قوله : { وإسماعيل } يعني : ابن إبراهيم { وإدريس } وهو أخنوخ { وذا الكفل كل من الصابرين } على أمر الله ، واختلفوا في ذا الكفل . قال عطاء : إن نبياً من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك ، فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر ، ويصوم بالنهار ولا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه ففعل ذلك ، فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا فتكفل ، ووفى به فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل . قال مجاهد : لما كبر اليسع قال : لو أني أستخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل ، قال : فجمع الناس فقال : من يتقبل مني بثلاث أستخلفه : يصوم النهار ويقوم الليل ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا فرده ذلك اليوم ، وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل فقال : أنا ، فاستخلفه فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم ، فقام ففتح الباب فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني ، وفعلوا وفعلوا وجعل يطول حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة ، فقال له : إذا رحت فائتني حتى آخذ حقك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره ، فقام يبتغيه فلما كان من الغد جلس يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ فقال : الشيخ المظلوم ففتح فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فائتني ؟ فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق فإذا رحت فائتني ، ففاتته القائلة وراح فجعل ينظر فلا يراه فشق عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإنه قد شق علي النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها ، فإذا هو في البيت يدق الباب من داخل ، فاستيقظ فقال : يا فلان ألم آمرك ؟ فقال : أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت ، فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما هو أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ فعرفه فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك الله مني ، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل أمرا فوفى به . وقيل : إن إبليس جاءه وقال : إن لي غريماً يمطلني فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه ، فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب . وروي أنه اعتذر إليه . وقال : إن صاحبي هرب . وقيل : إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله فوفى به . واختلفوا في أنه هل كان نبياً ، فقال بعضهم : كان نبياً . وقيل : هو إلياس . وقيل : زكريا . وقال أبو موسى : لم يكن نبياً ولكن عبداً صالحاً .
{ 85 - 86 } { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ }
أي : واذكر عبادنا المصطفين ، وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر ، وأثن عليهم أبلغ الثناء ، إسماعيل بن إبراهيم ، وإدريس ، وذا الكفل ، نبيين من أنبياء بني إسرائيل { كُلٌّ } من هؤلاء المذكورين { مِنَ الصَّابِرِينَ } والصبر : هو حبس النفس ومنعها ، مما تميل بطبعها إليه ، وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة : الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله ، والصبر على أقدار الله المؤلمة ، فلا يستحق العبد اسم الصبر التام ، حتى يوفي هذه الثلاثة حقها . فهؤلاء الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، قد وصفهم الله بالصبر ، فدل أنهم وفوها حقها ، وقاموا بها كما ينبغي .
ثم أشارت السورة إشارات مجملة إلى قصة كل من إسماعيل وإدريس وذى الكفل ، قال - تعالى - : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ . . . } .
وإسماعيل : هو الابن الأكبر لإبراهيم - عليهما السلام - وهو الذبيح الذى افتداه الله - تعالى - بذبح عظيم .
وإدريس : هو واحد من أنبياء الله - تعالى - ، قالوا : وهو جد نوح - عليه السلام - وأنه ولد فى حياة آدم ، وبعث بعد موته .
أما ذو الكفل : فقد قال الآلوسى فى شأنه ما ملخصه : ظاهر نظم ذى الكفل فى سلك الأنبياء أنه منهم ، وهذا ما ذهب إليه الأكثر . واختلف فى اسمه : فقيل : بشر وهو ابن أيوب ، بعثه الله - تعالى - بعد أبيه ، وكان مقيما بالشام .
وقيل : هو إلياس بن ياسين وينتهى نسبه إلى هارون - عليه السلام - .
وقيل : هو زكريا والد يحيى - عليهما السلام - وسمى بذلك لكفالته مريم .
وقيل : لم يكن نبيا وإنما كان عبدا صالحا . . . " .
ثم مدح - سبحانه - هؤلاء الأنبياء فقال : { كُلٌّ مِّنَ الصابرين } أى : كل واحد منهم من عبادنا الصابرين الذين تحملوا فى سبيلنا الكثير من المصاعب والآلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلّ مّنَ الصّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ } .
يعني تعالى ذكره بإسماعيل بن إبراهيم صادق الوعد ، وبإدريس : أخنوخ ، وبذي الكفل : رجلاً تكفل من بعض الناس ، إما من نبيّ وإما من ملك من صالحي الملوك بعمل من الأعمال ، فقام به من بعده ، فأثني الله عليه حسن وفائه بما تكفل به وجعله من المعدودين في عباده ، مع من حمد صبره على طاعة الله . وبالذي قلنا في أمره جاءت الأخبار عن سلف العلماء . ذكر الرواية بذلك عنهم :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث : أن نبيّا من الأنبياء ، قال : من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ؟ فقام شاب فقال : أنا . فقال : اجلس : ثم عاد فقال : من تكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : أنا . فقال : اجلس ثم عاد فقال : من تكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : أنا فقال : تقوم الليل وتصوم النهار ولا تغضب . فمات ذلك النبيّ ، فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس ، فكان لا يغضب . فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليُغضبه وهو صائم يريد أن يَقِيل ، فضرب الباب ضربا شديدا ، فقال : من هذا ؟ فقال : رجل له حاجة . فأرسل معه رجلاً ، فقال : لا أرضى بهذا الرجل . فأرسل معه آخر ، فقال : لا أرضى بهذا . فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه ، حتى إذا كان في السوق خلاّه وذهب ، فسُمّي ذا الكفل .
حدثنا ابن المثني ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا وهيب ، قال : حدثنا داود ، عن مجاهد ، قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت على الناس رجلاً يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل . قال : فجمع الناس ، فقال : من يَتَقَبّلْ لي بثلاث أستخلفه : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ؟ قال : فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا . فقال : أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال : نعم . قال : فردّهم ذلك اليوم ، وقال مثلها اليوم الاَخر ، فسكت الناس وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا . فاسْتَخْلَفَه . قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان فأعياهم ، فقال : دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة ، فدقّ الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم . قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقصّ عليه ، فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا . فجعل يطوّل عليه ، حتى حضر الرّواح وذهبت القائلة ، وقال : إذا رحت فأتنى آخذ لك بحقك فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره ، فجعل يبتغيه . فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه . فلما رجع إلى القائلة ، فأخذ مضجعه ، أتاه فدقّ الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم . ففتح له ، فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأْتني ؟ فقال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني . قال : فانطلِقْ فإذا رحت فأتني قال : ففاتته القائلة ، فراح فجعل ينظر فلا يراه ، فشقّ عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعُنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شقّ عليّ النوم فلما كان تلك الساعة جاء ، فقال له الرجل وراءَك ، فقال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري ، قال : والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه . فلما أعياه نظر فرأى كوّة في البيت ، فتسوّر منها ، فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدقّ الباب ، قال : واستيقظ الرجل فقال : يا فلان ، ألم آمرك ؟ قال : أما من قِبلى والله فلم تُؤْتَ ، فانظر من أين أُتِيتَ قال : فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا هو معه في البيت ، فعرفه فقال : أعدوّ الله ؟ قال : نعم أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما ترى لأغضبك . فسماه ذا الكفل ، لأنه تكفل بأمر فوفى به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : وَذَا الكِفْلِ قال رجل صالح غير نبيّ ، تكفل لنبيّ قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمه لهم ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فسُمّي ذا الكِفل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : ويقضي بينهم بالحقّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس قال : كان في بني إسرائيل مِلك صالح ، فكبر ، فجمع قومه فقال : أيكم يكفل لي بمُلكي هذا على أن يصوم النهار ويقوم الليل ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ولا يغضب ؟ قال : فلم يقم أحد إلا فتى شاب ، فازدراه لحداثة سنه ، فقال : أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ؟ فلم يقم إلا ذلك الفتى قال : فازدراه . فلما كانت الثالثة قال مثل ذلك ، فلم يقم إلا ذلك الفتى ، فقال : تعال فخلى بينه وبين ملكه . فقالم الفتى ليلة فلما أصبح جعل يحكم بين بني إسرائيل فلما انتصف النهار دخل ليقيل ، فأتاه الشيطان في صورة رجل من بني آدم ، فجذب ثوبه ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ قال : إذا كان العشية فأتني قال فانتظره بالعشيّ فلم يأته فلما انتصف النهار دخل ليَقِيل ، جذب ثوبه وقال : أتنام والخصوم على بابك ؟ قال : قلت لك : ائتني العشيّ فلم تأتني ، ائتني ، بالعشيّ فلما كان بالعشيّ انتظره فلم يأت فلما دخل ليقيل جذب ثوبه ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ قال : أخبرني من أنت ، لو كنت من الإنس سمعت ما قلت قال : هو الشيطان ، جئت لأفتنك فعصمك الله مني . فقضي بين بني إسرائيل بما أنزل الله زمانا طويلاً ، وهو ذو الكفل ، سُمي ذا الكفل لأنه تكفل بالملك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، عن أبي موسى الأشعريّ ، قال وهو يخطب الناس : إن ذا الكفل لم يكن نبيّا ولكن كان عبدا صالحا ، تكفل بعمل رجل صالح عند موته ، كان يصلي لله كل يوم مئة صلاة ، فأحسن الله عليه الثناء في كفالته إياه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أمّا ذو الكفل فإنه كان على بني إسرائيل مَلِك فلما حضره الموت ، قال : من يكفل لي أن يكفيني بني إسرائيل ولا يغضب ويصلي كل يوم مئة صلاة ؟ فقال ذو الكفل : أنا . فجعل ذو الكفل يقضي بين الناس ، فإذا فرغ صلى مئة صلاة . فكاده الشيطان ، فأمهله حتى إذا قضي بين الناس وفرغ من صلاته وأخذ مضجعه فنام ، أتى الشيطان بابه فجعل يدقه ، فخرج إليه ، فقال : ظُلمت وصُنع بي فأعطاه خاتمه وقال : اذهب فأتني بصاحبك وانتظره ، فأبطأ عليه الاَخر ، حتى إذا عرف أنه قد نام وأخذ مضجعه ، أتى الباب أيضا كي يغضبه ، فجعل يدقه ، وخدش وجه نفسه فسالت الدماء ، فخرج إليه فقال : ما لك ؟ فقال : لم يتبعني ، وضُربت وفُعل فأخذه ذو الكفل ، وأنكر أمره ، فقال : أخبرني من أنت ؟ وأخذه أخذا شديدا ، قال : فأخبره من هو .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَذَا الكِفْل قال : قال أبو موسى الأشعريّ : لم يكن ذو الكفل نبيّا ، ولكنه كَفَل بصلاة رجل كان يصلي كل يوم مئة صلاة ، فوفى ، فكفل بصلاته ، فلذلك سُمي ذا الكفل .
ونُصِبَ «إسماعيل » و «إدريس » و «ذا الكفل » ، عطفا على «أيوب » ، ثم استؤنف بقوله : كُلّ فقال : كُلّ مِنَ الصّابِرِينَ ومعنى الكلام : كلهم من أهل الصبر فيما نابهم في الله .
المعنى واذكر إسماعيل وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل وهو أبو العرب المعروفين اليوم في قول بعضهم { وإدريس } هو خنوخ هو أول نبي بعثه الله تعالى من بني آدم وروي أنه كان خياطاً وكان يسبح الله تعالى عند إدخال الإبرة ويحمده عند أخراجها و «ذو الكفل » كان نبياً .
وروي أنه بعث إلى رجل واحد قيل لم يكن نبياً ، ولكنه كان عبداً صالحاً ، وروي أن اليسع جمع بني إسرائيل فقال من يتكفل لي بصيام النهار وقيام الليل وأن لا يغضب وأوليه النظر للعباد بعدي ، فقام إليه شاب فقال أنا لك بذلك فراجعه ثلاثاً في كل ذلك يقول أنا لك بذلك فاستعمله ، فلما مات أليسع قام بالأمر فجاء إبليس ليغضبه وكان لا ينام إلا في القائلة فكان يأتيه وقت القائلة أياماً فيوقظه ويشتكي ظلامته ويقصد تضييق صدره فلم يضق به صدراً ومضى معه لينصفه فلما رأى إبليس ذلك غلس عنه وكفاه الله شره فسمي { ذا الكفل } لأنه تكفل بأمر فوفى به وباقي الآية بين .
عطف على { وأيوبَ } [ الأنبياء : 83 ] أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حُكماً وعلماً .
وجُمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لاشتراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى { كل من الصابرين } . جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب .
فأما صبر إسماعيل عليه السلام فقد تقرّر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم : { إني أرى في المنام أني أذبحك } فقال : { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [ الصافات : 102 ] ، وتقرر بسكناه بواد غيرِ ذي زرع امتثالاً لأمر أبيه المتلقَى من الله تعالى ، وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة .
وأما إدريس فهو اسم ( أُخْنُوخ ) على أرجح الأقوال . وقد ذكر أُخنوخ في التوراة في سفر التكوين جَدّاً لنوح . وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صدّيق نبيء وقد وصفه الله تعالى هنا فليعدَّ في صف الصابرين . والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب . وقد عُدت من صبره قصص ، منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم .
وأما ذو الكِفْل فهو نبيء اختُلف في تعيينه ، فقيل هو إلياس المسمّى في كتب اليهود ( إيليا ) .
وقيل : هو خليفَة اليَسع في نبوءة بني إسرائيل . والظاهر أنه ( عُوبديا ) الذي له كتاب من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثني عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار .
والكفْل بكسر الكاف وسكون الفاء ، أصله : النصيب من شيء ، مشتق من كَفلَ إذا تعهد . لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع . وذلك أن اليسع لما كبُر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال : من يتكفل لي بثلاث أستخلفه : أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب . فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه ( عُوبديا ) ، وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين . وقد عُد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره ( انظر سفر الملوك الأول الإصحاح 18 . ورؤيا عوبديا صفحة 891 من الكتاب المقدس ) . وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيئاً . وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بإسماعيل بن إبراهيم صادق الوعد، وبإدريس... وبذي الكفل: رجلاً تكفل من بعض الناس، إما من نبيّ وإما من ملك من صالحي الملوك بعمل من الأعمال، فقام به من بعده، فأثني الله عليه حسن وفائه بما تكفل به وجعله من المعدودين في عباده، مع من حمد صبره على طاعة الله...
ونُصِبَ «إسماعيل» و «إدريس» و «ذا الكفل»، عطفا على «أيوب»، ثم استؤنف بقوله:"كُلّ" فقال: "كُلّ مِنَ الصّابِرِينَ "ومعنى الكلام: كلهم من أهل الصبر فيما نابهم في الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} يشبه أن يكون ذو الكفل اسما من أسمائه، وجائز أنه سمي ذا الكفل لأمر كان منه، ذكر أنه كان رجلا صالحا، فكفل لنبي بأمر قومه، فوفى ما تكفل به، فسمي لذلك ذا الكفل. ثم اختلف فيه. قال بعضهم: هو رجل صالح على ما ذكرنا. وقال بعضهم: كان نبيا. ولسنا نعلم ذلك سوى أنه ذكر أنه {من الصابرين} سماهم صابرين على الإطلاق، وذلك، والله أعلم، لأنهم جمعوا جميع أنواع الصبر وجميع أنواع الصلاح، والله أعلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ} على أمر الله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "واسماعيل وإدريس وذا الكفل "أي اذكر هؤلاء الذين عددتهم لك من الأنبياء، وما أنعمت عليهم من فنون النعمة. ثم أخبر أنهم كانوا كلهم "من الصابرين" يصبرون على بلاء الله، والعمل بطاعته، دون معاصيه.
واختلفوا في ذي الكفل، فقال أبو موسى الأشعري، وقتادة، ومجاهد: كان رجلا صالحا، كفل لنبي بصوم النهار، وقيام الليل، وألا يغضب، ويقضي بالحق، فوفى لله بذلك، فأثنى الله عليه. وقال قوم: كان نبيا، كفل بأمر وفى به. وقال الحسن: هو نبي اسمه ذو الكفل. وقال الجبائي: هو نبي، ومعنى وصفه بالكفل أنه ذو الضِّعف: أي ضعف ثواب غيره ممن في زمانه لشرف عمله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
[{وذا الكفل}] قيل في ذي الكفل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع بن نون...كأنه سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{مِنَ الصَّابِرِينَ} والصبر: هو حبس النفس ومنعها، مما تميل بطبعها إليه، وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يستحق العبد اسم الصبر التام، حتى يوفي هذه الثلاثة حقها. فهؤلاء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قد وصفهم الله بالصبر، فدل أنهم وفوها حقها، وقاموا بها كما ينبغي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يشير السياق مجرد إشارة إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل:
وإسماعيل وإدريس وذا الكفل. كل من الصابرين. وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين..
فهو عنصر الصبر كذلك يشير إليه في قصص هؤلاء الرسل.
فأما إسماعيل فقد صبر على ابتلاء ربه له بالذبح فاستسلم لله وقال: (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين).
وأما إدريس فقد سبق إن زمانه مجهول وكذلك مكانه... فلنعلم أنه كان من الصابرين على نحو من أنحاء الصبر الذي يستحق التسجيل في كتاب الله الباقي.
وأما ذو الكفل فهو كذلك مجهول لا نملك تحديد زمانه ولا مكانه. والأرجح أنه من أنبياء بني إسرائيل. وقيل: إنه من صالحيهم، وأنه تكفل لأحد أنبيائهم قبل موت هذا النبي، بأن يخلفه في بني إسرائيل على أن يتكفل بثلاث: أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب في القضاء. فوفى بما تكفل به وسمي ذا الكفل لذاك -ولكن هذه ليست سوى أقوال لا دليل عليها. والنص القرآني يكفي في هذا الموضع لتسجيل صفة الصبر لذي الكفل.