قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه ، فأنزل الله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } .
قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : { عقدتم } بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر ( عاقدتم ) بالألف ، وقرأ الآخرون ( عقدتم ) بالتشديد ، أي : وكدتم ، والمراد من الآية قصدتم وتعمدتم .
قوله تعالى : { فكفارته } ، أي : كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم .
قوله تعالى : { إطعام عشرة مساكين } ، واختلفوا في قدره ، فذهب قوم إلى أنه يطعم كل مسكين مداً من الطعام ، بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد ، وكذلك في جميع الكفارات ، وهو قول زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والقاسم ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، والحسن ، وقال أهل العراق : لكل مسكين مدان ، وهو نصف صاع ، يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع ، وإن أطعم من غيرها فصاع ، وهو قول الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحكم ، ولو غداهم وعشاهم لا يجوز . وجوزه أبو حنيفة رضي الله عنه ، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه . ولا تجوز الدراهم والدنانير ، ولا الخبز ولا الدقيق ، بل يجب إخراج الحب إليهم ، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه كل ذلك . ولو صرف الكل إلى مسكين واحد لا يجوز ، وجوز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام ، ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم ، حر ، محتاج ، فإن صرف إلى ذمي أو عبد ، أو غني ، لا يجوز . وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرفها إلى أهل الذمة . واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز .
قوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ، أي من خير قوت عيالكم ، وقال عبيدة السلماني : الأوسط الخبز والخل ، والأعلى الخبز واللحم ، والأدنى الخبز البحت ، والكل مجز .
قوله تعالى : { أو كسوتهم } ، كل من لزمته كفارة اليمين فهو فيها مخير إن شاء أطعم عشرة من المساكين ، وإن شاء كساهم ، وإن شاء أعتق رقبة ، فإن اختار الكسوة فاختلفوا في قدرها ، فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوباً واحداً مما يقع عليه اسم الكسوة ، إزار أو رداء ، أو قميص أو عمامة ، أو كساء أو نحوها ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاووس ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى . وقال مالك : يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته ، فيكسو الرجال ثوباً واحداً ، والنساء ثوبين : درعاً وخماراً . وقال سعيد بن المسيب : لكل مسكين ثوبان .
قوله تعالى : { أو تحرير رقبة } ، وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة ، وكذلك جميع الكفارات ، مثل كفارة القتل ، والظهار ، والجماع في نهار رمضان ، يجب فيها إعتاق رقبة مؤمنة ، وأجاز أبو حنيفة رضي الله عنه والثوري رضي الله عنه إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها ، إلا في كفارة القتل ، لأن الله تعالى قيد الرقبة فيها بالإيمان ، قلنا : المطلق يحمل على المقيد ، كما أن الله تعالى قيد الشهادة بالعدالة في موضع فقال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ، وأطلق في موضع ، فقال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة :282 ] ، ثم العدالة شرط في جميعها حملاً للمطلق على المقيد ، كذلك هذا ، ولا يجوز إعتاق المرتد بالإنفاق عن الكفارة ، ويشترط أن يكون سليم الرق ، حتى لو أعتق عن كفارته مكاتباً ، أو أم ولد ، أو عبد ، اشترى بشرط العتق ، أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة يعتق ، ولكن لا يجوز عن الكفارة ، وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئاً من النجوم ، وعتق القريب عن الكفارة ، ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً ، حتى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين ، أو إحدى الرجلين ، ولا الأعمى ، ولا الزمن ، ولا المجنون المطبق ، ويجوز الأعور ، والأصم ، ومقطوع الأذنين والأنف ، لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضرراً بيناً ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : كل عيب يفوت جنساً من المنفعة يمتنع الجواز ، حتى جوز مقطوع إحدى اليدين ، ولم يجوز مقطوع الأذنين .
قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ، إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الطعام والكسوة ، وتحرير الرقبة ، يجب عليه صوم ثلاثة أيام ، والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله ، وحاجته ، ما يطعم أو يكسو أو يعتق ، فإنه يصوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام ، هو قول الحسن وسعيد بن جبير . واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم ، فذهب جماعة إلى أنه لا يجب فيه التتابع ، بل إن شاء تابع وإن شاء فرق ، والتتابع أفضل ، وهو أحد قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى أنه يجب فيه التتابع قياساً على كفارة القتل والظهار ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه صيام ثلاثة أيام متتابعات .
قوله تعالى : { ذلك } ، أي : ذلك الذي ذكرت .
قوله تعالى : { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } ، وحنثتم ، فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث . واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث ، فذهب قوم إلى جوازه ، لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) . وهو قول عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن ، وابن سيرين ، وإليه ذهب مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، إلا أن الشافعي يقول : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز ، لأنه بدني ، وإنما يجوز بالإطعام ، أو الكسوة ، أو العتق ، كما يجوز تقديم الزكاة على الحول ، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته ، وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه .
قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } ، قيل : أراد به ترك الحلف ، أي : لا تحلفوا ، وقيل : هو الأصح ، أراد به : إذا حلفتم فلا تحنثوا ، فالمراد منه حفظ اليمين عن الحنث ، هذا إذا لم يكن يمينه على ترك مندوب ، أو فعل مكروه ، فإن حلف على فعل مكروه ، أو ترك مندوب ، فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا حجاج بن منهال ، أنا جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير ) .
{ 89 } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ }{[277]}
أي : في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو ، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد ، أو عقدها يظن صدق نفسه ، فبان بخلاف ذلك . { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } أي : بما عزمتم عليه ، وعقدت عليه قلوبكم . كما قال في الآية الأخرى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } { فَكَفَّارَتُهُ } أي : كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ }
وذلك الإطعام { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } أي : كسوة عشرة مساكين ، والكسوة هي التي تجزئ في الصلاة . { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع ، فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة فقد انحلت يمينه .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } واحدا من هذه الثلاثة { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ } المذكور { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } تكفرها وتمحوها وتمنع من الإثم .
{ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } عن الحلف بالله كاذبا ، وعن كثرة الأيمان ، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها ، إلا إذا كان الحنث خيرا ، فتمام الحفظ : أن يفعل الخير ، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير .
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } المبينة للحلال من الحرام ، الموضحة للأحكام . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } اللهَ حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون . فعلى العباد شكر الله تعالى على ما منَّ به عليهم ، من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها .