اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (85)

قوله تعالى : { وَإِسْمَاعِيلَ } يعني ابن إبراهيم ، { وَإِدْرِيسَ } وهو اخنوخ { وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين } . لما ذكر صبر أيوب{[29334]} أتبعه بذكر هؤلاء ، فإنهم أيضاَ كانوا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة . أما إسماعيل فصبر على الانقياد للذبح ، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء ، وصبر في بناء البيت فأكرمه الله وأخرج من صلبه خاتم النبيين . وأما إدريس فتقدمت قصته في سورة مريم{[29335]} قال ابن عمر : «بعث إلى قومه داعياً إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ، ورفع إدريس السماء السابعة » وأما ذو الكفل قال الزجاج : الكفلُ في اللغة الكساء{[29336]} الذي يجعل على عجز البعير{[29337]} والكفل أيضاً : النصيب قال تعالى : { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا }{[29338]} أي : نصيب{[29339]} . واختلفوا في تسميته بهذا الاسم ، فقال الحسن : كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه ، وضعف ثوابهم . وقال ابن عباس : إن نبياً من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك ، فاعرض الملك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار ولا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه ، ففعل ذلك فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا{[29340]} . وَوَفَى به ، فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل . وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة ، لأنه تكفل بأمور فوفى بها .

وقال مجاهد : ما كبر اليسع- عليه السلام{[29341]}- قال : لو أني استخلفت رجلاً على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس ، فقال من يتقبل مني ثلاثاً أستخلفه{[29342]} : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ويقضي فلا يغضب ، فقام رجل تزدريه العين فقال : أنا . فرده ذلك اليوم ، وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا . فاستخلفه . فأتاه إبليس في صورة شيخ حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة . فذق الباب فقال : من هذا ؟ فقال : شيخ كبير مظلوم ، فقال : افتح الباب . فقال : إنّ بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا وجعل يطول حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة . فقال : إذا رحت فأتني آخذ حقك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره ، فلما كان الغد يقضي بين الناس ينظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة أخذ مضجعه أتاه ، فدق الباب ، فقال من هذا ؟ فقال : الشيخ المظلوم ، ففتح له ، فقال : أقيل ، فإذا قعدت فأتني ، فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد ، قالوا : نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني . قال : فانطلق : فإذا رحت فأتني ، فأتته القائلة ، فراح فجعل ينظر ولا يراه ، وشق عليه النعاس . فقال للبواب في اليوم الثالث : قد غلب عليّ النعاس فلا تدع أحداً يقرب من هذا الباب حتى أنام ، فجاء إبليس في تلك الساعة ، فلم يأذن له الرجل فدخل في كُوَّة{[29343]} في البيت ، فتسور منها{[29344]} ودق الباب من داخل ، فاستيقظ وعاتب البواب ، فقال : أما من قبلي فلم يأت ، فانظر من أين أتيت ، فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في التي ، فقال له : أتنام والخصوم ببابك . فقال : أنت إبليس . قال : نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال بك ، فعصمك الله مني ، فسمي ذا الكفل ، لأنه تكفل بأمر فوقى به ، وقيل غير ذلك{[29345]} .

فصل{[29346]}

قال أبو موسى الأشعري{[29347]} ومجاهد : ذو الكفل لم يكن نبياً بل كان عبداً صالحاً . وقال الحسن والأكثرون كان نبياً ، وهو الأظهر ، لأنه تعالى قرن ذكره بإسماعيل وإدريس ، والغرض ذكر الفضلاء من عباده ، فدلّ ذلك على نبوته ، ولأن السورة ملقبة بسورة الأنبياء ، ولأنَّ قوله : { دُو الكِفْلِ } يحتمل أن يكون لقباً ، وأن يكون اسماً ، والأولى أن يكون اسماً ، لأنه أكثر فائدة من اللقب ، وإذا ثبت ذلك ، فالكِفْلُ هو النصيب ، لقوله تعالى { يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا }{[29348]} . والظاهر أنّ الله تعالى سماه بذلك تعظيماً له ، فوجب أن يكون الكفل هو كفل الثواب ، فسمي بذلك ، لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ، وقد كان في زمنه أنبياء على ما روي .

فصل{[29349]}

قيل : إن ذا{[29350]} الكفل زكريا . وقيل : يوشع . وقيل : إلياس . ثم قالوا : خمسة من الأنبياء- عليهم السلام-{[29351]} سماهم الله باسمين إسرائيل ويعقوب وإلياس وذا الكفل ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذا النون ، ومحمداً وأحمد .

قوله : { كُلّ مِنَ الصَّابِرِيْنَ } أي : على القيام بأمر الله ، واحتمال الأذى في نصرة دينه .


[29334]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/210-211.
[29335]:عند قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا}، انظر اللباب 5/325.
[29336]:في النسختين: اللعب، والصواب ما أثبته.
[29337]:وهنا زيادة في ب بعد قوله: على عجز البعير: قال ابن الأثير: هو كساء يكون حول سنام البعير، ثم يركب، فذلك هو الكساء، هو الكفل وهو بكسر الكاف وإسكان الفاء، فأصله من الكفل بفتح الفاء. انظر النهاية في غريب الحديث 4/192. وابن الأثير: هو المبارك بن محمد بن عبد الكريم الشيباني المشهور بابن الأثير من مشاهير العلماء وأكابر النبلاء، أخذ النحو عن ابن الدهان ويحيى بن سعدون القرطبي، ومن مصنفاته: النهاية في غريب الحديث، البديع في النحو، تهذيب فصول ابن الدهان، وغير ذلك، مات سنة 606 هـ. بغية الوعاة 2/274-275.
[29338]:من قوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} [النساء: 85].
[29339]:معاني القرآن وإعرابه 3/401-402.
[29340]:في ب: بهذا التكفل.
[29341]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29342]:استخلفه: سقط من ب.
[29343]:الكوة: الخرق في الحائط، والثقب في البيت ونحوه. اللسان (كوى).
[29344]:تسور الحائط: تسلقه. اللسان (سور).
[29345]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/210-211.
[29346]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/211 بتصرف.
[29347]:هو عبد الله بن قيس بن سليمان، الأشعري أبو موسى، أخذ عنه ابن المسيب وأبو وائل، وأبو عثمان النهدي، وغيرهم، قيل: إنه مات سنة 42 هـ. خلاصة تذهيب تذهيب الكمال 2/89.
[29348]:[النساء: 85].
[29349]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/211-212.
[29350]:في ب: ذوا. وهو تحريف.
[29351]:في ب: عليهم الصلاة والسلام.