قوله تعالى : { إن الذين لا يرجون لقاءنا } ، أي : لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا . والرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع ، { ورضوا بالحياة الدنيا } ، فاختاروها وعملوا لها ، { واطمأنوا بها } : سكنوا إليها . { والذين هم عن آياتنا غافلون } ، أي : عن أدلتنا غافلون لا يعتبرون . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : عن آياتنا عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { غافلون } معرضون .
القول في تأويل قوله تعالى : { إَنّ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدّنْيَا وَاطْمَأَنّواْ بِهَا وَالّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلََئِكَ مَأْوَاهُمُ النّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين لا يخافون لقاءنا يوم القيامة ، فهم لذلك مكذّبون بالثواب والعقاب ، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها ، راضون بها عوضا من الاَخرة ، مطمئنين إليها ساكنين . وَالّذِينَ هم عن آيات الله ، وهي أدلته على وحدانيته ، وحججه على عباده في إخلاص العبادة له غَافِلُونَ معرضون عنها لاهون ، لا يتأملونها تأمل ناصح لنفسه ، فيعلموا بها حقيقة ما دلتهم عليه ، ويعرفوا بها بطول ما هم عليه مقيمون . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النّارُ يقول جلّ ثناؤه : هؤلاء الذين هذه صفتهم مأواهم مصيرها إلى النار نار جهنم في الاَخرة . بِمَا كَانُوا يَكْسِبونَ في الدنيا من الاَثام والأجرام ويجترحون من السيئات . والعرب تقول : «فلان لا يرجو فلانا » : إذا كان لا يخافه . ومنه قول الله جلّ ثناؤه : ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقارا . ومنه قول أبي ذؤيب :
إذَا لَسَعَتْهُ النّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها *** وخالَفَها فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : واطْمَأنّوا بِها قال : هو مثل قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بالحَياةِ الدّنْيا واطْمأَنّوا بِها قال : هو مثل قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بالحَياةِ الدّنْيا واطْمأَنّوا بِها وَالّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ قال : إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح ، ولها يحزن ، ولها يسخط ، ولها يرضى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بالحَياةِ الدّنْيا واطْمأَنّوا بِها . . . الآية كلها ، قال : هؤلاء أهل الكفر . ثم قال : أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النّارُ بِمَا كانُوا يَكْسِبُوَنَ .
هذا استئناف وعيد للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعاً بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غُلوائهم حتى يلاقوا العذاب . وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتَّى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم وَالمصيرَ إليه .
ولوقوع هذه الجملة موقع الوعيد الصالح لأن يعلمه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم عدل فيها عن طريقة الخطاب بالضمير إلى طريقة الإظهار ، وجيء بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في حُصول الخبر .
وقد جُعل عنوان الذين لا يرجون لقاءنا علامة عليهم فقد تكرر وقوعه في القرآن . ومن المواقع ما لا يستقيم فيه اعتبار الموصولية إلا للاشتهار بالصلة كما سنذكر عند قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا } في هذه السورة [ 15 ] .
والرجاء : ظن وقوع الشيء من غير تقييد كون المظنون محبوباً وإن كان ذلك كثيراً في كلامهم لكنه ليس بمتعيّن . فمعنى : { لا يرجون لقاءنا } لا يظنونه ولا يتوقعونه .
ومعنى : { رضوا بالحياة الدنيا } أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة ، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياةً ناقصة فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها ، وناهيك بإخبار الصادق بها ونصب الأدلة على تعيّن حصولها ، فلهذا جعل الرضى بالحياة الدنيا مذمة ومُلقياً في مهواة الخسران .
وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضى بها يكون مقدارُ التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة . وليس ذلك بمقتض الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى والتزود لها . وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية ، وأعلاها مقام قول النبي صلى الله عليه وسلم « فقلتُ ما لي وللدنيا » والاطمئنان : السكون يكون في الجسد وفي النفس وهو الأكثر ، قال تعالى : { يأيتها النفس المطئنة } [ الفجر : 27 ] . وقد تقدم تصريف هذا الفعل عند قوله تعالى : { ولكن ليطمئن قلبي } في سورة [ البقرة : 260 ] .
ومعنى { اطمئنوا بها } سكنت أنفسهم وصرفوا هممهم في تحصيل منافعها ولم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الحياة الآخرة ، لأن السكون عند الشيء يقتضي عدم التحرك لغيره .
وعن قتادة : إذا شئت رأيت هذا الموصوفَ صاحب دنيا ، لها يرضى ، ولها يغضب ، ولها يفرح ، ولها يهتم ويحزن .
والذين هم غافلون هم عين الذين لا يرجون اللقاء ، ولكن أعيد الموصول للاهتمام بالصلة والإيماء إلى أنها وحدها كافية في استحقاق ما سيذكر بعدها من الخبر . وإنما لم يعد الموصول في قوله : { ورضوا بالحياة الدنيا } لأن الرضى بالحياة الدنيا من تكملة معنى الصلة التي في قوله : { إن الذين لا يرجون لقاءنا } .
والمراد بالغفلة : إهمال النظر في الآيات أصلاً ، بقرينة المقام والسياق وبما تومىء إليه الصلة بالجملة الاسمية { هم عن آياتنا غافلون } الدالة على الدوام ، وبتقديم المجرور في قوله { عن آياتنا غافلون } من كون غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء فليسوا من أهل الغفلة عنها مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية ، وأنهم يعتمدونها فتؤول إلى معنى الإعراض عن آيات الله وإباء النظر فيها عناداً ومكابرة . وليس المراد مَن تعرِض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات .
وأعقب ذلك باسم الإشارة لزيادة إحضاء صفاتهم في أذهان السامعين ، ولما يؤذن به مجيء اسم الإشارة مبتدأ عقب أوصاف من التنبيه على أن المشار إليه جدير بالخبر من أجْل تلك الأوصاف كقوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.