعنت .
أى : أن حاضر هؤلاء اليهود الذين يعيشون معك يا محمد كماضى آبائهم الأقدمين ، وأخلاق الأبناء صورة من أخلاق الآباء ، وجميعهم لا يبغون من سؤالهم الاهتداء إلى الحق وإنما يبغون إعنات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - والإِساءة إليهم .
والفاء فى قوله : { فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً } تفسيرية كما فى قولهم : توضأ فغسل وجهه . إذا أظهر ماءها . وجهر الشئ : كشفه ، وجهر الرجل : رآه بلا حجاب .
أى : أرنا الله جهارا عيانا بحاسة البصر فيكون قوله { جَهْرَةً } مفعولا مطلقا ، لأن لفظ { جَهْرَةً } نوع من مطلق الرؤية فيلاقى عامله فى الفعل .
ويصح أن يكون حالا من المفعول الأول أى : أرنا الله مجاهررين معاينين وقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ } بيان للعقوبة التى حلت بهم نتيجة سوء أدبهم وجرأتهم على خالقهم وعلى أنبيائهم .
والصاعقة - كما يقول ابن جرير - : كل أمر هائل رآه الرائى أو عاينه أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل صوتا كان ذلك أو نارا أو زلزلة أو رجفة .
وقال الراغب : الصاعقة على ثلاثة أوجه : الموت كقوله : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } والعذاب كقوله : { أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } والنار كقوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } وما ذكره - سبحانه إنما هى أشياء حاصلة من الصاعقة ؛ فإن الصاعقة هى الصوت الشديد فى الجو ، ثم يكون منه نار فقط ، أو عذاب ، أو موت ، وهى فى ذاتها شئ واحد . وهذه الأشياء تأثيرات منها .
ويبدو أن المراد بالصاعقة هنا : ذلك الصوت الشديد المجلجل المزلزل المصحوب بنار هائلة ، والذى كان من آثاره أن صعقوا : أى خروا مغشيا عليهم أو هلكوا ، بسبب ظلمهم وعنادهم وفسوقهم عن أمر الله .
وقوله : { ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } بيان لنوع ثالث من جرائمهم ، ولمظهر من مظاهر رحمة الله بهم .
أى : أن هؤلاء الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، أخذتهم الصاعقة عقوبة لهم على ظلمهم ، لم يرتدعوا ولم ينزجروا ، بل لجوا فى طغيانهم وضلالهم فاتخذوا العجل معبودا لهم من دون الله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } أى من بعد ما جاءتهم الدلائل القاطعة على وحدانية الله وصدق أنبيائه .
وقوله : { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } أى . عفونا من اتخاذهم العجل إلها بعد أن تابوا وأقلعوا عن عبادته ، لأن التوبة تجب ما قبلها .
وقوله . { وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } أى . أعطينا موسى بفضلنا ومنتنا حججا بينات ومعجزات باهرات ، وقوة وقدرة على الانتصال على من خالفه و ( ثم ) فى قوله . { ثُمَّ اتخذوا العجل } للتراخى الرتبى ؛ لأن اتخاذهم العجل إلها أعظم جرما مما حكاه الله عنهم من جرائم قبل ذلك .
وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } بيان لفرط ضلالهم وانطماس بصيرتهم ، لأنهم لم يبعدوا العجل عن جهالة ، وإنما عبدوه من بعد ما وصلت إلى أسماعهم وعقولهم الدلائلة الواضحة وعلى وحدانية الله ، وعلى أن عبادة العجل لا يقدم عليها إنسان فيه شئ من العقل وحسن الإِدراك .
واسم الإِشارة فى قوله { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } يعود إلى اتخاذ العجل معبودا من دون الله .
والجملة الكريمة حض لليهود المعاصرين للعهد النبوى على الدخول فى الإِسلام فإنهم متى فعلوا ذلك غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم كما غفر لآبائهم بعد أن تابوا من عبادة العجل .
هذا ، وما حكته هذه الآية الكريمة من جرائم بنى إسرائيل بصورة مجملة قد جاء مفصلا فى مواطن أخرى ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىَ أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوَاْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمّ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىَ سُلْطَاناً مّبِيناً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يَسْئَلكَ يا محمد أهْلُ الكِتابِ يعني بذلك : أهل التوراة من اليهود ، أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ .
واختلف أهل التأويل في الكتاب الذي سأل اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء ، فقال بعضهم : سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا ، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ قالت اليهود : إن كنت صادقا أنك رسول الله ، فأتنا كتابا مكتوبا من السماء كما جاء به موسى .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدّقك فأنزل الله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ . . . إلى قوله : وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتانا عَظِيما .
وقال آخرون : بل سألوه أن ينزّل عليهم كتابا خاصة لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ أي كتابا خاصة فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللّهَ جَهْرَةً .
وقال آخرون : بل سألوه أن ينزّل على رجال منهم بأعيانهم كتبا بالأمر بتصديقه واتباعه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ وذلك أن اليهود والنصارى أتوُا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لن نتابعك على ما تدعونا إليه ، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله ، وإلى فلان بكتاب أنك رسول الله قال الله جلّ ثناؤه : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنَ ذَلِكَ فقالُوا أرِنا الله جَهْرَةً .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزّل عليهم كتابا من السماء آية ، معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها ، شاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق ، آمرة لهم باتباعه . وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابا مكتوبا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم ، وجائز أن يكون ذلك كتبا إلى أشخاص بأعينهم . بل الذي هو أولى بظاهر التلاوة أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لينزل الكتاب الواحد إلى جماعتهم لذكر الله تعالى في خبره عنهم الكتاب بلفظ الواحد ، بقوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ ولم يقل : «كتبا » .
وأما قوله : فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فإنه توبيخ من الله جلّ ثناؤه سائلي الكتاب الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزّله عليهم من السماء في مسألتهم إياه ذلك ، وتقريع منه لهم . يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد لا يعظمنّ عليك مسألتهم ذلك ، فإنهم من جهلهم بالله وجراءتهم عليه واغترارهم بحلمه ، لو أنزلتُ عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم ، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صَعْقتهم ، فعبدوا العجل ، واتخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم لأنهم لن يعدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافلهم . ثم قصّ الله من قصتهم وقصة موسى ما قصّ ، يقول الله : فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ يعني : فقد سأل أسلاف هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء فقالوا له أرِنا اللّهَ جَهْرَةً : أي عيانا نعاينه وننظر إليه . وقد أتينا على معنى الجهرة بما في ذلك من الرواية والشواهد على صحة ما قلنا في معناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك بما :
حدثني به الحرث ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون بن موسى ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن معاوية ، عن ابن عباس في هذه الاَية ، قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه ، إنما قالوا : جَهْرَةً أرِنا اللّهَ قال : هو مقدّم ومؤخّر .
وكان ابن عباس يتأوّل ذلك أن سؤالهم موسى كان جهرة .
وأما قوله : فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ فإنه يقول : فصعقوا بظلمهم أنفسهم ، وظلمهم أنفسهم كان مسألتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة ، لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته . وقد بيّنا معنى الصاعقة فيما مضى باختلاف المختلفين في تأويلها والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب .
وأما قوله : ثُمّ اتّخَذُوا العِجْلَ فإنه يعني : ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة ، بعد ما أحياهم الله ، فبعثهم من صعقتهم ، العِجْلَ الذي كان السامريّ نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام ، إلها يعبدونه من دون الله . وقد أتينا على ذكر السبَب الذي من أجله اتخذوا العجل وكيف كان أمرهم وأمره فيما مضى بما فيه الكفاية .
وقوله : مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا البيناتُ من الله ، والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانا جهارا . وإنما عنى بالبينات : أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة ، وكانت تلك الاَيات البينات لهم على أن ذلك كذلك ، إصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة ، ثم إحياءه إياهم بعد مماتهم مع سائر الاَيات التي أراهم الله دلالة على ذلك . يقول الله مقبحا إليهم فعلَهم ذلك وموضحا لعباده جهلهم ونقصَ عقولهم وأحلامهم : ثم أقرّوا للعجل بأنه لهم إله ، وهم يرونه عيانا وينظرون إليه جهارا ، بعد ما أراهم ربهم من الاَيات البينات ما أراهم ، أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا في حياتهم الدنيا ، فعكفوا على عبادته مصدّقين بألوهته .
وقوله : فَعَفَوْنا عَنْ ذَلِكَ يقول : فعفونا لعَبَدَة العجل عن عبادتهم إياه ، وللمصدّقين منهم بأنه إلههم ، بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم من الاَيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك بالتوبة التي تابوها إلى ربهم بقتلهم أنفسَهم وصبرهم في ذلك على أمر ربهم . وآتَيْنا مُوسَى سُلْطانا مُبِينا يقول : وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه وحقية نبوّته ، وتلك الحجة هي الاَيات البينات التي آتاه الله إياها .
لمَّا ذكر معاذير أهل الكتابين في إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أعقبها بذكر شيء من اقتراحهم مجيء المعجزات على وفق مطالبهم . والجملة استئناف ابتدائي .
ومجيء المضارع هنا : إمّا لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال حتّى كأنّ السامع يراهم كقوله : { ويَصْنَعُ الفُلْك } [ هود : 38 ] ، وقوله : { بل عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون } [ الصافات : 12 ] ، وقوله : { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] . وإمَّا للدلالة على تكرار السؤال وتجدّده المرّة بعد الأخرى بأن يكونوا ألَحّوا في هذا السؤال لِقصد الإعنات ، كقول طريف بن تميم العنبري :
بعثوا إليّ عَريفَهم يَتَوَسَّمُ
أي يكرّر التوسّم . والمقصود على كلا الاحتمالين التعجيب من هذا السؤال ، ولذلك قال بعده : { فقد سألوا موسى } . والسَّائلُون هم اليهود ، سألوا معجزة مثلَ معجزة موسى بأن ينزل عليه مثل ما أنزلت الألواح فيها الكلمات العشر على موسى ، ولم يريدوا جميع التوراة كما توهّمه بعض المفسّرين فإنّ كتاب التوراة لم ينزل دفعة واحدة . فالمراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود .
والكتاب هنا إمَّا اسم للشيء المكتوب كما نزلت ألواح موسى ، وإمّا اسم لقطعة ملتئمة من أوراق مكتوبة ، فيكونون قد سألوا معجزة تغاير معجزة موسى .
والفاء في قوله : { فقد سألوا موسى } فاء الفصيحة دالّة على مقدّر دلّت عليه صيغة المضارع المراد منها التعجيب ، أي فلا تعجب من هذا فإنّ ذلك شنشنة قديمة لأسلافهم مع رسولهم إذ سألوه معجزة أعظم من هذا ، والاستدلال على حالتهم بحالة أسلافهم من قبيل الاستدلال بأخلاق الأمم والقبائل على أحوال العشائر منهم ، وقد تقدّم بيان كثير منه في سورة البقرة .
وفي هذا الكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ودلالة على جراءتهم ، وإظهارُ أنّ الرسل لا تجيء بإجابة مقترحات الأمم في طلب المعجزات بل تأتي المعجزات بإرادة الله تعالى عند تحدّي الأنبياء ، ولو أجاب الله المقترحين إلى ما يقترحون من المعجزات لجعل رسله بمنزلة المشعوذين وأصحاب الخنقطرات والسيمياء ، إذ يتلقّون مقترحات الناس في المحافل والمجامع العامَّة والخاصّة ، وهذا ممَّا يحُطّ من مقدار الرسالة .
وفي إنجيل متَّى : أنّ قوماً قالوا للمسيح : نريد أن نرى منك آية فقال : « جِيل شِرّير يطلب آية ولا تعطى له آية » . وتكرّر ذلك في واقعة أخرى . وقد يُقبل ذلك من المؤمنين ، كما حكى الله عن عيسى : { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن يُنزّل علينا مائدة من السماء قال اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } إلى قوله { قال الله إنّي منزّلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنِّي أعذّبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 112 ، 115 ] ، وقال تعالى : { وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأوّلون وآتينا ثمودَ الناقةَ مُبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْوِيفاً } [ الإسراء : 59 ] .
وهم لمّا سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ما أرادوا التيمّن بالله ، ولا التنعّم بالمشاهدة ، ولكنَّهم أرادوا عَجَباً ينظرونه ، فلذلك قالوا : { أرِنا الله جهرة } ، ولم يقولوا : ليتنا نرى ربّنا . { وجَهْرَة } ضدّ خُفية ، أي عَلَناً ، فيجوز أن يكون صفة للرؤية المستفادة من ( أرنا ) ، ويجوز أن يكون حالاً من المرفوع في ( أرنا ) : أي حال كونك مجاهراً لنا في رؤيته غير مخف رؤيته .
واستطرد هنا ما لحقهم من جرّاء سؤالهم هذه الرؤية وما ترتّب عليه فقال : { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } ، وهو ما حكاه تعالى في سورة البقرة ( 55 ) بقوله : { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون . وكان ذلك إرهاباً لهم وزجراً ، ولذلك قال : { بظلمهم } والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة ، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية ؛ لأنّ موسى قد سأل مثل سؤالهم مرّة أخرى : حكاه الله عنه بقوله : { ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك } الآية في سورة الأعراف ( 143 ) . وبيّن أنّهم لم يردعهم ذلك فاتَّخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحْدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل بحرف ( ثمّ ) المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبى . فإنّ اتّخاذهم العجل إلهاً أعظم جرماً ممّا حكي قبله ، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطاناً مبيناً ، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم ، فصار يزجرهم ويؤنّبهم . ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلهاً .