{ أن اعبدوا الله واتقوه واطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم } من صلة ، أي : يغفر لكم ذنوبكم . وقيل : يعني ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان ، وذلك بعض ذنوبهم ، { ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي : بما فيكم إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم ، { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون } يقول : آمنوا قبل الموت ، تسلموا من العذاب ، فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولا يمكنكم الإيمان .
فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم ، وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب ، والفوز بالثواب ، { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : يمتعكم في هذه الدار ، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي : مقدر [ البقاء في الدنيا ] بقضاء الله وقدره [ إلى وقت محدود ] ، وليس المتاع أبدا ، فإن الموت لا بد منه ، ولهذا قال : { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } لما كفرتم بالله ، وعاندتم الحق ، فلم يجيبوا لدعوته ، ولا انقادوا لأمره
ثم بين لهم ما يترتب على إخلاص عبادتهم لله ، وخشيتهم منه - سبحانه - وطاعتهم لنبيهم فقال : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } .
وقوله : { يَغْفِرْ } مجزوم فى جواب الأوامر الثلاثة ، و { من } للتبعيض أى : يغفر لكم بعض ذنوبكم ، وهى تلك التى اقترفوها قبل إيمانهم وطاعتهم لنبيهم ، أو الذنوب التى تتعلق بحقوق الله - تعالى - دون حقوق العباد .
ويرى بعضهم أن " من " هنا زائدة لتوكيد هذه المغفرة . أى : يغفر لكم جميع ذنوبكم التى فرطت منكم ، متى آمنتم واتقيتم ربكم ، وأطعتم نبيكم .
{ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أى : ويؤخر آجالكم إلى وقت معين عنده - سبحانه - ويبارك لكم فيها ، بأن يجعلها عامرة بالعمل الصالح ، وبالحياة الآمنة الطيبة .
فأنت ترى أن نوحا - عليه السلام - قد وعدهم بالخير الأخروى وهو مغفرة الذنوب يوم القيامة ، وبالخير الدنيوى وهو البركة فى أعمارهم ، وطول البقاء فى هناء وسلام .
قال ابن كثير : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أى : ويمد فى أعماركم ، ويدرأ عنكم العذاب ، الذى إذا لم تنزجروا عما أنهاكم عنه : أوقعه - سبحانه - بكم .
وقد يستدل بهذه الآية من يقول : إن الطاعة والبر وصلة الرحم . يزاد بها فى العمر حقيقة ، كما ورد به الحديث : " صلة الرحم تزيد فى العمر " .
وقوله : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } بمنزلة التعليل لما قبله . أى : يغفر لكم - سبحانه - من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل معين عنده - تعالى - إن الوقت الذى حدده الله - عز وجل - لانتهاء أعماركم ، متى حضر ، لا يؤخر عن موعده ، { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } . أى : لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به . لكنكم لستم من أهله فى شئ ، لذا لم تسارعوا ، فجواب لو مما يتعلق بأول الكلام .
ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره . أى : لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك ، أى : عدم تأخير الأجل إذا جاء وقته المقدر له . والفعل فى الوجهين منزل منزلة اللازم .
وقوله : يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ يقول : يغفر لكم ذنوبكم .
فإن قال قائل : أَوَليست «من » دالة على البعض ؟ قيل : إن لها معنيين وموضعين ، فأما أحد الموضعين فهو الموضع الذي لا يصلح فيه غيرها . وإذا كان ذلك كذلك لم تدلّ إلا على البعض ، وذلك كقولك : اشتريت من مماليكك ، فلا يصلح في هذا الموضع غيرها ، ومعناها : البعض ، اشتريت بعض مماليكك ، ومن مماليكك مملوكا . والموضع الاَخر : هو الذي يصلح فيه مكانها عن فإذا ، صلحت مكانها «عن » دلت على الجميع ، وذلك كقولك : وجع بطني من طعام طعِمته ، فإن معنى ذلك : أوجع بطني طعام طعمته ، وتصلح مكان «من » عن ، وذلك أنك تضع موضعها «عن » ، فيصلح الكلام فتقول : وجع بطني عن طعام طعمته ، ومن طعام طعمته ، فكذلك قوله : يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ إنما هو : ويصفح لكم ، ويعفو لكم عنها وقد يحتمل أن يكون معناها يغفر لكم من ذنوبكم ما قد وعدكم العقوبة عليه . فأما ما لم يعدكم العقوبة عليه فقد تقدّم عفوه لكم عنها .
وقوله : وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أجَل مُسَمّى يقول : ويؤخّر في آجالكم فلا يهلككم بالعذاب ، لا بغَرَق ولا غيره إلى أجل مسمى يقول إلى حين كتب أنه يبقيكم إليه ، إن أنتم أطعتموه وعبدتموه ، في أمّ الكتاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إلى أجَل مُسَمّى قال : ما قد خطّ من الأجل ، فإذا جاء أجل الله لا يؤخّر .
وقوله : إنّ أجَلَ اللّهِ إذَا جاءَ لا يُؤَخّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقول تعالى ذكره : إن أجل الله الذي قد كتبه على خلقه في أمّ الكتاب إذا جاء عنده لا يؤخر عن ميقاته ، فينظر بعده لو كنتم تعلمون يقول : لو علمتم أن ذلك كذلك ، لأنبتم إلى طاعة ربكم .
يغفر لكم من ذنوبكم يغفر لكم بعض ذنوبكم وهو ما سبق فإن الإسلام يجبه فلا يؤاخذكم به في الآخرة ويؤخركم إلى أجل مسمى هو أقصى ما قدر لكم بشرط الإيمان والطاعة إن أجل الله إن الأجل الذي قدره إذا جاء على الوجه المقدر به آجلا وقيل إذا جاء الأجل الأطول لا يؤخر فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير لو كنتم تعلمون لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك وفيه أنهم لانهماكهم في حب الحياة كأنهم شاكون في الموت .
و { يغفر } جواب الأمر وقوله تعالى : { من ذنوبكم } قال قوم { من } زائدة ، وهذا نحو كوفي ، وأما الخليل وسيبويه فلا يجوز عندهم زيادتها في الواجب ، وقال قوم : هي لبيان الجنس ، وهذا ضعيف لأنه ليس هنا جنس يبين ، وقال آخرون هي بمعنى «عن » . وهذا غير معروف في أحكام «من » ، وقال آخرون : هي لابتداء الغاية وهذا قول يتجه كأنه يقول يبتدئ الغفران من هذه الذنوب العظام التي لهم . وقال آخرون : هي للتبعيض ، وهذا عندي أبين الأقوال ، وذلك أنه لو قال : «يغفر لكم ذنوبكم » لعم هذا اللفظ ما تقدم من الذنوب وما تأخر عن إيمانهم ، والإسلام إنما يجبُّ ما قبله ، فهي بعض من ذنوبهم ، فالمعنى يغفر لكم ذنوبكم ، وقال بعض المفسرين : أراد { يغفر لكم من ذنوبكم } المهم الموبق الكبير لأنه أهم عليهم ، وبه ربما كان اليأس عن الله قد وقع لهم وهذا قول مضمنه أن { من } للتبعيض والله تعالى الموفق . وقرأ أبو عمرو : { يغفر لكم } بالإدغام ، ولا يجيز ذلك الخليل وسيبويه ، لأن الراء حرف مكرر ، فإذا أدغم في اللام ذهب التكرير واختل المسموع . وقوله تعالى : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } مما تعلق المعتزلة به في قولهم : إن للإنسان أجلين ، وذلك أنهم قالوا : لو كان واحداً محدوداً لما صح التأخير ، إن كان الحد قد بلغ ولا المعاجلة إن كان الحد لم يبلغ .
قال القاضي أبو محمد : وليس لهم في الآية تعلق ، لأن المعنى أن نوحاً عليه السلام ، لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل ؟ ولا قال لهم : إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم ، لكن قد سبق في الأزل أنهم إما ممن قضى لهم بالإيمان والتأخير وإما ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة ، فكأن نوحاً عليه السلام قال لهم : آمنوا يبين لكم أنكم ممن قضي لهم بالإيمان والتأخير ، وإن بقيتم فسيبين لكم أنكم ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة ثم تشدد هذا المعنى ولاح بقوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } . وقد حكى مكي القول بالأجلين ولم يقدره قدره ، وجواب { لم } ، مقدر يقتضيه اللفظ كأنه قال : فما كان أحزمكم أو أسرعكم إلى التوبة { لو كنتم تعلمون } .
{ يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى }
وجَزْمُ { يغفر لكم من ذنوبكم } في جواب الأوامر الثلاثة { اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } ، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم . وهذا وعد بخير الآخرة .
وحرف { مِن } زائد للتوكيد ، وهذا من زيادة { مِن } في الإيجاب على رأي كثير من أيمة النحو مثل الأخفش وأبي علي الفارسي وابن جنيّ من البصريين وهو قول الكسائي وجميععِ نحاة الكوفة . فيفيد أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإِسلام .
ويجوز أن تكون { مِن } للتبعيض ، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتزاني ، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم ، أي ذنوب الإِشراك وما معه ، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة ، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية ، ومغفرةُ الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله . وقال ابن عطية : معنى التبعيض : مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد . وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشتمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر { مِن } التبعيضية اقتصاداً في الكلام بالقدر المحقق .
وأما قوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته ، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإِنسان حُب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارضَ ومكدرات . وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإِنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع . قال المعري :
وكلّ يريدُ العيشَ والعيشُ حَتفُه *** ويستعْذِبُ اللذاتِ وهي سِمَام
والتأخيرُ : ضد التعجيل ، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع في أجل الشيء .
وقد أشعر وعدُه إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم ، أي مجموع قومه لأنه جُعل جزاءً لكل من عَبدَ الله منهم واتقاه وأطاع الرسول ، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم ، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله : { أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } [ نوح : 1 ] كما تقدم آنفاً ، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود ( 38 ) { ويصنَعُ الفلك وكلَّما مرّ عليه ملأ من قومه سَخِروا منه } أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه وهو أمر الطوفان ، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم . والمعنى : ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة .
والأجل المسمى : هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقةِ كل أحد منهم ، فالتنوين في { أجل } للنوعية ، أي الجنس ، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى : { ومنكم من يتوفى ومنكم من يُرَدّ إلى أرذل العمر } [ الحج : 5 ] .
ومعنى { مسمى } أنه محدد معيّن وهو ما في قوله تعالى : { وأجل مسمى عنده } في سورة الأنعام ( 2 ) .
فالأجل المسمى : هو عمر كل واحد ، المعيّنُ له في سَاعةِ خلْقه المشار إليه في الحديث أن المَلَك يؤمر بكتب أجل المخلوق عندما يَنفُخ فيه الروحَ ، واستعيرت التسمية للتعيين لشَبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال .
والمعنى : ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعاً فيؤخر كل أحد إلى أجله المعيّن له على تفاوت آجالهم .
فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود ( 3 ) { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتّعْكم متاعاً حسناً إلى أجللٍ مسمّى } وهي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
{ إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تعلمون } .
يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلاً لقوله : { ويؤخرْكم إلى أجل مسمى } ، أي تعليلاً للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله : { أن اعبدوا الله } إلى قوله : { ويؤخِّركم } الخ لأن الربط بين الأمْر وجوابِه يعطي بمفهومه معنى : إِنْ لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى ، فعُلل هذا الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة { إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر } ، أي أن الوقت الذي عيّنه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إِبَّانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإِيمان ساعتئذٍ ، كما قال تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس : 98 ] ، فيكون هذا حثاً على التعجيل بعبادة الله وتقواه .
فالأجَل الذي في قوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } غير الأجل الذي في قوله : { ويؤخركم إلى أجللٍ مسمى } ويُناسِب ذلك قولُه عقبه { لو كنتم تعلمون } المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعيَّنة لاستئصالهم ، وأما عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين . وفي إضافة { أجل } إلى اسم الجلالة في قوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عيّنه الله للقوم إنذاراً لهم ليؤمنوا بالله . ويحتمل أن تكون الجملة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى ، أي دون تأخيرهم تأخيراً مستمراً فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في قوله : { إلى أجل مسمى } .
ويحتمل أن تكون الجملة تعليلاً لكلا الأجلين : الأجل المفاد من قوله : { من قبل أن يَأتيهُم عذابٌ أليم } [ نوح : 1 ] فإن لفظ { قبل } يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مُبْهم غير بعيد ، والأجَل المذكورِ بقوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } فيكون أجل الله صادقاً على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم .
وإضافته إلى الله إضافة كشف ، أي الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد .
وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } وبين قوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } إما لاختلاف المراد بلفظيّ ( الأجل ) في قوله : { إلى أجل مسمى } وقوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، } وإما لاختلاف معنيي المجيء ومعنيي التأخير في قوله : { إذا جاءَ لا يؤخر } فانفكت جهة التعارض .
أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإِنسان أجل واحد أو أجلان فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين : أصل العلم الإلهي بما سيكون ، وأصل تقدير الله للأسباب وترتُّب مسبباتها عليها .
فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى : { وما يعمَّر من معمَّر ولا يُنقص من عمره إلاّ في كتاب } [ فاطر : 11 ] أي في علم الله ، والناس لا يطلعون على ما في علم الله .
وأما وجودُ الأسباب كلها كأسباب الحياة ، وترتبُ مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيِّراتتٍ لم تكن موجودة إكراماً لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر . وفي الحديث صدقة المرء المُسلم تزيد في العُمر . وهو حديث حسن مقبول . وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن يُمد في عمره فليتق الله وليصِل رحمه . وسنده جيد . فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركاتها قابلة للزيادة والنقص . وآجال العقوبات الإلهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مُهلة غير قابلة للتأخير وهي ما صْدَقُ قوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } وقد قال الله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } [ الرعد : 39 ] على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج .
فالذي رغَّب نوحٌ قومَه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرتْ آجالهم وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول ، وإذ لم يفعلوه فقد كُشف للناس أن الله علم إنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم ، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « اعملُوا فكل مُيسَّر إلى ما خُلق له » وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي .
وفي إقحام فعل { كنتم } قبل { تعلمون } إيذان بأن علمهم بذلك المنتفيَ لوقوعه شرطاً لحرف { لو } محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى : { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم } في سورة يونس ( 2 ) .
وجواب لو } محذوف دل عليه قوله : { لا يؤخَّر } . والتقدير : لأيقنتم أنه لا يؤخر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فإذا فعلتم {يغفر لكم من ذنوبكم} يقول: يغفر لكم ذنوبكم.
{ويؤخركم إلى أجل مسمى} يعني إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم بالسنين ولا بغيره. {إن أجل الله} في العذاب في الدنيا وهو الغرق.
{إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} ولكنكم لا تعلمون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ": يغفر لكم ذنوبكم... ويصفح لكم، ويعفو لكم عنها. وقد يحتمل أن يكون معناها: يغفر لكم من ذنوبكم ما قد وعدكم العقوبة عليه، فأما ما لم يعدكم العقوبة عليه فقد تقدّم عفوه لكم عنها...
"وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أجَل مُسَمّى": ويؤخّر في آجالكم فلا يهلككم بالعذاب، لا بغَرَق ولا غيره.
"إلى أجل مسمى": إلى حين كتب أنه يبقيكم إليه، إن أنتم أطعتموه وعبدتموه، في أمّ الكتاب.
عن مجاهد، في قول الله: إلى أجَل مُسَمّى قال: ما قد خطّ من الأجل، فإذا جاء أجل الله لا يؤخّر.
"إنّ أجَلَ اللّهِ إذَا جاءَ لا يُؤَخّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ": إن أجل الله الذي قد كتبه على خلقه في أمّ الكتاب إذا جاء عنده لا يؤخر عن ميقاته، فينظر بعده.
"لو كنتم تعلمون": لو علمتم أن ذلك كذلك، لأنبتم إلى طاعة ربكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يغفر لكم من ذنوبكم} إن صرفت قوله: {واتقوه} إلى اتقاء الشرك يرجع قوله: {يغفر لكم من ذنوبكم} إلى ما سلف من الذنوب في حالة الشرك كقوله عز وجل: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] وإن صرفته على سائر وجوه المهالك رجع إلى السالف وإلى الآنف جميعا، وهو كقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}. [هود: 114] فيكون...
{ويؤخركم إلى أجل مسمى} فجائز أن يكون أولئك القوم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام فيخرج قوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} مخرج الأمان لهم: أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم، لو لم يؤمنوا؛ إذ يكون معناه: أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى انقضاء أجلكم المسمى سالمين آمنين، لا يتهيأ لعدوكم أن يمكروا بكم.
وقوله تعالى: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} كقوله في موضع آخر: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34]. وجائز أن يكون قوله: {لا يستأخرون} أي لا يتأخرون عن آجالهم، أو لا يؤخرون بما يطلبون من التأخير، فيكون في هذا إياس لهم أنهم لا يؤخرون إذا طلبوا التأخير...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} يقول: آمنوا قبل الموت، تسلموا من العذاب، فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولا يمكنكم الإيمان.
ما الفائدة في قوله {لو كنتم تعلمون}؟
الجواب: الغرض الزجر عن حب الدنيا، وعن التهالك عليها والإعراض عن الدين بسبب حبها، يعني أن غلوهم في حب الدنيا وطلب لذاتها بلغ إلى حيث يدل على أنهم شاكون في الموت.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإنسان محل النقصان، فلا ينفك عن ذنب فلا ينفعه إلا فناء الكرم، أشار إلى ذلك مرغباً مستعطفاً لهم لئلا ييأسوا فيهلكوا بقوله جواباً للأمر: {يغفر لكم} أي كرماً منه وإحساناً ولطفاً. ولما كان من الذنوب ما لا يتحتم غفرانه وهو ما بعد الإسلام قال: {من ذنوبكم} أي ما تقدم الإيمان من الشرك والعصيان وما تأخر عن الإيمان من الصغائر التي تفضل الله بالوعد بتكفيرها باجتناب الكبائر -هذا مما أوجبه سبحانه على نفسه المقدس بالوعد الذي لا يبدل، وأما غيره مما عدا الشرك فإلى مشيئته سبحانه. ولما كان الإنسان، لما يغلب عليه من النسيان، والاشتغال بالآمال، يعرض عن الموت إعراض الشاك فيه بل المكذب به ذكرهم ترهيباً لهم لطفاً بهم ليستحضروا أنهم في القبضة فينزعوا مما يغضبه سبحانه، فقال مشيراً إلى أن طول العمر في المعصية- وإن كان مع رغد العيش -عدم، مهدداً بأنه قادر على الإهلاك في كل حين: {ويؤخركم} أي تأخيراً ينفعكم، واعلم أن الأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص، ليعلم أن الإرسال إنما هو مظهر لما في الكيان ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة أو العصيان فقال: {إلى أجل مسمى} أي قد سماه الله وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، فيكون موتكم على العادة متفرقاً وإلا أخذكم جميعاً بعذاب الاستئصال، فهذا من علم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، و ذلك أنه علم أنهم إن أطاعوا نوحاً عليه السلام كان موتهم على العادة وإلا هلكوا هلاك نفس واحدة، وعلم أنهم لا يطيعونه، وأن موتهم إنما يكون بعذاب الاستئصال.
ولما كان الإنسان مجبولاً على الأطماع الفارغة، فكان ربما قال للتعنت أو غيره: لم لا يخلدنا؟ قال فطماً عن ذلك مؤكداً لاقتضاء المقام له: {إن أجل الله} أي الذي له الكمال كله فلا راد لأمره {إذا جاء لا يؤخر} وأما قبل مجيئه فربما يقع الدعاء و الطاعات والبر في البركة فيه يمنع الشواغل وإطابة الحياة، فبادروا مجيء الأجل بالإيمان لأنه إذا جاء لم يمكنكم التدارك، ولا ينفعكم بعد العيان الإيمان. ولما كان من يعلم هذا يقيناً، ويعلم أنه إذا كشف له عند الغرغرة أحب أن يؤخر ليتوب حين لا تأخير، أحسن العمل خوفاً من فوات وقته وتحتم مقته، نبه على ذلك بقوله: {لو كنتم تعلمون} أي لو كان العلم أو تجدده وقتاً ما في غرائزكم لعلمتم تنبيه رسولكم صلى الله عليه وسلم أن الله يفعل ما يشاء، وأن الأجل آت لا محالة فعملتم للنجاة، ولكنكم تعملون في الانهماك في الشهوات عمل الشاك في الموت.